Alef Logo
شعر معاصر
              

نقد / «دون كيخوته» باعتبارها رواية ما بعد حداثوية

هفال يوسف

2006-04-09

فيرا سافيليفا
النبيل البارع دون كيخوته ده لا مَنشا
ميغيل دي ثِربانتِس
«إنّ تخليص العالم من إحدى الحماقات بمساعدة أخرى لهي حماقة أكبر»
هكذا كتب عن (دون كيخوته) الكاتب الإسباني من القرن السابع عشر، الراهب الجزويتي بالتاسار غراسيا- موراليس مؤلِّف كتاب المغامرات (العرّاف الجيبي) . من المثير للاهتمام أن يعود فضل ولادة أكثر الروايات شهرةً في عالم الأدب إلى مطلب اجتماعي؛ حيث يعتبر دارسو إبداع ثربانتس أنه اتّجه إلى نقد روايات الفروسية بهدف تقديم خدمة طيبة للأدب الوطني والأخلاق، وقد أشار الكاتب نفسه، أكثر من مرة، إلى كراهيته لهذا الفنّ الذي كان يسخر منه، وقد كتب في مستهلّ القسم الأول: «إنّ الهدف الوحيد للكتاب هو تحطيم سلطان روايات الفروسية ومنع انتشارها في المجتمع الراقي وبين الناس البسطاء»، و«تدمير البناء المتقلقل لروايات الفروسية، حيث أن الكثيرين يعافونها، مع أن بعض الناس لازالوا يمجدونها».
ظهرت رواية الفروسية في فرنسا، في القرن الثاني عشر، وسرعان ما غزت أوروبا. ولكنها وصلت إلى إسبانيا متأخرة قليلاً، في بداية القرن السادس عشر، عبر الترجمات والمحاكاة والحلقات . ولقد عدَّت كتابة حلقات جديدة للروايات الشهيرة أمراً معقولاً تماماً، إن كان الكاتب قد فارق الحياة (هكذا تمّت كتابة سيرة الفارس أماديس الغالي [نسبة إلى بلاد الغال- م])، أما إن كان الكاتب على قيد الحياة فهذا أمر آخر، بل حتى في هذه الحالة كانت تظهر رغبة استخدام موضوع كتابه عند بعضهم: عندها كان ينشب النزاع (وهذا ما حدث مع «دون كيخوته»). كل هذه الحكايات مطابقة للواقع حتى في وقتنا الراهن، حيث يمكن كتابة (الحرب والسلم) أو (ذهب مع الريح) في حلقات، لكن محاكاة (هاري بوتر) أمرٌ ممنوع.
شغل الصراع ضدّ تسلّط روايات الفروسية في إسبانيا حتى السلطة العليا، وقد حُفظت الوثيقة التي أُرسِلت إلى الملك الإسباني في عام 1555، ويرد فيها: «إن الضرر الذي تلحقه قراءة الكتب المليئة بالأكاذيب والسخافات، مثل (أماديس) وما شابهه من الكتب التي ظهرت فيما بعد، على الفتيان والفتيات وكل القراء الآخرين في أرجاء المملكة بات واضحاً... نرجو من سماحتكم وضع حدّ لكل هذا لكي لا تُقرأ، ولا يُعاد طبع، أياً من هذه الكتب ومثيلاتها، والتهديد بالعقوبات القاسية؛ أما بالنسبة للكتب الموجودة فلا بدّ لسماحتكم من جمعها وحرقها».
إن الصراع ضد روايات الفروسية لا يخوضه الكاتب فقط، بل بطله كذلك؛ ففي الفصل السادس من الجزء الأول يتم وصف عملية التفتيش التي تتم في مكتبة دون كيخوته من قبل الكاهن والحلاّق وابنة أخيه والخادمة. النساء حاسمات أكثر ويطلبن إبادة كل الكتب: «كلا! لا ترحموا أيّاً منها -تقول ابنة أخ دون كيخوته- لأنها جميعها اشتركت في الجريمة. يجب رميها من النافذة إلى الفناء، وتكويمها وإحراقها؛ والأفضل حملها إلى الإسطبل، وإضرام النار فيها هناك، وعندها لن يزعجنا الدخان حتى». لكن من المستبعد أن يصل الكاتب إلى الحدود القصوى، فهو يسمّي الكتب بـ«المعذَّبين الأبرياء». إن مشهد إبادة روايات الفروسية من خلال إضرام النار فيها يعد استعارة مجازية لتحقيق المطلب الاجتماعي واقعياً: «وفي تلك الليلة ذاتها، وبفضل جهود الخادمة، تمّ حرق كل الكتب عن بكرة أبيها، سواء ما كان متناثراً منها في الفناء أو التي ظلّت في الغرفة؛ وعلى الأغلب أنه قد احترقت معها كذلك تلك التي كان ينبغي وضعها في الأرشيف الأبدي، لكن سوء الطالع وكسل المفتّش لم يريدا ذلك». بل تمّت كذلك معاقبة غرفة الكتب، حيث «بنوا حائطاً لإخفاء الباب، لكي لا يجدها دون كيخوته عندما يستيقظ»، ثم أعلنوا له أن ساحراً حمل الغرفة بما فيها من كتب.
ينقسم عالم أبطال الجزء الأول إلى: الذين يحبون روايات الفروسية، والذين يسخرون منها، معتقدين بخطورتها.
يحاكم صاحب النّزل كما يلي: « الحق أنني لا أعرف شيئاً أفضل في الحياة من قراءة هذه الكتب، فهي تجمّل حياتي، وحياة الآخرين كذلك، ففي أيام الحصاد يتجمّع هنا عدد كبير من الحصّادين في أيام الأعياد، ويوجد بينهم دائماً من يحسن القراءة، فيتناول واحداً من هذه الكتب، ونتحلّق نحن أكثر من ثلاثين شخصاً حوله، ونصغي إليه بلذّة بالغة تنتزع منا آلاف الشعرات البيض». وسط هؤلاء المناهضين لروايات الفروسية والمدافعين عنها، والعارفين بها بلا شك، يعيش ويتجول بطلنا الذي، بعد قراءته المستمرة لها «من الصبح إلى الليل ومن الليل إلى الصبح»، يفقد عقله، ويقرر أن يصبح فارساً مهولاً: «لقد ولدت في هذا العصر الحديدي –يقول دون كيخوته- لكي أبعث العصر الذهبي» .
لكن الحكاية جرت بحيث أن ثربانتس الذي فكّر بأنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، مجبراً الجميع على السخرية من «الفارس النحيل الهزيل الغريب الأطوار والمثير للشفقة»، حقق غايتين معاً: عالج معاصريه من المحبة الفصامية تجاه الفروسية المحتضرة كظاهرة اجتماعية، وألهم قرّاء المستقبل المحبة تجاه النمط الفروسي للمشاعر والأفكار، ففي هذه الرواية يتم المزج بين ما يبدو غير قابل للمزج: السخرية والافتتان، الشك المعيشي اليقظ والإيمان بالقدرة الكلية للأحلام الرومانسية.
«قصة ولدٍ جافٍّ هزيلٍ شاذّ...»
ظهرت فكرة الرواية في إحدى زنزانات سجن إشبيلية، عندما كان عمر الكاتب 55 عاماً، وتمّت طباعة الجزء الأول للكتاب في مطبعة مدريد، وخرج إلى النور بعد سبعة أعوام، في شباط عام 1605. حُفظت سبع نسخ من هذه الطبعة الأولى، وكان العنوان الكامل للرواية «النبيل البارع دون كيخوته ده لا مَنْشا»- El Ingeioso Hidalgo Don Quijote de la mancha.
عادة كان يُضاف إلى اسم بطل رواية الفروسية نعت: «الذي لا يُقهر»، «الصنديد»، «المقدام»؛ ونعثر على نعوتٍ كهذه في متن رواية ثربانتس، لكن في التسمية تمّ ذكر نعت غير معتاد، تصعب ترجمته. يكتب آ. ب. كراسنَغلازَف، الذي وضع دراسة حديثة عن ثربانتس، عن هذا الموضوع ما يلي: «إن كلمة «ignosio» يمكن تفسيرها عبر كلمة «igenio»- وتعني المقدرة الطبيعية للوعي على تمثُّل ما يمكن إدراكه عن طريق العقل والتفكير في كافة مجالات المعرفة أو العلم أو الاختراعات أو الابتكارات أو الأكاذيب؛ وبالتالي فإن «ignosio» هو الذي يتمتع بـ«igenio» دقيق ومرهف».
ترجم المترجمون الروس هذه الكلمة عدة ترجمات منها: «المَجيد»، « العجيب الفريد» ، «الفريد» ، « المبتكر البارع»، وأخيراً «البارع» . ولقد تمّ الاحتفاظ بالكلمة الأخيرة في ترجمة ن. م. لُوبيمي للرواية، لكن هذا النعت مطابق لما ورد في الترجمة الروسية لأوذيسة هوميروس ويعني، على الأقرب، خداع العقل، وليس حيوية التخيّل، حيث أنّ براعة دون كيخوته هي شكل من خداع النفس وخبل ناتج عن غزارة الخيال.
البطل الرئيسي: نبيل إسباني ريفي، نبيل فقير ومفلس وعجوز: «نبيل ممّن في مسلحتهم رمح وترس قديم وبرذون ضامر وكلب سلوقي». كل ما لديه حقيقي، ولكن لا نفع في كل ذلك في الوقت نفسه. وعائلته لا تتّسم بالبطولة «بعضهم يؤكّد بأنه كان يحمل لقب «كيخادا» (ترجمته: الفكّ)، وبعضهم يقول «كيسادا» (فطيرة بالجبن)»، لكنه «اتّخذ لنفسه لقب دون كيخوته في نهاية الأمر»، الكلمة الأخيرة تُترجم (درع الفخذ، وهو من أسلحة الفرسان). فارس دون فرس أمرٌ غير معقول، لذلك يدعو فرسه «روثينانته»، وهذه الكلمة كذلك تعدّ بدعةً لغوية ماكرة، لأنّ الكلمة الإسبانية «روثينانته» مركّبة، وتتألف من «rocin» التي تعني (برذون)، و«ante» أي (فيما سبق، من قبل)، وبالتالي فالكلمة تعني: الفرس الذي كان برذوناً فيما سبق، أو الفَرَس الذي يسبق بقية الأفراس . كذلك المنطقة التي يعيش فيها النبيل عبارة عن إقليم ناءٍ مهمل ومقفر من أقاليم وسط إسبانيا، يمتد من تلال طليطلة حتى القمم الثلجية لجبال سييرّا- نيفادا. في اللغة الأصلية تعني كلمة «la mancha» (بقعة، لطخة) أو (سِمة، علامة) .
يرافق دون كيخوته في تجواله فلاح يحمل أسلحته، والذي يعطي لسيده لقباً غريباً هو «الفارس الحزين الطلعة». «لقد أعطيتك هذا الاسم –يشرح سَنشو- لأن لك هذا الشكل المؤسف الذي لم أره في أحد من الناس. ربما أضناك العراك، وربما بسبب فقدان أضراسك وأسنانك» . «وهكذا سوف أسمّى من الآن فصاعداً –يوافق دون كيخوته- وقد قررتُ أن يُرسم على ترسي -بمجرّد أن تسنح الفرصة- صورة وجه حزين».
ظهر الجزء الثاني في المكتبات في تشرين الثاني عام 1615، بعنوان مختلف قليلاً عن الجزء الأول: «الجزء الثاني من الفارس البارع دون كيخوته ده لا مَنشا». أحلّ الكاتب كلمة «الفارس» (caballero) محلّ «النبيل» (hidalgo). يفصل بين الجزأين عشرة أعوام، لذا ففي عام 2005 لا تحلّ الذكرى الـ400 للرواية فقط، بل كذلك الذكرى الـ410 لها.
بدلاً من أن يكرر الكاتب نفسه، ويكمل على نفس المنوال (وكان هذا وحده كافياً لتحقيق النجاح)، ذهب ثربانتس أبعد من ذلك، أو بالحري انعطف، مخالفاً توقعّات القرّاء؛ فدون كيخوته في الجزء الثاني ليس مجنوناً وأخرقاً إلى تلك الدرجة، وسَنشو ليس بسيطاً بالقدر نفسه، وتختفي من الرواية الأقاصيص المسهبة المحشوة فيها. مجبراً القارئ على الضحك من أفعال بطله في البداية، يروِّض ثربانتس القرّاء ويجبرنا على الإصغاء إلى ما يقوله دون كيخوته؛ فإن كانت أفعاله مضحكة، فإن أقواله حكيمة، وتبدأ هيئة الكاتب بالظهور من خلال القناع المضحك للبطل.
في بداية الرواية كان دون كيخوته قد تجاوز الخمسين، وكان عمر الكاتب، أثناء كتابة الرواية، أكثر من ذلك بقليل. لا يوجد شكّ في وجود ما هو ذاتي في الشخصية، سواء من الداخل أو من الخارج. يكتب الكاتب في الاستهلال: «بيد أني لم أقوَ على مخالفة نظام الطبيعة الذي يقضي أن يلد الشيء شبهه، وماذا عسى، إذاً، أن تلد قريحة عقيم فاسدة التهذيب مثل قريحتي، اللهم إلا تاريخ ولد جافّ هزيل متخم بأكثر الأفكار شذوذاً وأبعدها عن التوقّع». والكاتب يفخر ببطله أكثر من سخريته منه، ويوكّل أمره إلى القارئ بثقة: «وإني وإن لم أكن غير أبٍ زنيم لدون كيخوته –وإن بدوت أباه حقاً- فلست أريد أن أضرع إليك -أيها القارئ العزيز- أن تغفر لولدي عيوبه، أو أن تتغاضى عنها...».
لم يخطئ ثربانتس، فقد أحب القرّاء من كافة الأمم والأعمار بطله الذي أصبح رمزاً، وصارت «الدونكيخوتية» تشير إلى نمط من التفكير ووضعية حياتية؛ وإلى نمط نفسي عام في الاختبارات النفسية؛ وإلى إحدى الخطط الاجتماعية لتطور الحضارة. كتب ف. دَستَييفسكي [دوستويفسكي]: «في العالم كله لا يوجد مؤلَّف أعمق وأقوى من هذا. هذه هي الكلمة الأخيرة والأسمى للفكر الإنساني. إنها أكثر أنواع السخرية، التي يمكن لإنسان التعبير عنها، مرارةً، وإذا انتهت الحياة على الأرض، وسُئل البشر هناك، في مكانٍ ما: «ماذا! هل فهمتم حياتكم على الأرض؟ وما الذي استخلصتموه منها؟»، فيمكن للإنسان تقديم «دون كيخوته» بصمت: «هذه هي خلاصة حياتي، فهل يمكنكم إدانتي عليها؟». دولثينيا الغائبة أبداً
يمكن إيجاز أحداث الرواية كما يلي: ثلاث خَرجات للفارس النبيل، ثم موته بعد ذلك. لكن في الرواية توجد 700 شخصية، كما يؤكّد البحّاثة، وكلها تتماسّ مع دون كيخوته. يرتبط ستّ منها مع البطل الرئيسي بقوة، وهي: ابنة الأخ، الخادمة، القسيس، الحلاّق، حامل السلاح وحبيبة القلب. فمنذ الفصل الأول يجري الحديث عن «فتاة فلاحة مليحة الوجه»، هي ألدونثا لورنثو التي لم يخطر لها أبداً أنّ النبيل العجوز كان يعشقها «في زمنٍ ما»؛ وهي من قرية «توبوسو» الواقعة في إقليم «المنشا»، ويعطيها الفارس اسماً رنّاناً «دولثينيا التوبوسية» (وهو مشتقّ من الكلمة الإسبانية «dulce» وتعني «الحلوة»). في القرن العشرين، وعلى شرف بطلة ثربانتس، تمّ ابتكار عيد سنوي مرح في شهر آب، في قرية (توبوسو)، لانتخاب «ملكة جمال توبوسو».
ينطق دون كيخوته اسم دولثينا، ويدعونها «إمبراطورة المنشا»، «جميلة الجميلات»، وغالباً ما يخاطبها بصوتٍ مسموع سائلاً حمايتها قبل الانخراط في المعارك، أو الوقوع في المحن؛ ويصفها على الشكل التالي: «مفاتنها خارقة، ففيها تتجسد الصفات السحرية، والتي لا يمكن تصوّرها، للجمال، كما يصفها الشعراء في معشوقاتهم: شعرها جدائل من ذهب، وجبينها جنّات عليين، وحواجبها أقواس قزح، وعيناها شمسان، وخداها وردتان، وشفتاها من المرجان، وأسنانها لؤلؤ، وجيدها رخامٌ شفاف، وصدرها من المرمر، ويداها من العاج، وبياض بشرتها مثل الثلج...». احكموا بأنفسكم إن كان هذا الوصف رائعاً أم مضحكاً. وعندما يُطلب من دون كيخوته، برهاناً على فتنتها، أن يريهم صورتها «ولو كانت بحجم حبة قمح»، يتملّكه الغضب.
أثناء تجواله يبعث دون كيخوته رسالة إلى دولثينيا مع سَنشو، يعدد فيها مآثره، لكن سَنشو الهمَّام، ولكي يتهرّب من المهمة، يخترع حكاية عن الحبيبة المسحورة. في الجزء الثاني يقرر الدوق إغواء دون كيخوته، ويكلّف ألتسيدورا الحسناء لعب دور الحبيبة لتفتن النبيل، حتى أنّ سَنشو يحسد سيده، لكن دون كيخوته يظهر فطنةً مدهشة، ويقول: «إن علّة هذه الفتاة ناتجة، ببساطة، عن الكسل؛ وأفضل دواءٍ لها هو العمل الشريف الدءوب» .
فقط في نهاية القسم الثاني ينجز سَنشو الأعمال التي يمكنها إزالة السحر عن دولثينيا، لكن اللقاء الذي طال ارتقابه بين دون كيخوته ودولثينيا لم يتمّ رغم ذلك: في طريق العودة إلى قرية الفارس وحامل السلاح، يطارد صيادون أرنباً راح يركض، وفجأةً يقول دون كيخوته: «نذير شؤم. لن أرى دولثينيا أبداً» ، لكن سَنشو لم يجزع، واتجّه إلى صاحب الأرنب بالكلمات التالية : «الحق أنك رجل غريب الأطوار يا سيدي. لنفترض أنّ هذا الأرنب البري هو دولثينيا، وأن الكلاب التي تطارده هي السحرة الأوغاد الذين حولوها إلى فلاحة؛ فهربت، فأمسكتُ بها، وهاأنذا أضعها بين يديك، وهاأنت تمسك بها بين ذراعيك وتداعبها، فأي نذير شؤم في هذا؟ وأي نذير شؤم يمكن أن يستخلص منه؟». لكن اللعبة قد انتهت بالنسبة لدون كيخوته، وليس في مقدور سَنشو تغيير شيء، مهما بذل من بدعٍ مقنعة: لقد أعاد الأرنب إلى الصيادين برحابة صدر.
في الفصل التالي يموت دون كيخوته، ولا يفكر بدولثينيا، وإنما بابنة أخته التي يكتب لصالحها وصية شرط أن تتزوج من رجل «يُعرف عنه، بعد العلم الدقيق، أنه لم يقرأ أبداً كتب الفروسية»، وفي الحالة المعاكسة «فإنني أحرمها من الميراث». رواية ثربانتس مليئة بقصص: مفرحة وكوميدية وتراجيدية وغرامية؛ إلا أنّ دولثينيا الخفية: أكثر الحسناوات ضبابيةً تزيّن مجريات الأحداث بوجودها المتمثّل في غيابها. «دون كيخوته» باعتبارها رواية ما بعد حداثوية
ككل رواية عظيمة، تبقى «دون كيخوته» رواية عصرية وحيّة دائماً: في المرحلة الرومانسية كانت تُقرأ كرواية رومانسية، وفي المرحلة الواقعية كانت تُرى كرواية اجتماعية أخلاقية؛ ورأى الرمزيون فيها رموزاً أبدية؛ وفي مرحلة ما بعد الحداثة يُعثر فيها على كل سمات الرواية المابعد حداثوية النموذجية. سنشير إلى بعض تلك السمات.
يتأسس طبع البطل الرئيسي على الأقوال الهازلة والفصامية للإدراك الازدواجي ، لذا فكلما توغلنا في الرواية أكثر تزداد صعوبة تحديد ما إن كان دون كيخوته مجنوناً حقاً. يبدأ الشكّ في هذا الأمر عند سَنشو قبل الجميع، وبعد ذلك يحاول البقية كذلك أن يفهموا إلى أية فئة من البشر يمكن نَسْب هذا النبيل الجوّال: «إلى فئة العقلاء أم البلهاء؟» لكن من يعترف بهذا أولاً، سوف تصيبه العدوى ويقف على حافة الجنون. العيش في عالمين كشكل من العيش البانورامي، أو الهولوغرامية الروائية، يشكّل المثال النموذجي للروائيين المعاصرين، والذي تمّ إحياؤه منذ 400 سنة.
تتشكّل أحداث الرواية الرائعة عبر خلط الكاتب شعره ونثره مع شعر ونثر الآخرين، وكذلك عبر حشو النصّ بالمراسلات والإهداءات المضللة لأبطال الأدباء الآخرين، والموجّهة إلى دون كيخوته ودولثينيا وسَنشو، بل حتى إلى روثينانته.
السِّمة المهمة الأخرى هي تلاعب الكاتب بالقارئ. في هذه الأثناء تنقسم شخصية الكاتب: فهو ثربانتس من جهة، ومن جهة أخرى هو شخصية من أسلافه، المؤرّخ العربي سيدي حامد بن الأيلي، الذي يمزج ثربانتس نصه الإسباني مع نص المؤرّخ العربي، وفي هذه اللعبة يدخل كذلك الأبطال الذين يصبحون قرّاءً ومعلقين على النصوص المكتوبة عنهم أنفسهم. وعدا ذلك، يلتقي سَنشو ودون كيخوته بكثير من الناس الذين تعرّفوا عليهم من خلال الكتب المكتوبة عن مغامراتهم [أي: مغامرات دون كيخوته وسَنشو]. هذه الإزاحات الخيالية النابعة من أفكار الكاتب بهذه الدرجة أو تلك تخلق تأثير ازدواجية القصّ. ويعقّد كل ذلك تلك المحاججة الشهيرة مع الكاتب- الدّعي الذي ابتكر وكتب ونشر الجزء الثاني المشابه لرواية دون كيخوته (ظهر الكتاب في المكتبات في نهاية صيف، بداية خريف، عام 1614، سابقاً كتاب ثربانتس بسنة) قبل أن ينهي ثربانتس كتابه الثاني.
يقع هذا الكتاب المزيّف بين يدي دون كيخوته نفسه في الفصل 59 من الجزء الثاني، فيعلّق عليه الفارس بامتعاض، ويناقشه مع الذين وجد الكتاب في حوزتهم؛ وفي الفصل 62 يزور دون كيخوته المطبعة ويجادل في موضوع خيانة الناشرين، ويجد نفسه شاهداً على طباعة ذلك الكتاب المزيّف، لكن سخريات ثربانتس من الكاتب-اللصّ تتوقف عند هذه النقطة. وفي الفصل 70 تختلق الحسناء ألتسيدورا حلماً عن زيارة الجحيم، حيث ترى عند أبواب الجحيم 12 شيطاناً يلعبون بالكرة مستخدمين مضارب نارية، لكن بدلاً من الكرات نجدهم يستخدمون كتباً، وأحد هذه الكتب هو كتاب المدّعي الأرغوني عن دون كيخوته، حيث يقول أحد الشياطين عنه: «كتاب سيئ إلى درجة لو أني تعمّدت كتابة ما هو أسوأ منه لما استطعت». منصتاً لهذا كله، يلقي دون كيخوته كلمة رائعة يفتتحها على النحو التالي: «لا وجود لشخص ثانٍ يماثلني...».
وفي النهاية، بعد موت دون كيخوته، يطلب القسيس من الموثّق أن يعطيه شهادة بأنّ الفارس قد توفي لكي لا يفكّر مؤلّف آخر بإعادة بعث دون كيخوته زوراً وكذباً. أما الاحتياط الأخير والضروري فيتّخذه الكاتب نفسه الذي يعترف في مستهلّ الجزء الثاني بأنه مجبر على إماتة بطله «لكي لا يذكره أحد بعد الآن». «يمكن إصلاح كل ما في الحياة باستثناء الموت»، كما يقول دون كيخوته السعيد لحامل سلاحه، ورغم ذلك يجبر الكاتب الفارس الذي شفي من الجنون على الموت. إن جزع الكاتب هذا، والذي يظهر بوضوح في متن الرواية، كان يمكن اعتباره شكلاً من انفصام الشخصية لو لم يكن وجود الرواية المزيفة، التي لا يهتم بها إلى المتخصصين في أدب ثربانتس، واقعة حقيقة.
إن إزالة الحدود بين الحياة والرواية، كسمة ما بعد حداثوية، تسم كذلك تفاسير الرواية والأفلام المصنوعة عنها والتصاوير التي تمثّلها. من بين أشهر المصورين رسم كل من غ. دوريه، ب. بيكاسّو، س. دالي، الشخصية الرئيسية في ثلاث هيئات مختلفة كلياً عن بعضها؛ وتنتصب تماثيل غير عادية للفارس ذي الطلعة الحزينة في مختلف بلدان العالم؛ وتحمل كثير من الفنادق اسم «دون كيخوته»، وحتى في بلدتنا «سيميبالاتينسك» تمّ افتتاح مطعم «دون كيخوته» الذي صُمِّم من الداخل كقلعة من القرون الوسطى.
لكن أحد أكثر المشاريع، التي تحمل اسم دون كيخوته، إثارة للاهتمام هو الذي تقيمه الآن المؤسسة الفلكية الأوربية، حيث يجد «دون كيخوته» الكوني نفسه مضطراً إلى محاربة أحد الكويكبات. يعزم مصممو مشروع «دون كيخوته» إرسال جهازين فضائيين إلى كويكبٍ ما خلال 56 عاماً. واسم أحد الجهازين هو سَنشو (sancho)، والآخر «النبيل- هيدالغو» (Hidalgo)؛ وسوف يطير المسبران (سَنشو) و(هيدالغو) إلى نفس الكويكب، ولكن من طريقين مختلفين، حيث سيبقى (سَنشو) في مدار هذه الكويكب، أما (هيدالغو) فسيصطدم بهذا الحجر الكوني الهائل. كل شيء سيحدث كما في الرواية: حارب النبيل دون كيخوته ده لا مانشا طواحين الهواء التي ظنّها مردة عملاقة، بينما كان حامل سلاحه سَنشو بَنثا يراقب العملية منتحياً.
في الفضاء، سوف يراقب سَنشو هذا الانتحار من مسافة آمنة لكي لا تصطدم به الشظايا المتطايرة، ثم سيقترب سَنشو من «ساحة المعركة» لدراسة التغييرات التي تحدث على الكويكب، بما في ذلك تحوّل مسار دورانه حول الشمس؛ وهكذا سوف تتجسد الرواية في الحياة. ومن الجهة المعاكسة فإن السيرة الذاتية لثربانتس تعدّ مادة روائية جديرة حقاً، ولقد كان رحيله عن الحياة بالنسبة لنا محزناً ومذهلاً. مع صدور الجزء الثاني لرواية «دون كيخوته»، عام 1615، أنهى الكاتب رواية أخرى في نفس الوقت، والتي كان الكاتب يكتبها إلى جانب «دون كيخوته»، وقصّ شعره مثل أعضاء أخوية القديس فرنسيس، ولو كان في زمننا لتأسست شركة دعاية وإعلان بهذا الخصوص، ولتصدّرت الرواية الأخيرة، بلا شك، قائمة المبيعات.
توفي ثربانتس في 22 نيسان عام 1916، ودُفن في الدير «الترينيتاري» في مدريد مكشوف الوجه وفق تقاليد الأخوية، مكفّناً بالرداء الفرنسيسكاني المصنوع من الجوخ الخشن. أما وصيته فقد ضاعت، وفُقد أثر المكان الذي دفن فيه مؤلّف «دون كيخوته» أثناء عملية ترميم الدير.
دخل «الأقطع العظيم»، كما يسمونه في إسبانيا، عداد الخالدين، وتُسمّى روايته عن دون كيخوته «الإنجيل الإسباني».

ترجمة عن الروسية: هفال يوسف







تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد / المرأة: هذه الدمية الحمقاء!

10-نيسان-2006

"الغروب الأخير"شاعر يتنزه مع الموتى

10-نيسان-2006

نُوروز: نشيد الخلود

09-نيسان-2006

نقد / «دون كيخوته» باعتبارها رواية ما بعد حداثوية

09-نيسان-2006

الفيديو كليب: إثارة وجنس ومال

09-نيسان-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow