Alef Logo
ابداعات
              

الحيّ الشرقي / 5- 6

منصور المنصور

خاص ألف

2020-09-19

الحيّ الشرقي

منصور المنصور


الورقة الخامسة

بعد أن انتهى عرض المسرحية، لم يعد من مبرر لأن ألتقي مع ماريا. عدت إلى حياتي الاعتيادية، بيت، عمل، بيت. فقط يوم السبت كان يكسر هذا الروتين. شعرت أن حياتي لم تعد كما كانت قبل أن أتعرف على ماريا. بل أنا لست أنا قبل وبعد تجربة العمل المسرحي. هناك تغييرات كثيرة طرأت على حياتي، من أهمها حبي لها.

أتى الصيف ثم الخريف، وانتهيا دون أن أراها. رحت استعين بالذكريات لأرمم الحنين الذي راح يحفر في أعماقي ويلح عليَّ لرؤيتها. رحت استعيد أيام التدريب، تذكرت كلامها، انفعالاتها، ضحكاتها، كلمات التشجيع التي كانت تقولها لي. رحت أدقق في تلك الذكريات لأتأكد إن كانت تحبني أم أن الحب كان من طرف واحد. استرجعت وتفحصت الأحاديث التي دارت بيني وبينها، النظرات وكل الحركات التي كانت تقوم بها، لكي أقنع نفسي أنها تحبني. مرت الأيام، لم تعد الذكريات تكفي، شعرت بفراغ، بضجر من ليالي الشتاء الطويلة والمملة. حتى أن لقاءات السبت لم تعد تفي بالغرض، ولم تعد تُمتعني، بل أصبحت مملة، لا جديد فيها. نفس الشخصيات ونفس الأحاديث تتكرر كل سبت. جوان اللطيف والصامت أغلب الأوقات وفيكتوريا المرحة والتي تلقي النكات أحيانا، وعلاقتهما التي لا تتغير ولا يطرأ عليها أي حدث درامي، علاقة ثابتة كمياه البحيرة لا تنقص ولا تزيد. حتى علاقة كاظم وأنيتا المتغيرة والمتوترة دائما، أصبحت بالنسبة لي مضجرة، لأن التغيرات والإثارة التي تحدثها تلك العلاقة أصبحت تتكرر، لا شيء جديد بها. يعيدون أو يعانون من نفس المشاكل، وتصدر عنهم نفس ردود الأفعال، ويبحثون عن نفس الحلول. لم أعد أطيق الابتعاد عنها أكثر من الفترة التي مرت. حاولت الاتصال بها أكثر من عشرين مرة، وفي كل مرة أتراجع في اللحظة الأخيرة، لأنني كنت أخاف من ردة فعلها، أخاف من الخيبة المحتملة. فكرت في إيجاد مبرر واحد للاتصال ولكني لم أجد. ماذا سأقول لها إن هي سألتني عما أريد!


في أحد أيام الجمع وكالعادة خرجت من العمل، وأخذت الميترو باتجاه البيت. نزلت في محطة الحي الذي أسكنه، وذهبت إلى مركز الحي للتسوق. دخلت ” الشوب سنتر ” الذي هو عبارة عن سوق كبير، مغلق ومدفأ، يحتوي على عدة مولات كبيرة ومشهورة ومحلات متوسطة الحجم، ومطاعم وكافيات. فيه كل ما يحتاج المتسوق. اشتريت ما أحتاج خلال دقائق، لأنني أكره التسوق، ثم اتجهت إلى المنزل.


في المنزل بدأت أطهو الطعام، وأعطيت لنفسي الوقت الكافي لأن لدي فائضاً من الوقت. ما أن أوشك الطعام على النضوج حتى رن جرس الباب. لا بدّ أنه كاظم، فلا أحد يأتي بدون موعد إلاه. فتحت الباب وانا مرتاح لقدومه وقلت:




ــ أهلاً كاظم.


دخل دون أن يرد التحية وبيده ” بطل نبيذ “، وقال:


ــ رائحة طعام طيب.


قلت:


ــ أعتقد ذلك.


جهزت الطاولة ووضعت صحنين وسكبت الطعام في قدر كبير نسبيا. جلب كاظم كأسين للنبيذ ووضعهما مع زجاجة النبيذ على الطاولة وجلس. قلت:


ــ لا أريد النبيذ.


قال باستنكار:


ــ لماذا؟


قلت:


ــ لا أشرب إلا يوم السبت ليلا.


سكب لنفسه وقال:


ــ حياتك مملة كالسويديين.


راح يقدم فلسفته عن الحياة معتبرا أن كل الاحتياجات المرتبطة بالمشاعر والتي تؤثر على مزاج الإنسان لا قانون لها ولا يجوز ضبطها بقانون. وقت شرب الخمر عندما يشعر الإنسان أنه يحب أن يشرب، ووقت ممارسة الجنس عندما تثار غريزته ويشعر بالرغبة في ذلك.


قلت:


ــ في هذه الحالة تصبح عبدا لغرائزك وتقلبات مزاجك.


قال:


ــ نعم وهو كذلك.


فوجئت بإجابته وإقراره أنه يتبع غرائزه. كان هدفي استفزازه ودفعه لإنكار ما قال. تابع كلامه:


ــ هذا الأمر لا يقتصر عليً فقط، إنه يشمل الجنس البشري. إن الغرائز هي التي تحرك العالم قاطبة، وهي التي تثير الحروب وتسبب المآسي والكوارث، وهي سبب التقدم العلمي والاكتشافات والاختراعات. هي التي جعلت حضارتنا سهلة وفيها الكثير من الرفاهية، وهي التي أوصلت الإنسان إلى الفضاء. وهي السبب في المجاعة في أفريقيا، وقتل ما لا يقل عن ثلاثة ملايين عراقي وسوري خلال العشرين سنة الماضية، وملايين الأفغان والصوماليين قبل ذلك بقليل. الغرائز تشكل الحافز والدافع لكل شيء في الوجود. رغم أننا ننكر ذلك ليل نهار، ونترفع عن الإقرار والاعتراف بهذا، إلا أنها تبقى سيدة الموقف بلا منازع. الإنسان يمارس سياسة الإنكار كي يرضي نرجسيته. فهو لا يحب أن يضع نفسه بالمقارنة مع الحيوانات التي حياتها محض غرائز. الإنسان يمارس الإنكار ليقول إنه أرفع وأرقى من الحيوانات، فهو حيوان مفكر مبدع وكل تلك الترهات، ولكنه في الواقع هو يغطي حيوانيته بقشرة رقيقة من الادعاءات. انظر بعمق إلى واقع الإنسان عموما تجد أنه عبد للغرائز. غريزتا العدوانية والبقاء هما الأصل، ثم تتفرع عنهما غرائز كثيرة كـ “الأنا ” وحب الذات والاستحواذ المرضي وغير ذلك. إنها الغرائز التي تشعل كل تلك الحروب والمآسي وهي بنفس الوقت سبب لتطورنا والتقدم العلمي.




توقف عن الكلام. سكب لنفسه كأسا من النبيذ. سادت لحظات من الصمت. لأول مرة نتناقش في هذا الموضوع. أو بالأصح يعبر هو عن رأيه في هذا الموضوع. شعرت بفوضى في رأسي. لقد مارس كاظم سياسة الصدمة تجاهي. فلا قادر على الرد عليه ولا قادر على الاقتناع بما قاله. أحتاج إلى بعض الوقت لكي أفكر بوجهة النظر تلك.


قلت:


ــ أما لك رغبة في الأكل؟


قال:


ــ بالتأكيد.


سكب لنفسه صحنا، وبدأ يأكل. ثم بدأنا نتحدث عن أشياء متفرقة، العمل ومشاكله، الأهل في السويد، والأقارب في سوريا والعراق. ثم تحدثنا عن ماريا عندما هو سألني:


ــ ألم ترَ ماريا؟


قلت:


ــ لا منذ أن انتهى عرض المسرحية.


بعد الساعة التاسعة أصبح كاظم في حالة سكر. نام في مكانه على الأريكة. استطعت أن أمدده بشكل مستقيم وغطيته باللحاف، ثم أطفأت الإنارة وذهبت إلى غرفتي لأنام.


استيقظت صباحا. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة. أسرعت إلى الصالون لأرى إن كاظم غير موجود. لا أعرف متى غادر ولكني وجدت ورقة على الطاولة، كتب عليها ما يلي ” أعتقد أن ماريا تحبك “.


هذه الجملة كانت صادمة، أيقظتني وأثارت لدي مشاعر حب جارفة لماريا. أعدت قراءتها مرات وكأنها حقيقة مسلّم بها. اتصلت بكاظم وقلت:


ــ لماذا كتبت تلك الجملة؟


قال:


ــ لأنك تحبها جدا.


سألت:


ــ وهي؟


قال:


ــ لا أعرف.


صحت باستنكار:


ــ لا تعرف! كيف ذلك!


قال:


ــ انتبه لما كتبت. انتبه لأول كلمة ” أعتقد “.


سألته:


ــ وكيف توصلت إلى اعتقادك هذا؟


قال:


ــ التقيت بها عدة مرات في الفترة الأخيرة، فمن خلال مجموعة من المواقف والتعابير التي تظهر على وجهها عندما أتكلم عنك بشكل أو بآخر استنتجت أنها تحبك. على كل حاول أن تلتقي بها.


سألت:


ــ ولكن كيف؟


قال:


ــ لا أعرف.


أنهيت المكالمة مع كاظم ورحت أدور في الشقة. حديثه جعلني أكثر تعلقا بها وأكثر توترا من السابق. ذهبت إلى المطبخ وأعددت القهوة ثم سكبت فنجان قهوة وخرجت إلى الشرفة لأدخن. أشعلت سيجارة وأنا أفكر بطريقة ما كي ألتقي بها. لم أستطع التركيز، بقي تفكيري أسير النقاش الذي حدث منذ قليل مع كاظم. أطفأت السيجارة في قطرميز صغير مخصص لأعقاب السجائر، ودخلت إلى الصالون. التقطت الموبايل ومفتاح الشقة ووضعتهما في جيب المعطف، ثم اتجهت إلى باب الشقة، لبست حذائي وخرجت.


لا أعرف لماذا خرجت، ولا إلى أين سأذهب. أشعلت سيجارة، وتركتها في فمي، ووضعت يدي في جيب معطفي ومشيت. كانت درجة الحرارة ناقص 10، والشوارع وممرات المشاة قد جُرفت وأُزيلت الثلوج المتراكمة، ورش البحص الصغير في ممرات المشاة لكي يقلل من خطر الانزلاق، بسبب تحول الثلج إلى جليد نتيجة انخفاض درجة الحرارة. رحت أصغي إلى وقع أقدامي على الجليد وأفكر بطريقة ما لرؤية ماريا. عندما لم أجد المبرر المقنع، قررت أن أتصل بها وأدعوها إلى فنجان قهوة. أما إذا سألتني عن سبب الدعوة سوف أقول لها إنه لا يوجد سبب، فقط أريد أن أراها. تحمست لهذه الفكرة، أطفأت السيجارة في سلة معلقة في الشارع مخصصة لذلك. وعندما أخرجت الموبايل ورحت أبحث عن اسمها تعالى صوت رنين الموبايل، وظهر اسم ماريا كمتصلة. ظننت أنني أرى اسمها خطأً، ولكن عندما دققت في الاسم تأكدت أنه اسمها. اقشعر بدني، إذ كيف يمكن أن تحصل هذه الصدفة! فتحت الاتصال وأنا مرتبك:


ــ مرحبا، صباح الخير.


ردت ماريا:


ــ مرحبا ماهر.


ثم أضافت:


ــ هل صباحك يبدأ الساعة الواحدة.


قلت:


ــ لأنك تتحدثين معي يصبح الوقت صباحا.


ضحكت ماريا وصاحت:


ــ أنت شاعر، هذا رائع، هل لديك وقت لكي نلتقي؟


أجبت باندفاع:


ــ طبعا لدي كل الوقت. متى؟


قالت:


ــ اليوم مساء….


توقفت قليلا ثم تابعت:


ــ الساعة الخامسة والنصف أو السادسة.


قلت:


ــ السادسة


اختارت ماريا مكانا للقاء، وأرسلت لي العنوان. اتصلت بكاظم وجوان واعتذرت عن القدوم إلى جلسة يوم السبت. في الخامسة وخمسين دقيقة كنت في المكان. دخلت، أجلت النظر لأختار مكانا مناسبا، لمحت أحدهم يرفع لي يده، عندما التفت رأيت ماريا جالسة في زاوية الكافيه، أسرعت اليها، تعانقنا وجلست قبالتها. رأيت أوراقا على الطاولة وفنجان قهوة وموبايل. قالت:


ــ غالبا ما آتي إلى هنا، عندما تكون لدي مسرحية لأقرأها ولأتخذ قرارا بشأنها، فالمكان هادئ يساعد على القراءة والتفكير.


كنت أصغي اليها، أنظر اليها نظرة العاشق، الذي لا يرى في هذا الكون إلا الحبيبة. تابعت ماريا:


ــ عُرضت علي مسرحية، قرأتها وأعجبتني، وأريدك أن تكون معي في دور مهم.


كنت مستعدا أن أقبل أي شيء، سواء كان دورا في مسرحية أم أي شيء آخر، المهم أن أكون إلى جانبها، أراها وأتحدث إليها. قبل أن أتكلم أضافت:


ــ هي مسرحية لكاتب سويدي، عاش في لبنان، بيروت، كمراسل لصحيفة أمريكية مشهورة، كتب قصة حب عاشها هو شخصيا.


قلت:


ــ حلو، هذا جميل.


تابعت ماريا:


ــ القصة تتلخص أن الكاتب أحب صبية لبنانية، كانت على علاقة مع شاب لبناني قبل أن تتعرف على الرجل السويدي. أنهت علاقتها به وأقامت علاقة مع الرجل سويدي. يكتشف الشاب اللبناني العلاقة. تشتعل نار الغيرة في أعماقه، يلاحقها ليمنع الزواج بينهما.


قلت:


ــ أنا جاهز.


تابعت ماريا:


ــ سأعطيك نسخة من المسرحية، اقرأها ومن ثم سوف نتناقش.


سألتها:


ــ هل القصة حقيقية؟


أجابت ماريا:


ــ نعم حقيقية. أنت سوف تلعب دور الشاب اللبناني.


توقفت قليلا ثم تابعت:


ــ القصة مشوقة، ولكن الأهم الرؤية. موضوع الغيرة عُولج كثيرا جدا وفي مسرحيات وأفلام عالمية. هنا سوف أتناوله من زاوية أخرى، وسوف نتحدث عن ذلك.


انتبهت أن المكان رومانسي إلى أبعد حد، أضواء خافتة، موسيقا ناعمة، لون الأثاث وغطاء الطاولات أحمر، لوحة معلقة على الجدار المقابل لي، تتعلق بحفلة رقص، تظهر الصالة مكتظة بأزواج من الرجال والنساء وهم يرقصون، وفي مقدمة اللوحة، يظهر رجل وامرأة يمارسان الجنس تحت إحدى الطاولات، غير مهتمين بما يدور من حولهما.


لفت نظري رجل، طويل، ذو عضلات ضخمة، دخل الكافيه، وعيناه مغروزتان في وجه ماريا، التي كانت تنظر إلى أوراق على الطاولة. مر بجانب الطاولة، ووضع يده عليها، ثم نقر بإصبعه على سطحها، وتابع طريقه إلى عمق الكافيه وجلس. عندما رفعت ماريا بصرها ورأته اضطربت، واحمرت وجنتاها وتكدر وجهها. حاولت ألا تلفت انتباهي. لملمت أوراقها وأشياءها بهدوء وهي تنظر بطرف عينيها إليه، ثم قالت:


ــ هل تحب أن تقرأ النص من الكمبيوتر أم أعطيك نصا ورقيا؟


قلت:


ــ لا يهم، أي شيء متوفر.


قالت:


ــ لدي الاثنان، أنا مثلا أحب الورق. على كل هذه نسخة ورقية وإن أردت ملفا يمكن أن أرسله لك.


أعطتني دفترا ذا سلك معدني. قلبت أوراقه ثم أغلقته ووضعته أمامي ونظرت إلى ماريا. كانت تنظر إلى ذلك الرجل خلسة بين حين وآخر. بدت مشوشة الذهن، مزاجها ليس جيدا. حاولت أن أصرف نظرها عن ذلك الرجل فرحت أحدثها عما فعلته البارحة واليوم الذي سبقه. تفاعلت معي بشكل جزئي، لم تكن حاضرة كعادتها بشخصيتها القوية والفعالة، بل كانت مضطربة قليلا. مر الوقت بطيئا جدا ومملا، ربع ساعة فقط ولكأنها يوم. نهضت ونظرت نظرة سريعة باتجاه ذاك الرجل الضخم، ثم التفتت إلي وقالت:


ــ يجب أن أذهب، نلتقي بعد أسبوع، في نفس الوقت، ما رأيك؟


نهضت وقلت:


ــ حسناً، أنا أيضا سأذهب.


خرجنا من الكافيه، وذهبنا باتجاهين مختلفين. هي ذهبت إلى المحطة المركزية لتأخذ الميترو وأنا ذهبت باتجاه أُوسترمالم حيث أسكن. في الطريق إلى شقتي، شعرت بالخيبة التي منيت بها بسبب ذلك اللقاء السيء، ولكن لدي أمل كبير أنني سألتقي بها ولعدة أشهر متواصلة.


التقينا بعد أسبوع. عندما دخلت، كنت جالسا أنتظرها. عانقتني، خلعت معطفها ووضعته على مسند الكرسي. ذهبت إلى المحاسب، طلبت قهوة مع قطعة معجنات محلاة بالعسل، ثم حملت طلبها إلى الطاولة وجلست. نظرت إليها بحب، بدت حزينة وهي تشرب القهوة. لاحظت أن لا أوراق لديها. سألتها:


ــ ماريا، ما بك؟


قالت بحيادية:


ــ ألغيَ مشروع المسرحية، اختلفت مع الكاتب وأنهينا التعاون بيننا.


قلت:


ــ ليكن، هو الخاسر، كل الكتاب يتمنون العمل معك.


لاحظت أن عينيها لمعتا بذلك البريق الذي كان يتوهج فيهما، والذي اعتدت عليه في الفترة السابقة. لمعان النجاح والنشاط الذي يجعلها كتلة من الحيوية والحركة. التقطت هذا الإحساس الذي بدأ يتشكل عندها، والذي بدأ يرفع من حالتها المزاجية. ارتاحت تعابير وجهها، وتشكلت ابتسامة على شفتيها وأنا أحدثها عن أشياء مختلفة. فجأة انهار المزاج الإيجابي عندها، وبدت قلقة ومتوترة وكأنها تريد الهروب من المكان. عندما التفت إلى مصدر القلق رأيت نفس الرجل الضخم يجلس قبالتها ويغرز عينيه في عينيها. قالت:


ــ لنخرج من هنا.


نهضنا وخرجنا بسرعة. كانت درجة الحرارة ناقص سبعة. مشينا متجاورين باتجاه معاكس لمركز المدينة. التفتت ماريا مرتين للخلف، ثم تأبطت يدي. سعدت لهذه الحركة، بل شعرت أنني أسعد إنسان. مشينا صامتين. فكرت في هذا الرجل. من يكون بالنسبة لها؟ ولماذا يلاحقها ولماذا هي تقلق عندما تراه؟ أردت أن أسألها عنه، ثم تراجعت لأنني أريدها أن تكون سعيدة معي، لذلك رحت أفكر في طريقة تجعل مزاجها رائقا. قلت:


ــ ما رأيك أن نذهب لمطعم ونتناول العشاء مع كأس من النبيذ؟


لم تجب ماريا، اكتفت أن هزت كتفيها وهي تنظر إلى الأمام، وعيناها تائهتان في الأفق. عاد الصمت بيننا كما كان. أنا أكره هذا الصمت عندما أكون معها، أريدها أن تكون حاضرة معي في كل لحظة. إلا أنها دخلت في عالمها الغامض بالنسبة لي. كانت مجرد جسد يسير إلى جانبي، بينما كانت تعيش صراعات قوية في أعماقها، لا تريدني أن أعرفها.


Stockholm Sweden in Winter | Run For Life: In dark, in light snow ...


مشينا بشارع ستراند فيغن، حيث إلى اليسار تقع أوسترمالم وإلى اليمين أحد الألسنة المائية للأرخبيل الضخم الذي تقوم عليه ستوكهولم. على امتداد اللسان المائي تصطف القوارب ــ المطاعم. اخترت أحد البارات ـ المطاعم التي اعتدت زيارتها بين فترة وأخرى ودخلنا إليه. كان عدد الزبائن لا يتجاوز العشرة. اخترت مكانا قصيا وجلسنا. أتى النادل، طلبت منه ما نريد، بينما كانت ماريا تتأمل تموجات الماء الخفيفة وانعكاس الأضواء على سطحه. ربما جذبتها حركة الأمواج الخفيفة، وأدخلتها في دهاليز ذكريات أليمة مع ذلك الرجل الذي يرصد كل تحركاتها في المدينة.


بعد أن أصبحت الطاولة جاهزة لإقامة سهرة ممتعة، بدأت أحشد كل طاقتي الإيجابية لإخراج ماريا من قلقها وحزنها اللذين يمنعانها من التفاعل. وضعت يدي على يدها المسترخية على سطح الطاولة، وضغطت عليها برفق وقلت:


ــ ماريا، أتينا إلى هنا لنرتاح من كل الهموم والأحزان. أرجوك اِنسي كل شيء مزعج.


ثم رفعت كأسي وقلت:


ــ بصحتك.


رفعت ماريا كأسها وقالت:


ــ بصحتك.


سألتها:


ــ هل سمعت عن قصص ألف ليلة وليلة؟


أجابت:


ــ طبعا سمعت ولكن لم أقرأها.


حدثتها عن شهريار الملك المستبد، الذي يقتل كل يوم أجمل صبية في المدينة بعد أن يفض بكارتها، انتقاما من زوجته وزوجة أخيه اللتين خانتاهما. إلى أن أتى يوم لم يعد صبايا في المدينة، مما دفع الوزير، المكلف بإيجاد الضحايا للملك، أن يرسل ابنته، شهرزاد كضحية. ذهبت شهرزاد إلى الملك لتكون الضحية، إلا أنها استطاعت أن تؤجل موتها بأن راحت تقص على الملك قصة مشوقة إلى أن أتى الصباح. لم تنه شهرزاد القصة بل توقفت عن القص عندما وصلت الأحداث إلى ذروة الصراع والتشويق، مما دفع الملك أن يؤجل قتلها إلى اليوم التالي لكي يسمع بقية القصة. في اليوم التالي تابعت شهرزاد سرد قصصها التي راحت تتوالد من بعضها البعض، وكانت تتوقف عن الروي عندما يدركها الصباح بحيث تكون الأحداث في ذروة التشويق مما دفع الملك لأن يؤجل قتلها لليوم التالي. وهكذا تتالت الأيام وتتالت القصص ونجت شهرزاد من الموت، بل انتصرت على الموت بالروي وبالقصص التي أبدعتها.


كانت ماريا تصغي إلي باهتمام شديد. نظرت إلى عيني، تحثني على المتابعة. قلت:


ــ هذا هو الإطار العام لألف ليلة وليلة.


ابتسمت ماريا وسألتني:


ــ ماذا تريد أن تقول؟


أجبت:


ــ إذا كان هناك شهريار في حياتك فعليك أن تكوني شهرزاد. هو الكراهية وأنت الحب. هو العضلات وأنت الذكاء والحنكة. تغلبي عليه بذكائك ولا تهتمي لأمره.


الورقة السادسة


انتهى الشتاء، وذهب البرد والصقيع ولون الثلج الأبيض، وحل الأخضر في كل مكان، وانتشرت أشعة الشمس الدافئة، وخرج الناس إلى الهواء الطلق ونزعوا ثيابهم ليتعرضوا لأشعة الشمس، واحتلوا أرصفة الشوارع، والساحات، والحدائق، والشواطئ.


استمر لقاء السبت مع الأصدقاء كالعادة، لم يتغير فيه أي شيء. بالمقابل استمر لقائي مع ماريا، حيث اعتدنا، أنا وماريا، على اللقاء في مقهى إسبريسو في مركز المدينة. في الربيع رحنا نجلس إلى الطاولات التي في الخارج، على الرصيف، نستمتع بأشعة الشمس وبمشاهدتنا للعابرين. كان حديثنا عن الثقافة عموما، والمسرح بشكل خاص، والمشاريع التي تنوي ماريا القيام بها. لم نتحدث عن أي أمر شخصي، يخص حياة أحدنا، لأن ماريا كانت ترفض الحديث عن حياتها الخاصة، فكانت توجه الحديث إلى الشؤون العامة. تعلقت بها أكثر، ورحت أتحين الفرصة لكي أعبر لها عن حبي وعن رغبتي بأن نعيش سوية. كنت ألمس نفس الشعور والرغبة عندها أحيانا، وأحيانا أخرى أجدها غارقة في هموم غامضة بالنسبة لي.


في تلك الفترة وافقت ماريا على إخراج مسرحية جديدة. حدثتني عنها، وأعطتني نسخة منها، ليس كممثل له دور في المسرحية، وإنما كصديق وقارئ لكي نتناقش حولها. بعد أسبوع ذهبت إلى الكافيه، وأخذت مكانا كالعادة، إلى طاولة على الرصيف. اتصلت بماريا، وأخبرتني أنها في الجوار، بحاجة لدقيقة لتصل. ذهبت إلى المحاسب وطلبت فنجاني قهوة وفطيرتي جبنة بالعسل، لأن ماريا تحب هذا النوع من الفطائر. دخلت ماريا الكافيه وأنا أحمل ما طلبت. أشرت لها برأسي وقلت:


ــ حجزت طاولة في الخارج.


خرجنا كلانا إلى حيث الطاولة. وضعت الصينية عليها، بينما خلعت ماريا معطفاً خفيفاً كانت ترتديه ووضعته على مسند الكرسي، وجلسنا متقابلين. أخذت رشفة قهوة، ونظرت إلى عينيها. بدت مرحة، في مزاج جيد، قلت:


ــ قرأت المسرحية ولكنها لم تعجبني.


ابتسمت وهي تنظر إلي وقالت:


ــ عليك أن تقرأها أكثر من مرة. عندما قرأتها أول مرة كدت أن أرفضها ولكن قلت لنفسي، يجب أن أعيد قراءتها كي أتمكن من إعطاء رأي صحيح.


فجأة توقفت ماريا عن الكلام، وراحت تنظر إلى اليسار والأعلى. عندما نظرت بنفس الاتجاه رأيت نفس الرجل الضخم ذي العضلات القوية. كان واقفا مستندا بكلتا يديه على حاجز الحديد، الدرابزين، الذي يفصل الطاولات عن الطريق، وينظر إليها بعينين ناريتين وتعابير وجهه قاسية ولئيمة إلى أبعد حد. قال بلهجة وقحة:


ــ كم مرة حذرتك أن تبتعدي عن هذا التافه.


كان موقفا مفاجئا بالنسبة لي إلى درجة لم أعد قادرا على التصرف أو أن أقول أي شيء. كان لا بد من فعل شيء ما، كدفاع عن النفس، إلا أني لم أفعل أي شيء، فقط رحت أنظر إلى وجهه وعضلاته.


حاولت ماريا أن تسيطر على غضبها، فهي تجلس في الشارع تقريبا، كما أنها شخصية معروفة وأي خلاف علني أو مشادة كلامية سيتسبب لها بفضيحة كبيرة، لذلك قالت:


ــ أرجوك يا ميلتون أن تهدأ وتذهب من هنا، إنه مكان غير مناسب للحديث بهذه المواضيع.


تجاهل ميلتون رجاءها وتابع استفزازه لها ولي. قال بهدوء وكأنه يتحدث عن الطقس:


ــ لم تحسني الاختيار، ذوقك تافه كالعادة. ظننت أنك أصبحت أفضل بعد ابتعادنا عن بعض كل هذه الفترة، لكنك على العكس، ازداد ذوقك تفاهة.


شعرت بالإهانة، وأصبحت عصبيا جدا وبدأت أرتجف من شدة الانفعالات التي اجتاحتني، لذلك قلت باندفاع:


ــ من أنت كي تقول هذا الكلام السيء.


قاطعتني ماريا:


ــ ماهر أرجوك لا تتكلم. نحن في مكان عام.


التزمت الصمت، بينما راح ميلتون يضحك بسخرية. تابعت ماريا بصوت منخفض، وهي ما زالت مسيطرة على انفعالاتها:


ــ ميلتون توقف عن السخرية. يمكن أن نتحدث بكل شيء ولكن ليس الآن ولا في هذا المكان.


إلا أن ميلتون ازداد وقاحة. انحنى أكثر على الحاجز وقال:


ـــ هل يمارس الجنس بشكل جيد؟ هل تستمتعين معه أكثر؟


اجتاحتني انفعالات إلى درجة لم أعد أرى أمامي، ولم أفكر بأي شيء، لذلك أمسكت كأس الماء لأقذفه في وجه ميلتون، إلا أن ماريا صاحت:


ــ لا ماهر لا تفعل هذا، أرجوك توقف.


تراجعت عن فعل ذلك في اللحظة الأخيرة، وإلا كنت سأحطم وجهه. اكتفيت برشقه بالماء. سال الماء على وجهه، وهو ينظر إلي بكراهية، ثم مد يده الكبيرة وقبض على ياقتي وسحبني باتجاهه. ولأنني كنت جالسا، فقد سحب معي الكرسي والطاولة. صاحت ماريا:


ــ ميلتون كفى. توقف عن هذا. هذا لا يليق بنا. نحن في مكان عام ولا يجوز إثارة مشاكل من هذا النوع في الأمكنة العامة.


تجاهل ميلتون كلامها، واستمر في سحبه لي حتى كاد وجهي يلتصق بوجهه. حدق في وجهي وقال:


ــ عد إلى بلدك أيها الحقير، لقد لوثتم السويد بأوساخكم القذرة، لم نعد نحتمل وجودكم هنا


ثم دفعني للخلف وذهب. كدت أن أنقلب على ظهري، لكن الكرسي سندتني فجلست عليها. تلفت حولي رأيت الجميع ينظرون إلينا بدهشة. همست:


ــ يا إلهي كم هذا سيئ.


قالت ماريا:


ــ لنذهب.


نهضت وخرجت من المكان بينما وقفت ورحت أرتب ثيابي وأنا أشعر بالإهانة، ثم خرجت مسرعا خلف ماريا. لحقت بها، وسرنا بصمت. شعرت بالخجل من نفسي لأني لم أدافع عن ماريا وعن نفسي كما يجب أمام ذلك الوقح. انعطفنا إلى اليمين، إلى شارع كونغس غوتان، شارع الملك ثم انعطفنا يسارا، إلى شارع الأميرة، ثم يسارا إلى شارع أُولف بالمه وأخيرا وصلنا إلى سنتر ستاشون، المحطة الرئيسية للقطارات. لا أعرف إلى أين تمشي ماريا، ربما لا تقصد مكانا محددا، نمشي فقط لكي نخفف من عبء الإهانة التي وجهها ذلك العملاق لنا. دخلنا المحطة ونزلنا أدراجا كثيرة. في النهاية قلت لها:


ــ ماريا، إلى أين؟


توقفت ماريا عن المشي، وتوقفت بدوري، أمسكت بيدي، تبادلنا نظرات حب وتعاطف. قالت بصوت منخفض:


ــ سنذهب إلى شقتي.


ما أن فتحت ماريا باب شقتها وأغلقته خلفنا حتى ضممتها، راحت أنفاسها تضرب عنقي، وازداد وجيب قلبينا، وتبادلنا قبلة طويلة انتهت ونحن عراة في السرير. مارسنا الجنس كما لم أمارسه في حياتي. خضت غمار تفاصيل الجسد ببطء وبمتعة. حاولت أن أجعل ماريا تصل إلى لذة لم تصلها في حياتها. استخدمت كل تجاربي السابقة وكل معارفي في تضاريس الجسد الأنثوي لنصل معا إلى قمة اللذة. أحسست أنني أدخل امتحانا مع ذلك المارد ميلتون، وكأنني أردت أن يقول لماريا ها أنا ذا وأنت من يقرر من الأفضل.


بعد أن أخذنا دوشا، قالت ماريا:


ــ ما رأيك أن نخرج لنتعشى في أحد المطاعم.


أجبت:


ــ نعم فأنا جائع جدا.


طيلة الطريق إلى المطعم وأنا أشعر أنني أرافق ماريا أخرى غير التي أعرف. كانت تتحدث وتضحك دون توقف. نشرت البهجة والفرح من حولها. شعرت أنني أسعد إنسان في هذه ادنيا. جلسنا في المترو ويدها في يدي ورأسها على كتفي. قالت:


ــ أنت ساحر.


ثم رفعت رأسها ونظرت إلي وابتسمت. وهمست:


ــ هل تحبني؟


لم تنتظر الجواب. أعادت رأسها إلى كتفي وتابعت:


ــ كنت أسمع عن حب من أول نظرة ولم أكن أصدق هذا، إلى أن حدث معي. نعم لقد أحببتك من أول نظرة.


وضعت يدي حول خصرها وضممتها بقوة وهمست لها:


ــ لو تعرفين كم أحبك! كنت أظن نفسي أنني أحببت في السابق ولكن حبي لك جعلني أنظر الى الماضي بسخرية. لم يكن حبا، بل كان مجرد لهو.


غادرنا الميترو وصعدنا إلى الشارع. كان الليل قد خيم على ستوكهولم وأنيرت الشوارع وواجهات المحلات التجارية. تشابكت أيدينا، شعرت أنني شخص آخر، ماهر جديد، مميز جدا عن الآخرين بحيث استطعت أن أحظى بقلب امرأة مميزة جدا.


اختارت ماريا مطعما جميلا، أجواؤه هادئة، أضواء خافتة، موسيقا رومانسية هادئة تنساب بعذوبة في أرجاء المكان. جلسنا إلى طاولة متقابلين، أمسكت يدها، بينما أشعل النادل شمعتين على طاولتنا وهو يبتسم. تحدثنا كثيرا وفي مواضيع مختلفة، لكنها لم تتحدث عن ذلك الرجل وعلاقتها به. كما أنني لم أسألها لأن ذلك سيغير مزاجها بالاتجاه السيء. كانت نشطة، حيوية، عيناها تشعان، وكلامها يتدفق في مواضيع مختلفة. تحدثنا عن المسرح كثيرا، عشقها الأبدي وعن طموحها في أن تذهب إلى لندن وباريس وفيينا وأثينا ومدريد وموسكو وتقدم مسرحياتها وأن تكون مخرجة رقم واحد.


عدنا إلى الشقة بمزاج مرتفع. شرعت أتأمل اللوحات المعلقة على الجدران، شعرت أنني في معرض للوحات عالمية. بينما دخلت ماريا إلى غرفة نومها لتبدل ثيابها ولتبحث عن بيجاما لي. سمعت صوتها:


ــ ماهر، تعال لتلبس بيجاما.


دخلت غرفة النوم. كانت ماريا تجثو على ركبتيها، وقسم من جسمها داخل الخزانة، تخرج منها بعض الثياب، قالت:


ــ البيجاما على السرير لم تُلبس. جربها.


ثم أضافت وهي تكلم نفسها:


ــ يا للشيطان، إنها ثياب ميلتون الحقير. يبدو أنه نسيها.


أخرجت سترة، وبنطالي جينز وقميصين، وتي ــ شيرت الذي لفت انتباهي بألوانه. التقطته وفردته، لأنه كان مطويا. أصبت بصدمة وأنا أرى رمز ــ لوغو التيار النازي في السويد. صحت:


ـــ ماريا، انظري


عندما التفتت ماريا ورأتني أحمل تي ــ شيرت تجمدت عيناها على اللوغو، ثم نهضت ببطء، وأخذته وراحت تسب ميلتون وتسب أمها. فجأة تحولت إلى امرأة أخرى، غاضبة وساخطة على نفسها وعلى حياتها. جمعت ثياب ميلتون ووضعتها في كيس من البلاستك وخرجت إلى الصالون. خرجت خلفها، رأيتها تعبر الصالون إلى حيث باب الشقة، فتحته وخرجت. بقيت لوحدي وطنين هائل في أذني، وفراغ في رأسي.


عادت بعد دقائق وقد تغير مزاجها، انقلبت رأسا على عقب. ذهب كل النشاط واختفى السحر من وجهها وتحولت إلى امرأة محبطة. أصيبت باكتئاب طارئ. جلست على الأريكة وهي في غاية الحزن. قالت:


ــ رميت كل أشيائه في القمامة، حيث المكان المناسب لها.


نظرت اليها ودُهشت لهذا التبدل في مزاجها، اقتربت منها وجلست إلى جانبها واحتضنتها. حاولت أن أحسن مزاجها وأن أُبعد شبح الاكتئاب عنها. تحدثت مطولا، كيف ومتى أحببتها، رويت لها قصصا عن شقاوة الطفولة والمراهقة. إلا أن تفاعلها كان متدنيا، لم أستطع أن أُخرجها من حزنها الطارئ. طلبت منها أن تذهب إلى السرير وتتمدد. أمسكت بيدها ونهضنا، دخلنا غرفة النوم، تمددت على السرير، وتمددت بجانبها واحتضنتها. انكمشت في حضني كقطة وديعة وبقيت صامتة. مر الوقت بطيئا، أكثر من نصف ساعة ونحن صامتان. في النهاية قالت:


ــ إنه وغد!


كانت تقصد ميلتون، ثم أضافت:


ــ يجب أن آخذ حبة تساعدني على النوم فلدي الكثير لأعمله غدأ.


أكدت:


ــ نعم هذا جيد.


نهضت وخرجت إلى المطبخ، بينما أنا نهضت إلى الصالون. بعد دقيقة دخلت إلى الصالون، اقتربت مني وتبادلنا قبلة سريعة وقالت:


ــ نوم جميل أتمناه لك.


قلت:


ــ ليلة هادئة أتمناها لك، نلتقي غدا.


ذهبت إلى غرفة نومها، بقيت أنا في الصالون. حولت الأريكة إلى سرير وتمددت عليه، محاولا أن أطرد شبح ميلتون وشبح اللوغو. مرت ساعتان حتى استطعت النوم.


انتهى الربيع ونحن نلتقي بشكل يومي. لا أعتقد أنه مر يوم دون أن نلتقي. كان أجمل ربيع يمر في حياتي كلها. ازداد حبي لماريا وتعلقي بها. كما أصبحت جزءا مهما في حياتها، أدخلتني في كثير من تفاصيل حياتها اليومية كمساعد لها أو كناصح. كانت كلما أرادت الذهاب إلى أي مكان، سواء كان ذلك داخل السويد أم خارجه، تتصل بي كي أرافقها.


في سياق حياتنا المشتركة حدثتني عن تفاصيل كثيرة في حياتها. عرفت أنها أكبر مني بـ 7 سنوات، فهي من مواليد ستوكهولم 1982. أبوها مهندس وأمها معلمة لغة، كانت مدمنة كحول مما اضطر الزوج، لهذا السبب ولأسباب أخرى، أن ينفصل عنها ويحصل على حق رعاية الطفلة ماريا. أثناء رعاية الأب لماريا عاشت طفولة ممتعة وسعيدة، لقد كان أبا عطوفا، قدم لماريا كل شيء يمكن أن يقدمه أب لابنته. عندما أصبح عمر ماريا أحد عشر عاما توفي الأب بسبب جلطة قلبية. شكلت وفاته صدمة كبيرة لماريا، وشعرت بالفقد لأول مرة. فقدٌ ولَّد حزنا كبيرا، رغم طفولتها شعرت بوطأة الحزن الذي استمر معها لفترة طويلة بعد وفاة الأب. عادت وعاشت ماريا عند أمها بعد أن تعالجت من الإدمان إلى أن توفيت بسبب مرض السرطان وماريا عمرها 19 سنة. كانت الأم من مؤيدي التجمع المعادي للمهاجرين ومن مناصري التيار النازي، القليل العدد ولكن بدأ يكبر مع تدفق المهاجرين من جهات الأرض الأربع . أثرت الأم على ماريا في فترة المراهقة، وكانت حريصة أن تصطحبها إلى كل النشاطات والفعاليات التي يقوم بها ذلك التجمع، وأدخلتها في منظمة خاصة للمراهقين تتبع لهذا التيار تحت اسم آخر. مهمة المنظمة القيام بنشاطات ترفيهية، رحلات، نزهات، تزلج على الجليد، ونشاطات رياضية أخرى. تأثرت ماريا بذلك الوسط المحيط بها، وأصبح لديها أصدقاء وصديقات. كانت أفكار التيار تقدم للأطفال والمراهقين عبر تلك النشاطات الترفيهية بحيث يصبح الطفل أو المراهق حاملا ومعبرا عن تلك الأفكار بشكل تلقائي وبدون تفكير مسبق، تصبح الأفكار مثل اسمه.


في هذا المناخ التقت ماريا بميلتون الذي يكبرها بخمس سنوات. شاركا في كثير من النشاطات الترفيهية وكان ميلتون عضوا نشيطا ومتحمسا لأفكار التيار. ثم أصبح رئيسا للمنظمة التي تقرر النشاطات وتنظمها وتديرها. كان ميلتون شابا مليئا طاقة وحيوية، لا يهدأ، دائم الحركة، لديه مقترحات مبتكرة لنشاطات جديدة. ما إن ينال موافقة الهيئة الإدارية للمنظمة حتى يباشر في تنفيذها. عندها يصبح كتلة من النشاط المتدفق، تظهر مهارته في الحشد والتعبئة والتنفيذ. ينجز كل المهام الموكلة له على أفضل شكل.


أُعجبت ماريا المراهقة بنشاط وحماس ميلتون وأحبته وشاركته كل النشاطات التي قام بها، بل أصبحت مثله فعالة، أدارت العديد من النشاطات بمساعدته وتحت إشرافه. لذلك أحبها حبا قويا بل جارفا، حبا يتلاءم مع شخصيته، التي تقتنع بالأفكار المتطرفة. شخصية ميلتون من النموذج المتطرف لجهة علاقاته مع الأفكار أو الأشخاص الذين يرتبط بهم لسبب أو لآخر. لديه دائما ثنائية " الحب والكره " الحب إلى أقصى حد ممكن والكره إلى أقصى حد ممكن. لذلك كان حبه لماريا حبا قويا جدا.


عندما بدأت ماريا دراسة الإخراج المسرحي، بدأت تتغير، حيث بدأت أفكار كتاب المسرح العالمي تفعل فعلها في رأس ماريا. بدأت تشعر أن أفكار ذلك التيار لا تتناسب مع رؤيتها التي راحت تتغير يوما بعد يوم. لم تجد ماريا في التيار ما يشبع روحها التواقة إلى الحب. حب زرعه أبوها، حب يشمل الإنسانية جميعا. راحت تقارن بين أبيها وميلتون والآخرين في التيار. أدركت أن أفكارهم ليست إلا أفكارا تحرض على الكراهية. كما أن حبها للمسرح راح يزيد من حبها للإنسانية ويبعدها عنهم، حيث لا يمكن أن يتوافق المسرح مع الكراهية، لأن المسرح هو دعوة للحب وللحياة ونبذ الكره.


في السنة الثانية من دراستها الجامعية ارتبطت مع ميلتون بعلاقة سامبو. في نفس الوقت بدأت تبتعد عن أفكار التيار التي تحرض على الكراهية. لم يحدث الابتعاد بشكل مفاجئ أو سريع، بل بشكل بطيء، إلا أن حادثة وقعت سرعت من وتيرة الخلاف وكانت بمثابة الصاعق الذي فجر خلافا شديدا بين ماريا من جهة وميلتون والتيار من جهة أخرى. قام ميلتون ومن معه بالتخطيط للقيام بمظاهرة ضد مظاهرة كان قد أُعد لها من قيل تيارا يناصر المهاجرين، في ساحة " سيغيل توريت ". لم يكتف ميلتون بالمظاهرة، بل قام بإعداد عشرة من الشباب، أعمارهم تتراوح بين 16 و20 عاما، ذوي أجساد رياضية ويتمتعون بلياقة بدنية عالية، وزودهم بعصي لها زوائد حادة، ليعتدوا بالضرب على ناشطين وسياسيين معروفين من الطرف الاخر. كان عليهم أن يتسللوا إلى المظاهرة الأخرى، وقد أخفوا عصيهم تحت ثيابهم، ويتوزعوا بينهم ويذهب كل واحد منهم إلى الهدف الذي حُدد له. ما إن يبدأ التصادم بين المظاهرتين وتبدأ الشرطة بالتدخل لتفريق الطرفين وإبعادهم عن بعضهم البعض حتى يهجم كل واحد من هؤلاء الشباب على هدفه ويضربه بعنف بحيث يشكل أذية قوية للهدف ثم يهرب.


هذه الخطة حكاها ميلتون لماريا مساء وقبل أن تبدأ المظاهرة بخمس عشرة ساعة. اعترضت ماريا ودار نقاش حاد بينهما تطور إلى خلاف شديد، ارتفعت أصواتهما وتحول إلى صراخ أُوقِف عندما سمعا نقرا على الباب. نهضت ماريا وفتحت الباب. كانت جارتهما التي تسكن فوق شقتهما. أبلغتها أن صوتهما مرتفع إلى درجة أنها عرفت تفاصيل النقاش، ثم ابتسمت وقالت:


ــ عندما ترتفع الأصوات تغيب الحكمة.


ردت ماريا مبتسمة ولكن مرتبكة:


ــ هذا حقيقي، نحن نأسف لهذا وسوف نكف عن النقاش.


ذهبت الجارة بينما أغلقت ماريا الباب ودخلت إلى غرفة النوم. ارتدت ثيابها وخرجت دون أن تقول أي كلمة لميلتون. ذهبت إلى مركز البوليس وتحدثت إلى المسؤول عما يفكر ويخطط ميلتون وأصدقاؤه أن يفعلوا غدا. ألغت الشرطة الموافقة على مظاهرة ميلتون وأصدقائه، وتم حشد أعداد غير عادية من الشرطة قبل موعد المظاهرة بساعتين، ولم يسمحوا لأي من أفراد مجموعة ميلتون أن يتواجدوا في المكان. فشلت خطة ميلتون وبدأ أصدقاؤه يبحثون عن الذي أفشى السر للشرطة. شك ميلتون بماريا ولكن لم يصل إلى قناعة راسخة بأن ماريا هي السبب. بعد شهرين وأثناء حديث جرى بينهما اعترفت ماريا أنها هي التي أبلغت البوليس عن الخطة. لم يستسلم ميلتون وبقي يراهن على إعادة ماريا إلى ما كانت عليه أيام النشاطات الترفيهية والمنظمة الشبابية. كما أن ماريا استمرت مع ميلتون تحاول من جهتها أن تبعده عن التيار وأفكاره. قال لها في إحدى الامسيات:


ــ أنا مستعد أن أتخلى عن كل شيء من أجلك.


لكن تبين فيما بعد أنه كان يكذب. استمرت الخلافات في تسميم حياتهما المشتركة وتساهم في تعزيز أسباب انفصالهما الذي حصل فيما بعد..


العامان الأخيران كانا مليئين بالشجار بينهما إلى درجة هددها بالقتل إن هي تركته. أذكر أنني قاطعتها حينها وسألتها مستنكرا:


ــ هددك بالقتل القتل!؟


قالت:


ــ نعم بالقتل. ميلتون إنسان متطرف في كل شيئ. بنيته النفسية هكذا. يُحب حبا مرضيا ويكره كرها مرضيا.


استمرت الخلافات والمشاكل بحيث جعلت الحياة المشتركة لا تطاق، لذلك قررت ماريا أن تبتعد عن ميلتون الذي أصر وعاند وحاول مرارا أن يؤجل إلا أن عنادها كان قويا لا يقاوم.


اختفى ميلتون من حياة ماريا، لأنه اقتنع أن ماريا لن ترتبط به مجددا. مرت عدة أشهر حتى التقينا ذلك اللقاء الشهير عندما هاجمني ميلتون وكاد أن يخنقني.


في بداية الخريف قررنا، ماريا وأنا، أن نعيش سوية في شقة واحدة كسامبو.


سمعت وقع أقدام أمام باب غرفتي. نظرت إلى الساعة كانت الثانية عشرة. فُتح الباب وأطلت ماتيلدا. قالت:


ــ مرحبا ماهر.


قلت:


ــ أهلا وسهلا


خرجت من الغرفة وأنا أنظر إليها. لم تكن على ما يرام. بدت حزينة. اقتربت منها أكثر وقلت:


ــ لِمَ أنت حزينة؟


ابتعدت عني وتابعت سيرها باتجاه الغرف لتكمل عملها بينما تابعت سيري إلى صالة الطعام.




































































































































































































































































































































































































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الحيّ الشرقي / 5- 6

19-أيلول-2020

رواية الحي الشرقي لمنصور المنصور

12-أيلول-2020

الحي الشرقي / رواية

05-أيلول-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow