Alef Logo
ابداعات
              

"الغروب الأخير"شاعر يتنزه مع الموتى

هفال يوسف

2006-04-10

ما الذي ينبغي توفّره في شخص ما ليكون جديراً بحمل صفة «شاعر»؟
ما الذي يميّز الشاعر الكبير عن الشاعر «الصغير»؟
صفة «الصغير» مربكة، وفيها من التحقير الهجائي الكثير لذا يتمّ الاستعاضة عنها بكلمة «شاب»، لتحمل عبارة «أدب الشباب» معنىً مضمراً يفيد الضحالة والسطحية.


عادةً لغوية قوامها المؤامرة، بحيث ينبغي علينا التسامح مع كل هذا الابتذال الذي تصفع به الصفحات الثقافية وجوهنا كل يوم، فقط، لأنها كتابات «شابّة»؛ فهل العبقرية الأدبية من نصيب العجائز من سدنة معبد الشعر المقدّس فقط؟
هذه الأصولية الأبوية تثير الغثيان والرفض، وهذا العيب الاصطلاحي يثير شهيتي لإشعال الفتنة في الساحة النقدية السورية:
- ما هي معايير الأصالة والإبداع في الكتابة الشعرية؟
سؤال قديم جداً، لكن الحاجة إلى تجديده باتت ملحّة لتحرير الشعر من وثنيةٍ باتت ثقيلة جداً، وعائقاً أمام تجديد الدماء في الجسد الأدبي عموماً.
بصورة شخصية، لن أحطّم رأسي بحثاً عن جواب لأنّي أفضّل مواجهة القصيدة في عريها العذري متخلياً، بطيب خاطر، عن النظريات لأصحاب العدسات السميكة المولعين بالتصنيفات، أولئك الذين يتذوقون الشعر كما يتذوقون الأطعمة والنبيذ.
هناك حاجة للتخلّص من هذا الكسل المخجل، ومتابعة المؤلفات الجديدة، والدخول في حركة نقدية قوية لتمييز الجيد عن الرديء، ولو من باب الانصاف لأنفسنا كقرّاء، فبعض التجارب الجديدة تعبّر عن أصوات متميزة، تبشّر بولادة شعراء ينأون بأنفسهم عن الضجيج والزحام؛ فإن كان لا بدّ من الحديث عن «أزمة» تماشياً مع تأزيم كل شيء خلال العقد الأخير في نواحٍ جنائزيٍّ بائس، فلا بدّ من البحث عن أسبابها بعيداً عن «أزمة المواهب» و«مأزق الشعر» و«انعدام الإبداع» لأنّ هذه الحجج لن تصمد أمام المعطيات الواقعية؛ وغالباً ما يستخدم النقّاد والمثقفون هذه العبارات دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء القيام بأبحاث ودراسات حول الواقع الأدبي، بل برخاوةٍ منبعها العطالة والكسل.
أعتقد أن العقيدة القائلة بشحّ المواهب خاطئة تماماً، بل نحن بحاجة إلى خلق العوامل الموضوعية المساعدة على تفتّح هذه المواهب لأن البيئة الفاسدة قادرة على الفتك بأفضل البذور مهما كانت واعدة.
كانت هذه المقدمة دعوة إلى كافة النقّاد والقرّاء النهمين للبدء بتسليط الضوء على الشعراء والأدباء الجدد الذين «لا تسمح لهم رقّتهم بالظهور أمام الجمهور» كما يقول ألدوس هاكسلي، ومنهم شاعرنا الجديد علي جازو الذي اخترنا مجموعته الأولى (الغروب الكبير)·

الغروب الكبير


لم يقع اختياري على هذه المجموعة الشعرية لوضعها في متناول القرّاء عبثاً، على الرغم من اعتمادي على ذوقي الخاص، فهو الدافع الأول، والمعيار الابتدائي لتناول شاعر لم يتعرّض بعد لمشرحة النقد، كما ينصح ت. س. إليوت في مؤلفه (الشعر والشعراء)؛ ولكني أثناء قراءة المجموعة شعرت بالكثير من التعاطف، فالقصائد متخمة بألمٍ وجدانيٍّ عميق، لكنه لا يصل إلى حدود البكائية الهستيرية، بل يفتح النوافذ للأمل، ويقود إلى حالٍ من الانشراح الهادئ في انسيابية رقيقة إلى درجة أنّ الغضب –حتى- يبدو لطيفاً، وعندما يبشّر الشاعر بالغروب، داعياً إلى «حفل الغياب» يطمئن القارئ إلى أنّ الرحلة الأخيرة «نحو الأبد المغلق كبحيرةٍ رزقاء» لن يتم بضجيجٍ مرعب، بل بأنّةٍ خافتة، حيث «يهدأ كل شيء خلف زهرةٍ صغيرة»، دون أن يغلق صندوق باندورا في وجه الكائن الوحيد الكامن في قاعه، بل، وعلى الرغم من «عادة الخراب»، يبقى الأمل بالسلام والمحبة والجمال حلماً مشروعاً:
إذا كنّا نأمل...، أمامنا وقتٌ كي لا نعبث مرة أخرى.
تعطي قراءة (الغروب الكبير) شعوراً بالإيقاع الرتيب الموحي، مثل الذي يستشعره رهبان التيبيت وهم يرتّلون وِردهم الصباحي، لكن القراءة الثانية المتحررة من هذا الخدَر اللذيذ تكشف تنوعاً كبيراً يعبّر عن شخصيةٍ مركّبة تجمع الطفولة والرجولة والكهولة، والذكورة والأنوثة، والإلهي والشيطاني والإنساني، في لحظةٍ ساكنة يتمّ خلالها تبادل الأدوار، وتفشل، بالتالي، كل محاولة لتصنيف الشاعر، على الرغم من أنه يقول عن نفسه، في حوارٍ جانبي: «يسوع مثلي الأعلى، كفافيس أستاذي ونزيه أبو عفش أخي الكبير». لكن التنوع المتوفّر يتجاوز هذا التحديد بكثير، فعندما نقرأ:
أنا احتمال نفسي،
جسد المرأة مستقبل حواسّنا
والخبز، آه، نحرره بالقبلات.
سرعان ما تخطر في البال قصيدة رامبو (بوهيميتي)، ولا بدّ أن تستعيد الذاكرة حديث أبوللينير مع بائع التبغ عندما نقرأ:
في الحافلة الصغيرة البيضاء...
يدلّ الرجل زوجته على الطرق والأسماء.
.......................................
كان فقيراً وطيباً. قبّل طفله كثيراً، ومسّد شعره الأسود الناعم.
بكلمات عادية يصوّر الشاعر حدثاً عادياً جداً، لكن، وهنا بالذات، يتجلّى «سحر العادي» (إليوت). في معظم الأمسيات الأدبية التي تقام في دمشق، يحاول الشعراء الجدد ركوب موضة (القصيدة الشفوية) التي ذاع صيتها كثيراً، ولكن قلّة قليلة جداً تتمكّن من تصوير اليومي المباشر العادي في صورٍ شعرية ناجحة، ومن خلال لغة شعرية جميلة. لن أدّعي الحياد فيما يتعلق بمجموعة (الغروب الكبير)، بل أقرّ بانحيازي للجميل دون تردد أو خجل، لكن علي جازو نجح إلى حدٍّ بعيد في إيقاف الزمن، أو لنقل تمديده، بقصد أو غير قصد، فهو يكثّف الأبدية في لحظةٍ واحدة أحياناً، كما يفعل في هذا الإيجاز المعبّر عن سيرة المسيح:
الحائط الأشقر العجوز يسند السماء
بثلاث كلمات:
تاج الشوك؛ الرداء الأحمر المؤلم؛
وفرحُ الملاك النائم في الخبز والنبيذ.

وتارةً أخرى يمدّ اللحظة إلى الأبدية في دعوةٍ إلى الإنصات لتسبيح الأشكال، ولنبض الأشياء، وإلى صوت الصّمت:
الإصغاء الطويل قرب نبع شجرةٍ زرقاء،
تساقط الليل في الهواء الأزليِّ للأنفاس،
لعبة الأصداف المدحرجة على الصخور الحادّة،
صعود الأسماء عاريةً إلى ظلامها المتين؛
حيث عشب وضياء الحقل الساكن خلف تجاعيد القمر.

يمكنني اختيار كلمة «الأُلفة» للتعبير عن المجموعة. ينظر علي جازو إلى الحياة بعيني طفل كالأنبياء، فالقصائد المتخمة بالمعاني الميثيولوجية والدينية، بالأسفار والوحي، بقضايا الوجود والكون والطبيعة، تتسم بالبراءة الطفولية التي تعبّر عن دهشتها أمام المألوف العابر؛ والحكيم العجوز الذي يقول على لسان «جلجامش»:
كلُّ الوصايا هي زفيرٌ الآن.
سرعان ما يكشف عن عذريةٍ خارقة عند الحديث عن أكثر الأمور ألفةً في حياة البشر: الحياة والموت، فيقول:
الحياة عصفورٌ أبيضٌ في غابةٍ من ثلج،
والموت عينان مفتوحتان.
هكذا، وبعبارات تبدو وكأنها لا تقول شيئاً، يشير علي جازو إلى المألوف، لافتاً الانتباه إلى العادي الذي يتجلّى إعجازياً، عبر إيقاع يذكّر بموسيقى الهايكو:
أية عذوبةٍ في الماء!
أية عذوبة تجعلنا نشرب كلَّ هذا الألم.

يقول طاغور في (ديانة الشاعر): «اللطف الحقيقي الإبداع». أم هل أقول «الخفّة»؟ فلنقرأ هذه القسوة المغلّفة باللطف:
كان صوتي سحاباً يابساً
وكنت، دائماً، في عتمة البذور.
ثم يضيف بعد قليل:
ممتلئٌ بحروفٍ وردية
وجسدي خفيفٌ خفيفٌ كمطرٍ
تشمّه في طرف الشارع.

أيضاً القصيدة الشفوية، في نموذجها الفرنسي، بحيث تبدو القصائد وكأنها مترجمة أحياناً، وهذه سمة، إيجابية وسلبية في الآن ذاته، للذين يقرءون الكثير من المترجمات الشعرية. نعثر على رامبو هنا، وبليك، وييتس، ووردز وورث بالتأكيد، وغيرهم؛ لكن الشاعر تمكّن في معظم الحالات من تجاوز هذا التأثير ليعبّر بصوته الخاص عن رؤيته المميزة له، فلا بدّ أن يذكّرنا المقطع التالي بقصائد رامبو الأولى، شعراء السابعة من العمر مثلاً، ولكن لاحظوا الفرق:
نزهة الموتى بين النجوم الرقيقة الطالعة من العشب
أزهار البرتقال على أسطح الحانات الصغيرة
وهنا، كلّ هذا اللطف في أقسى ما في الحياة: الموت؛ بل وفي أروع ما فيها كذلك، في الحبّ:
أحبها، تلك التي لا أعرفها، واقفةً
على الطرف الآخر من الشارع الضيّق،
وظلٌّ صغيرٌ ناعمٌ تحت جفنيها؛ ظلٌّ لا يقول أيّ شيء
سوى أنه ناعم وحزين وأجمل من كل الأمنيات.

لم يضع علي جازو عناوين لقصائده، بل رقّمها بأرقامٍ رومانية. قال: «أحببت شكلها دائماً»، لكني أعتقد أنّ للأمر سبب آخر، فهو يريد أن تبقى قصيدته حرّة من الاسم، لأن هذا يجعلها بلا حدود تنغلق عليها: «الاسم سجن المسمّى». قالها لي علي في مناسبة أخرى، دون مبرر، ولكنها كانت وكأنها إشارة موحية؛ لذا تبدو المجموعة كلها كقصيدة واحدة، على الرغم من تنوع موضوعاتها. وهذا الإيحاء المخادع ناتج عن التكامل الداخلي فيما بينها، فقد بدا الأمر وكأن الشاعر عمل جاهداً على ترتيب القصائد وفق المنهج المتّبع في الكتب المقدّسة، بل إنه يختتم المجموعة بوصية تقول:
ادفنوني هنا، في الفجر، قريباً ممّن أحب
موحياً بانتهاء المجموعة من جهة، وبأنه لم يعد هناك ما يقال من جهة أخرى، بل إني توجّست من أنه، بذلك، يعلن نهاية الكلام، بحيث بدا وكأنه لن يكتب الشعر بعد الآن؛ لكن هذا ليس خياراً، وكل كاتب يعرف ذلك، فنحن نتوقّف عن الكتابة عندما ننضب تماماً.

تتخلل عقيدة «وحدة الوجود» معظم قصائد المجموعة حتى ليشعر القارئ وكأنه يتجول في الطبيعة حيث الأشجار اليابسة والورود الغضّة والسماء والنجوم والمطر...الخ؛ وينجح، غالباً كذلك، في التنقّل بين الداخل الذاتي: الخائف، المتألم، العاشق، الحزين والفرِح...، والخارج حيث الكون والطبيعة والبشر؛ وكذلك في المزاوجة بين العالم الكبير: عالم الآلهة والشياطين، عالم الحرب والخراب، والعالم الصغير مصغياً إلى طقطقة نبتة تتفتّح أو لهاث «ثعلب مختبئ في شجرة السعادة». لذلك، فإن علي جازو لا يراهن، في مجموعته، على بهلوانيات الإعجاز اللغوي، بل إنّ لغته سهلة، وكلماته بسيطة، وأدواته مستمدّة من العادي والمألوف؛ لكنه يستمدّ قوته من القدرة على التعبير عن صدق الرؤيا من خلال الطبيعي واليومي بإتقانٍ هو أقرب إلى العفوية منه إلى الصنعة والحِرَفية، لذلك لا يشعر القارئ بالغربة عن النصوص، بل تبدو الصور والأحاسيس قريبة إلى القلب؛ لكنّ هذا القرب يصعّب على القارئ اكتشاف اللون المميّز للشاعر في الفسيفساء اللونية الغنية، أو صوته المفرد في سيمفونية الأصوات التي لا تثير الانتباه بحكم طبيعيتها، حتى ليشعر المرء وكأنه يمشي في غابةٍ عذراء.
بطبيعة الحال، توجد في بعض القصائد عيوب ونقائص من المنظور النقدي، فأحياناً يتم إبراز الفكرة على حساب الصورة الشعرية، وهذه معضلة القرّاء الأبديين الذين ينتمي إليهم علي جازو، ولكني لست ناقداً محترفاً، بل مجرّد قارئ ذوّاق كما يجب أن أقدّم نفسي، لذا أترك هذه المهمة لأصحاب الشأن في هذا المضمار. أما الآن، فسأقدّم لمحة موجزة عن الشاعر لنفيه حقه.

علي جازو من مواليد عامودا/1975. له، بالإضافة إلى مجموعة «الغروب الكبير»، مسرحية من فصل واحد بعنوان «عابر النهر»، وهي مسرحية شعرية، عبثية النمط، تناقش بعض المسائل الوجودية. ومسرحية بعنوان «الأبدية» قيد النشر، وفيلم قصير باسم «حصان في غرفة»، وكذلك بعض المقالات الأدبية مثل: «عن الماغوط والكسل وسيادة اللفظ»، «عبد الباسط الصوفي ملّوناً بريشة الموت»، ...الخ.
لا يعرّف بنفسه ككاتب أو شاعر، بل لو استطاع لتحرر من شكله واسمه لخجله الشديد، ورقّته البارزة، وربما لكراهيته للتصنيف وعشقه لحرية اللامتعيّن، بتعبير ابن عربي. يعيش بزخمٍ داخليٍّ عاصف، متنقلاً بين التصوّف والعبث والوجودية دهراً، حتى وصل إلى حالٍ من القلق والخوف الدائمين، لكنهما لا يثيران النفور، بل على العكس منذ ذلك. عندما أخبرته بأني أريد تقديمه إلى القرّاء عبر مجموعته الأولى، معرباً عن إعجابي، قال:
- هذا التقريظ يفرحني بلا شك...، لكنه يخجلني أيضاً.
هكذا هو علي جازو، ولو سأله أحدهم: من أنت؟ سيصاب بالحيرة، وسيجيب وهو يلوّح بيده اليمنى بخجل:
- أنا!؟... هكذا...
ربما لهذا السبب، ونكايةً بمادحي أنفسهم، كانت هذه القراءة لمجموعة «الغروب الكبير»، وهذا المقال التعريفي بشاعرٍ يختزن الكثير في رأيي.







تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد / المرأة: هذه الدمية الحمقاء!

10-نيسان-2006

"الغروب الأخير"شاعر يتنزه مع الموتى

10-نيسان-2006

نُوروز: نشيد الخلود

09-نيسان-2006

نقد / «دون كيخوته» باعتبارها رواية ما بعد حداثوية

09-نيسان-2006

الفيديو كليب: إثارة وجنس ومال

09-نيسان-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow