Alef Logo
ضفـاف
              

الفيديو كليب: إثارة وجنس ومال

هفال يوسف

2006-04-09

ظهر مصطلح «الثقافة الجماهيرية»، لتمييزها عن ثقافة المثقفين «الثقافة العليا»، في أعقاب الحرب العالمية الثانية في أمريكا أولاً، ولم يلبث أن انتشر في الغرب؛ وهي الثقافة التي انتشرت مع تطور ونمو وسائل الإعلام، وخصوصاً التلفزيون، حيث بدأت بأفلام رعاة البقر وموسيقى الزنوج والسيرك اللندني، ولم تلبث أن استوعبت كافة أوجه النشاط الثقافي البشري مع انتشار البثّ الفضائي والنقل الالكتروني، وبلغت فورة الموجة الجديدة حدّاً لم يتوقعه أحد إلى درجة باتت تشكل بحقّ ثورة ثقافية رابعة.

والثقافة الجماهيرية هي الثقافة التي يتم إنتاجها وفق معايير العمل الصناعي والإنتاج الاستهلاكي، والموجَّهة إلى الجمهور عبر وسائل الإعلام الجماهيرية؛ فهي بذلك تحقق الصيغة الكاملة للصناعة الثقافية، لتتحول الثقافة، بدورها، من محيطها المعرفي التربوي إلى آفاق المتعة والتسلية بما يتناسب مع متطلبات المجتمع الاستهلاكي بحيث بات الاستهلاك الثقافي مماثلاً لاستهلاك السلع اليومية، وليصبح إنتاج عمل فنيّ ما، مثلاً، مماثلاً لإنتاج سلعة يومية كالصابون؛ فالإنتاج الثقافي الجماهيري يتمّ بالجملة، ويلتزم بآليات تقسيم العمل، يتكيّف مع «ما يطلبه الجمهور»، ويهدف إلى المزيد من الأرباح قبل كل شيء. وبذلك سحبت شركات الإنتاج الثقافي البساط من تحت أرجل الدولة، على الرغم من أنها لازالت تمارس دور شرطي الثقافة وبوليس الذوق وجمرك النقد الجمالي، ويساندها المثقف المبدع الذي لم يعد أمامه إلاّ الانخراط في الحشد والتسكّع في شوارع الثقافة الجديدة - القديمة، أو عرض إنتاجه في الهامش الضيق خارج سوق الإنتاج. تؤدي الحالة الأولى إلى اغتراب المبدع عن عمله لأنه مجبر على الالتزام بآليات الإنتاج، ويتم سحق فرديته من قبل نجومية النجوم، الأولمبيون الجدد كما يسميهم إدغار موران، بحيث يصل به الأمر إلى التنكّر للعمل الذي ساهم في صناعته. أما في الحالة الثانية، فإنه ينزع إلى ازدراء الثقافة الجماهيرية بتعالٍ أخلاقي وعدوانية مناهضة لهذا الانحطاط الثقافي، أو لهذه الثقافة الهابطة، كما يدعونها في الغرب. لكن الكارتل العولمي للصناعة الثقافية لا يعمد إلى إزاحة الثقافة العليا، بل يحتويها ويقوننها ويسطّحها، للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستهلكين عبر المجانسة الثقافية وتوحيد القيم الاستهلاكية، لأن الثقافة الجماهيرية هي ثقافة المتوسط، ثقافة القاسم المشترك بين جمهور المتلقّين؛ لذلك نجد أنّ الثقافة المضادة للثقافة الجماهيرية إنما انبثقت من قلب هذه الثقافة ذاتها: التيار الأسود في كاليفورنيا على سبيل المثال، وبالتالي لا يمكن مواجهة هذه «العدمية الثقافية» من خارجها، بل عبر الاستثمار الثقافي، وهو واجب الدول والحكومات والمؤسسات الثقافية، التي لا بدّ أن تتخلص من آليات الإنتاج المركزي البيروقراطي، وأن تتمتع بالمرونة الكافية لتكون قادرة على منافسة حيوية حركة رأس المال الثقافي للقطاع الخاص.
مهندس الصوت يحل محل الملحن وبائع الكلمات محل الشاعر
كان لا بدّ من هذه المقدمة الموجزة للوصول إلى موضوع مقالتنا هذه: ظاهرة «الفيديو كليب» التي تعدّ أحد أكثر تجليات الثقافة الجماهيرية تأثيراً على الجمهور، لكونها تخاطبه بلغة سمعية – بصرية، عبر الصورة والكلمة والموسيقى والحركة، فهي، بذلك، تتجاوز حدود الحواس لتصل إلى أعماق فكره ونفسيته وغرائزه، وتتوجّه إلى الطفل الخيالي القابع فيه، مقدّمةً له عالماً لا متناهياً من الألعاب المثيرة، ومجالاً لا حدود لها للترويح، وآفاقاً لا نهاية لها للهرب من القلق والعزلة والتوتر اليومي، بالإضافة إلى الوجبة اليومية الهادفة إلى إشباع الشبقية النهمة للغريزة الجنسية، مالئةً، ومستهلكةً، كل ثانية فراغ لديه، لذلك سميت، أيضاً، ثقافة أوقات الفراغ، التي تبدو وكأنها لا تفرض نفسها على المتلقّي، بل تقترح فحسب، ولكن آليات التسويق والإعلان تخلق لدى المشاهد شكلاً من المنعكس الشرطي البافلوفي، بحيث يتمّ خلق حاجات جديدة باستمرار من أجل دوام عملية الإنتاج، ودوران حركة رأس المال الصناعي- الثقافي. فنجد أن صناعة «الفيديو كليب»، نموذجنا، تترافق مع مجالات صناعية كثيرة أخرى، متعاضدة فيما بينها، كالصحافة، المقروءة والمسموعة والمرئية، التي تنشر أخبار النجوم: خصوصياتهم، غرامياتهم، نزاعاتهم، ...إلخ؛ وصناعة الأزياء ومستحضرات التجميل والإعلان والمسابقات الفنية والرياضية، إلى آخر قائمة المنتجات الثقافية، لذلك يغدو من البلاهة التحدث عن الديمقراطية الإعلامية المزعومة، فوسائل الإعلام الحديثة تعطيك رغم أنفك، وتسلب ما لديك رغم أنفك أيضاً، فالعلاقة بين المنتج والمستهلك غير متكافئة، بل «حوار بين ثرثار وأخرس»، فليس أمام هذا الأخير إلا الاستجابة بـ: نعم أو لا، فيبقي على القناة التلفزيونية أو يغيرها إلى ما لا يختلف عنها إلا بالنوع، فالقنوات الإخبارية والفنية تعملان وفق آليات متماثلة، لذلك نرى أن تفاعل المشاهدين مع (أسامة بن لادن) و(نانسي عجرم)، على سبيل المثال، يسير وفق السيرورات النفسية ذاتها، على الرغم من الفروق الكبيرة بين الشخصيتين: النجمين؛ لكن تأثير «الفيديو كليب» أقوى وأعمق بكثير من الخبر، فالصورة بألف كلمة، كما يُقال في الإعلام، لذلك لا تكتفي القنوات الإخبارية بنقل الأخبار، بل تعمل على الوصول إلى مواقع الأحداث لتصويرها، فلو لم يتم تصوير عملية 11 أيلول لما وصلت إلى هذا الحدّ الهائل من الأسطرة، ولما تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من استغلال تعاطف الناس لتخوض حرباً ضد القاعدة، وتحتل أفغانستان بالتالي.
توجيه الثقافة من أيدي المثقفين إلى أيدي رجال الأعمال
إذاً، فدفة توجيه الثقافة قد انتقلت من أيدي المثقفين إلى أيدي رجال الأعمال، سواء في مجال الإنتاج الثقافي التقني، حيث حلّ مهندس الصوت محلّ الملحن الموسيقي، والموسيقى الإلكترونية محلّ العازفين، وبائع كلمات الأغاني محلّ الشاعر؛ أو في المجال القيادي، حيث حلّ «الأولمبيون» الجدد محلّ القدماء، فشخصيات مثل: عمرو دياب وجورج وسوف وروبي وغيرهم من نجوم الثقافة الجماهيرية يشكّلون المقابل الموضوعي لأدونيس ومحمود درويش وأحلام مستغانمي... في ثقافة المثقفين، فليس عبثاً تمّ اختيار هيفاء وهبي كسفيرة للثقافة العربية في معرض بيروت للكتاب العام الماضي، أو اختيار عادل إمام ودريد لحام كسفراء للنوايا الطيبة، فهؤلاء النجوم أصبحوا الصنّاع الفعليين، لا للرأي العام فحسب، بل كذلك للذوق العام، والحسّ العام؛ فالإنسان الخيالي الذي تخاطبه الصورة، إنما يستجيب لها من خلال التماهي والإسقاط، وفتيات اليوم يعمدن إلى الاقتداء بالنجمات، من خلال الأزياء وعمليات التجميل و«الآيروبيك» و«الماكروبيوتيك» وتغيير اللهجة والصوت والحركات، ولعلنا نذكر بيع ملايين الفساتين «الكاساندروية» من المحيط إلى الخليج بعد عرض مسلسل «كاساندرا» بدبلجته العربية؛ كما يعمد الذكور إلى تقليد النجوم الذكور، عبر تنمية العضلات ورسم الوشوم والنظارات الشمسية والقيادة المتهورة للسيارات والمغامرات الصبيانية والعصابات الشللية...إلخ. بهذا نفهم لماذا اعتبر أحد النقّاد أن شعار هوليوود هو «فتاة ومسدس» كما تمثّل في سلسلة أفلام «جيمس بوند» في أكثر تعبيراته نصوعاً.
لكن، وعلى الرغم من إحساس المتلقّي بالمشاركة، إلا أنه يبقى مبعداً عن المشاركة الفعلية، ومنفكاً عن المشاركة الجسدية، ومقصوراً على الوضع السلبي للمتلصص، بحيث يصحّ القول إن المشاهد يتفاعل مع العالم الحقيقي- الخيالي من وراء الزجاج الذي يحاول كسره عبر الدردشة الالكترونية ورسائل (SMS)، والمشاركة في برامج المسابقات، وتجميع تواقيع النجوم على الأوتوغراف الشخصي، مما يسمح له بتوهّم المشاركة، ولذلك نلاحظ أن المراهقين يتحدثون عن أبطالهم المفضلين باسمهم المفرد: كاظم (الساهر)، جورج (وسوف)، ولن نجد مثقفاً واحداً يقول: ممدوح أو محمد، في حديثه عن ممدوح عدوان أو محمد الماغوط. لذلك فالمشهد الحديث حضور وغياب، والمشاهد الحديث مشارك في الظاهر، مغترب في العمق، فهو مشاهد الاتصال عن بعد؛ وهنا يكمن الفرق الجوهري بين العرض التلفزيوني أو السينمائي والعرض المسرحي، بين الحفلات الراقصة في القرى مثلاً (الفلكلور) و«الفيديو كليب»، على الرغم من أنهما يرجعان إلى جذر واحد، فالفنون الجماهيرية تعبّر عن شكل بدائي في العلاقة على الرغم من التطور التقني، لكونها مادية مباشرة حتى في بعدها الجمالي، حيث يتمّ التركيز على الجانب الجسدي والحسي فيها، لتدخل المشاهدين في أجواء اللعب والمتعة والإثارة الأمر الذي يقصّر عمر طفولة الطفل الذي سرعان ما يصبح مراهقاً يحاول تأكيد فرديته في محيطه الأسري، ويعيد الراشد إلى «الولدنة»، فتنمو الصحافة الصفراء على حساب مكتبة الطفل الذي يجد في أبطال «ديزني» ما لا يجده في مجلات مثل (أسامة) و(ماجد) على سبيل المثال. وعلى الرغم من أنّ بعض المنتجين قد يعمدون إلى المغامرة فيقدمون على إنتاج أعمال راقية، كما نلاحظ في بعض «الكليبات» التي يبدعها مخرجون أعطوا هامشاً أوسع من الحرية، لكنها تضيع وسط ركام من الأعمال الهابطة.
غرائز الإنسان مصدر طاقة لعمل الثقافة الجديدة
لكن ليس للمتعة حدود، ولا يمكن إشباع نهم الإنسان إلى اللعب، الأمر الذي يوصلنا إلى مشكلة المشكلات: الإدمان؛ فبتحول الإبداع الثقافي إلى آليات الإنتاج الاستهلاكي الثقافي يفعل المبدأ الأقصوي لعمل الآلة فعله، فالآلة لا تتوقف عن الإنتاج مادامت متّصلة بمصدر الطاقة، وهذا المصدر هو غرائز الإنسان ورغباته وخياله اللامحدود؛ والاستهلاك النهِم للمنتجات الثقافية المتجددة على الدوام جعل البيت هو المكان الذي يهرب منه الإنسان إليه، وأصبح منزل الأسرة مغترب الإنسان الحديث إلى درجة أنّ الأسرة تجلس لساعات طويلة أمام الشاشة الصغيرة دون تواصل فيما بينهم إلا إذا انقطع التيار الكهربائي فينظر كل فرد إلى الآخر، وتنبثق لحظة من الحنان العائلي والدفء المنزلي لا تلبث أن تنقطع مع عودة الآلة إلى العمل، لذلك فإن الاتصال عن بعد يتم على حساب التواصل الجسدي المباشر، الأمر الذي يعزز حالة الفصام الجماعي لسكان المدن الكبيرة، فقاطن المدينة الذي يبحث عن مقعد فارغ في وسيلة مواصلات، أو ينزوي في أبعد ركن في حديقة عامة، لن يتوقف عن الثرثرة إن وجد من يستمع إليه، وبالتالي فالأمراض النفسية كالاكتئاب والميول الانتحارية والإجرامية تشكّل القليل من الثمن الباهظ الذي يدفعه الإنسان اليوم مقابل المتعة التي يحصل عليها من خلال الوجبة الحسية الخيالية للثقافة الصناعية التي تتوارد عليه بسرعة فائقة لا تترك له مجالاً للتنمية ذاته، فهو يتعرّض للضغط اليومي والاعتداء المباشر من قبل وسائل الإعلام التي تقدّم له الثقافة كمؤونة لا تلبّي رغباته فحسب، بل تخلقها وتستبقها، ليبقى أمامنا، قبل الوصول إلى النهاية، إعادة طرح سؤال: ما العمل؟ للمرة الألف.
ربما بتنا ندرك أن مواجهة الانحطاط الثقافي مستحيلة من الخارج، عبر الرفض وادّعاء العمى والصمم والاعتزال كما يفعل المحافظون والأصوليون؛ ففي الغرب وصلت ثورتهم إلى مداها الأقصى، وكان لا بدّ أن يتخمّر شيء في عمق الأزمة الشاملة نجد بوادر تلك الخميرة في الانفجارات داخل الثقافة الجماهيرية نفسها، وفي الارتداد إلى روحانيات الشرق من أجل البحث عن مخرج؛ لكننا في الشرق، وعلى الرغم من تضاعف الأمر لكون دولنا ومجتمعاتنا استهلاكية أصلاً، بحيث تجري عملية استهلاك داخل الاستهلاك، لدينا ما يكفي من الإمكانيات للمقاومة التي ظهر شكلها السلبي في تنامي التطرّف وتحول الإرهاب إلى ظاهرة وانتشار العنف كردّ فعل على عدم القدرة على الاستيعاب والمشاركة، ولكن الجانب الايجابي في الأمر أن مجتمعاتنا لم تغرق تحت أمواج المعلومات بعد، ودولنا مازالت فتية وقيد الإنشاء، وبعض جوانب ثقافاتنا المحلية لا تزال على قيد الحياة، والأهم من هذا وذاك هو أن الأسرة، كحاضن تربوي، لم تتفسّخ بعد. لكن هذه المواد الأولية لوحدها عاجزة على مقاومة الموجة العاتية، بل لا بد من إدخالها في عملية إنتاجية شاملة قادرة على تحقيق تنمية كافية، بدءاً من التحول إلى المدرسة الإدراكية في التربية والتعليم بدلاً من النموذج السلوكي الاتباعي السائد لتنمية الحسّ النقدي لدى الطفل، كأمر ضروري لتحقيق الحدّ الأدنى من التقدير الذاتي والحرية الفردية، مروراً ببناء وتطوير وسائل الترفيه واللعب كالملاعب الرياضية ومقاهي الشطرنج ونوادي المطالعة، وصولاً إلى مراكز البحث والعلوم. وهناك حاجة ماسّة إلى ثورة خضراء وتنمية الريف وإعادة الناس إلى العمل في الحقول، بالإضافة إلى ضرورة تنمية المرأة كفاعل أساسي في رقي المجتمع أو انحطاطه...إلخ؛ فقائمة الضرورات لا تنتهي بعد قرون من السبات، لكن لا بدّ من فعل شيء إن لم نكن قد استسلمنا للتخلف كقدرٍ لا فكاك منه.
وفي الختام أحب التذكير بأنّ الثقافة تعبير عن نمط حياة المجتمع وكلية النشاط البشري لأفراده، ولا يمكن تغيير الثقافة بدون تغيير أنماط الحياة التي لا تتطور، بدورها، بدون تحقيق الحدّ الأدنى الضروري والكافي للمعيشة، فالأفكار والنظريات لا تصنع واقعاً جميلاً مهما بلغت من النبل والجمال.



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد / المرأة: هذه الدمية الحمقاء!

10-نيسان-2006

"الغروب الأخير"شاعر يتنزه مع الموتى

10-نيسان-2006

نُوروز: نشيد الخلود

09-نيسان-2006

نقد / «دون كيخوته» باعتبارها رواية ما بعد حداثوية

09-نيسان-2006

الفيديو كليب: إثارة وجنس ومال

09-نيسان-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow