Alef Logo
يوميات
              

صيد في أخوال الوادي

عبد الرحمن عفيف

2008-07-05

رمى جدّ فرج برأس البقرةِ أمامنا وقال لفرج:" اذبح البقرة وتعال مبكّرا إلى البيت واحلب البقرة وتعال متأخّرا إلى البيتِ؛ نصنع اليوم بوظة صيفيّة قامشلوكيّة مع بعض الدّبس في سنين العرس والثّلج وتبكي البقراتُ السنونويّة عليّ حين أحلج حياتي الحاسمة في أورقامشليم." استمع فرج جيّدا إلى جدّه وحمل رأس البقرةِ وكانت الآن بقرنين كبيرين وعرفت أنّني في الظّلام كنتُ أظنّ الرأس رأس بقرة وفي الحقيقة بعد أن سطع النّجم كانت رأس ثور ويسيل الدم على فكّه. نزل إلى الوادي وبعد عدّة خطوات سمعت فرج يقول:" لماذا زرتني الآن يا جدّو برأس الثّور الجريح، لأضعه على لوحة القامشليم وقد اسودّ محياي وأنا أطارد السنونوات التي صارت بقرات في وادي الجقجق." عندها سطع النّجم من ضفّته وصار أسطع وأسطع والتهب في النّار وصار نارا خالصة ثمّ ابترد وأصبح قمرا وهلالا ضعيفا، يرعى على الضفّة الواضحة من الجقجق المسترسل في حديث مع ضوء ضفّته. أخذ فرج المقلاع الذي تركه جدّه ونزل إلى النّاحية الأخرى من الجقجق، هناك حيث تعيش أسراب الكراكي والعصفورات الحنّائيّة الخجولة، وحيث يعيش حجرٌ يتكلّم. تأمّلت فيما حولي، فلم أشاهد ما يدلّ على أنّني بالفعل في القامشلي وأنّ هذا الماء الجاري هو نهر الجقجق. حين وصلنا إلى الوادي، لم يكن الوادي هو الوادي الذي كنّا نقصده والخطط التي وضعناها في مخيّلتنا له، لم تفد في شيء. ومدينة القامشلي أيضا كانت قد حلّت مدينة أخرى محلّها، هكذا كتب على اللّوحة الحديدة في مشارف المدينة" أنتم في أورقامشليم". الشّمس بقيت للحظات قليلة عالقة في السّماء ثمّ اختفت بغتة وبقي نورٌ قليلٌ يضيء في الأعالي، نظرتُ إلى السّماء الداّكنة في جميع أرجائها ورأيت فقط نجمة داوديّة تنفتح وتنغلق على نفسها مثل زهرة قرمزيّة تتفتّت على مزهرية العنق. نظرت إلى صاحبي الذي ادّعى أنّه عمّي وصار اسمه الشّيخ فرج بصلو بعد أن كان اسما يتعلّق بعواميد سوداء لخشب حارة منكفئة في القامشلي وليس في " أورقامشليم". عندئذ فتح عمّي الذي لم يكن عمّي فمه وبقي فمه مفتوحا لخمس دقائق وخرجت الكلمة أوالجملة في الدّقيقة السّادسة: " اسمي في بئر الحيّ، تحت الزنّار والزنّار المزنّر لبدور الشّاحبة فوق الحائط تفرش السّنونو." ولأنّني لم أفهم شيئا مخصّصا من الجملةِ ذات اللاتحديد، فإنّني تركت فرج يتابع:" لم تكن القامشلي اسما قامشليّا والاسم جاء من القاميشو، الخشب الذي تصنع منه عربات مياه المتسوّلين. في القامشلي لم تكن توجد سيّارات إنّما انتقل النّاس والدوّاب على ظهور السّنونو والسّنونو كان آنذاك في حجم الدّيناصور الجبليّ الكرديّ الأصليّ. ذات يوم مضى جدّي بمقلاعه من خشب الزّيتون ومطّاط بدن البقر واصطاد لنا نحن الصّغار دابّة أطلقنا عليها اسم البقرة. والبقرة منذ ذلك اليوم أصبحت تطيعنا وتفهمنا ونصنع من حليبها البوظة البيضاء ونلوّن البوظة بأوراق الكرز والمشمش فتصير برتقاليّة وبيضاء وحمراء وفي اللّيل نأكلها على السّقوف." بينما نحن في هذا الحديث، أقصد فرج في الحديث وأنا في الانصات، جاء رجلٌ مغطّى بالكامل بكيس من الخيش، بنيّ الخيوط والمتون. في يده مقلاع وفي المقلاع الصّغير رأس بقرة. نظرتُ في السّماء ثانية، فرأيت أنّ النّجمة الدّاوديّة قد أصبح نجمة عاديّة وإلى اليمين تغيّراسم " أورقامشليم" وصار ثانية القامشلي. وتذكّرت أيضا أنّني كنت أعرف مدينة تسّمى القامشلي منذ عشرين عاما والآن ماذا جئت أفعل هنا ولماذا أصبح فرج بصلو عمّا لي وأصبح شيخا يصطاد قرون الثيران. جلست على حجرٍ وبدأت أريد وضع الأمور في نصابها، في هذه الأثناء عاد فرج وقد أصبح ولدا في الخامسة عشرة من العمرِ ويرتدي قبّعة خضراء ولا يمكن رؤية عيونه. فتح فمه ثانية وتكلّم بسرعة الصّبيان هذه المرّة:" أنا هو جدّي الذي أتى برأس الثّور من حارة قدور بك وأنا هو الذي اصطاد الحيّة الخجولة في بيت خطيبتي بدور والآنسة الشّقراء التي أطلقوا عليها اسم " انساناني". " مللت من جلوسي وتأمّلي وأردت التشبّه بفرج وجدّه اللذين اصطادا الآنسات والبقرات الحلوبة وألحفة زبرجد الجقجق، فقلت له، هاتِ المقلاع. أخذت المقلاع ومضيت على الضفّة وأثناء عبوري بتلع وأشنيات الجقجق كانت تنمو وتذبل والأشجار تتفتّح بذورها وجذوعها وتنغلق وتنظر بعض الأشجار إليّ كأنّها تعرفني وترمي لي جلّناريّة أو عصفورا بفم قرمزيّ شديد بدل المنقار. تذكّرت أنّني كنت أحبّ امرأة في هذه المدينة منذ ثلاثين عاما، حينها رميت المقلاع إلى الهلال الذي لم يعد هلالا وإنّما كان قد صار بدرا كاملا مكتملا ذا رحيق من الفضّة. علق البدر في المقلاع وشعّ أوّلا باحمرار وثمّ باخضرار وبازرقاق وصار أسود الوجه وابتسم ابتسامة المرأة التي كنت أهواها وقال:" أنا بيت القامشلي وشمس الابتسامة" فضحكتُ أنا أيضا من البدرِ في قبضتي. لم أكن قد قبّلت منذ تلك الأعوامِ أيّة شفاه فأخذت أنهمر قبلا على البدرِ المتعجّب في يدي. ونزلت إلى فرج الذي كان قد زرع الوادي كلّه بالقرون الصّفراء والحليبيّة ووضع على كلّ قلب سنونوا أسود، لاصقا إيّاه بطين النّهر. أنار البدر في يدي وجه فرج ويديه وكان قد عاد إلى سنّه الرّاشدة ولم يعد ذلك الولد. قلت له": لقد اصطدتُ البدر الذي كان هلالا وقبل الهلال كان نجما ينير العشبة الحمراء على حافّة أحذيتنا اللّيليّة قبل قليل." نظر فرج أوّلا إلى القرونِ التي زرعها وإلى رؤوس السّنونو عليها ثمّ نظر إلى الجهة التي أتى منها جدّه قبل ساعة. عندئذ أقبل ذلك الكيس الأوّل وكان كفنا أبيض وعلى الكفن مشمشة تضيء وتضيء ثمّ تخبو والكيس خرج منه جدّه بمقلاع يبرق من جدّة صنعه. رمى الجدّ المقلاع على حضن حفيده، نظر إلينا وكان فرج قد أصبح ولدا ثانية وقال:" انظرا إليّ، سأنطّ على قرون الثيران واحدا بعد الآخر" ونطّ بالفعل في خفّة ريشة من قرن حاد إلى قرن أحدّ، وحفن السّنونو ارتعشت على رؤوس القرونِ. ربتت بأجنحتها على بطونها، حرّكت مناقيرها، وطارت طيرانا واحدا بالقرونِ في مخالبها والثيران تحت القرونِ دفعة ساحمة إلى السّماء المظلمة. أتيت ببدري في قفصه، وقبلته لأنّني عرفته وهو عرفني، حبّي الأوّل في القامشلي وحوش الرمّانات، قلتُ. فردّ فرج:" على نجمي الأوّل إلى بئري الزمرّديّة، إلى جقجقاتي القامشلوكيّة، زرعت رأس الثيرانِ، خطفت عين بدور ورأس جدّي، فمن الفائز؟"، " كن الفائز الذّهبي الذي يصطاد البدور والبدورات، الزنّار والزنّارات ونشيد عصفور العين الواحدة والبقرة ذات الضرع الوحيد والقرونات القربتليّة."

تعليق



فرج بصلو

2019-12-05

هلكتنا فرحاً ياخال // ونحن لا نفرح عادة // إلا إذا كانت الحبكة خارقة // والواقع المحكي أسطوري لحد الوجع // لك خيال يحوش السماء // فمرحى فمرحى لك

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

فصل بهار، الليمون

14-تشرين الثاني-2010

خفقان المناظر

23-حزيران-2010

مذاق نيمانا بشدّة

19-نيسان-2010

أحاسيس

05-نيسان-2010

طبوغرافيا الحدائق

09-كانون الثاني-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow