Alef Logo
ابداعات
              

خفقان المناظر

عبد الرحمن عفيف

2010-06-23

خاص ألف
وصديقُ عدنان من عائلة باذخة الحالِ وصاحبة اقطاع وبيكاباتٍ ويبدو الثراء وتبدو الأصالة في تكلّم افرادها؛ تذكّرَ حين اختفى البدر خلف القلعة صديقا آخر مات بعد اجراء عمليّة أذن بسيطة، وتذكّر آخرين من الابتدائيّة وحين ركبَ قطعة من البلاستيك وتزحلق على سفح الوادي إلى بطن الوادي. كانت كلُّ هذه الأمور بقوّةٍ حتّى أنّه نسي موضع استلقائه ونسي موضع تأمّله وأشياء تأمّله التي كانت في الواقع أشياءَ بسيطة للغاية. وما مقوّمات الصباح؟ ومَنْ يطلق صفة غير ايجابيّة على دليل وجوده! أمّا القلعة، فلا أعرف حقا أكانت قلعة أم لا! إن كانت قلعة، فلماذا بقربها عمود خشبيّ ومعلّق به مصباحٌ أصفر؟ وغمرت الباحة بأغصانها وطراوة أغصانها بحيث لم تبقَ مسافة للباحة لتظهرَ بقعٌ منها، تشرق الشّمس عليها، هكذا بيوتنا في الرّبيع، نخرج منها ولا نعود وهكذا تطلق عليها أيضا صفة الموت وتصبح هي أيضا قلاعا وحصونا للهواء الذي لم يخرج والذي خرج على بعضٍ من جدرانها هو العشبُ القليل وبمطلعِهِ كأنّه بدرٌ يكتمل يحنّ شخصٌ ما، شخصٌ لا يعيش إلا ببضعة كيلومترات عن هذه البيوت، يشعر بحنين قاس وحنين عقيم، لا يمكن التحدّث عنه لأحد، هكذا يخرج الناس إلى المسير في البقع المرتديةِ للعشب وللقمح وللعدس، إلى البقع المرتدية لجُريسات القرمزيّ ولصبغ جناح الفراشة ولغيمة رأوها في الاعداديّة ولكن لا يمكنهم الحديث عمّا يقومون به ويظنّونه غير واقعيّ أو يظنّون أنفسهم في النوم. ربّما تخرجُ الحشائشُ ليلا من جدار هذه القلعةِ. تلك الرّائحة حملت في مضمونها رسالة عن شجرة للتوتِ في بيت أحد الأصدقاء، آنذاك، "حين تعارفنا في جامعة حلب". ليس هذا سوى نوم، شعرنا به يثقل قليلا على نفوسنا ونشعر معه بتعب آت من مكان وربّما من زمن سحيق، نشعر معه بالأمكنةِ التي كنا سابقا فيها. بالنسبة للشخص النائم، هنا، فإنّه يشعر أنّه نائم على سفح تلالٍ ما، تلال ليس لها اسم، تقع كمجموعة متضامّة إلى بعضها البعض وعلى السفوح الغربيّة سقطت زهيرات اشجار اللوز البيضاء وعلى ارتفاعٍ أكثرَ ضاع خاتمٌ والشخص النائم، بين هذه السطور وفي هذه الحرارة، يجد الخاتمَ وهو من الفضّة، أهو حقّا كذلك؟ أفي الحقيقة يجده؟ ويجد شيئا آخر لا يعرف ما هو وهذا الشيء الآخر هو في الأساس ما يشكّل تعلّقه الأقوى بهذه الأنحاء. لا تشبه هذه القلعة المسمّاة قلعة تلك القلاع الأصليّة التي في ذاكرةِ الانسان، هي قديمة، نعم، وهي من مادّة، ليست لا طينا ولا حجرا. الحشيش الذي يخرج ليلا، يخرجُ من الجدار وهو حشيش غير متطاول، أحيانا أبيض، أحيانا أسود. أقصد، هو في الليل الدامس حشيشٌ أسود والليل الساطع بالدرّ والدّرر ومعه حشيشه الساطع بأبيضه. حيت متُّ، كانوا يسرعون ليزرعوا حشيشا من هذا النومِ، هو من النوم لأنّه ينبت فقط ليلا ولم يكن لي قبر بعد. كنت أتأمل في هذه الأثناء؛ وتخيّلت أنّ الفصل فصل ربيع، فنظرتُ إلى أمامي بمسافة توازي أحد عشر مترا وهناك رأيت البيوت المحاطة بصوامع وخزائن الحبوب وفارَ شيءٌ ما في الهواء، كان رائحة تنتمي الى خمس سنوات سلفت أو ربّما إلى سبع سنواتٍ. هكذا، يظنّ بخفّة أنّه يتذكر صديقه اسماعيل وهو شخصٌ نصفه قرويّ ونصفه مدنيّ، هو أسمر وله درّاجة من نوع فليبس، درّاجة طويلة القامة، درّاجة تأتي إلى المدينة، تعبر على نفس هذا الطريق الذي يمكن تسميته بطريق النوم، ويمكن تسميته بطريق البيوت المبعثرة، أو طريق التفلّت من الانتظام والانتماء إلى الفصل الذي تجد نفسه فيه. تذكرَ مشطا على رفّ وذبابة ربيعيّة دسمة وفكر أن يلتقطها بكفه وثمّ ابعد تفكيره عن هذا؛ فكّر في أشياء وهميّة من قبيل توقيف الضوء، من قبيل أن تكون الفراشة شجرة ذات فستان. ماذا تفعلُ بالقربِ من عمود الخشب تلك الصّخرة التي يستطيع انسان أن يجلس عليها؟ قال أيضا، اذهبوا مني، أشعر كيف أكتمل كبدر في السماء بشعوري وكيف أنقص بشعوري. أشعر برفرفة هي رئة شجرة، هي زوجتي طوال الرّبيع. وأخذ كومة من تراب بجانبه وعصرها.
وليس للقلعة سوى جدران طينيّة ككلّ بيوتنا. أقول بيوتنا، ولو أنّنا في الرّبيع نصير بغير بيوت، شجيراتٌ مزروعة على شكل مستطيل، يجلس صديقه على الصخرة أمام الباب ويقوم باغراق نفسه في الكتاب الذي على ركبته، نحن في البكالوريا السوريّة، يشعر النائم وهو يعرف خصال اسماعيل تقريبا جميعها، عقله وابتسامته ودرّاجته التي هي أيضا خصلة من خصاله. يصيح الشخص الأخير مناديا اسماعيل واسماعيل لا ينظر خلفه، ثمّ، ينظر. فكّرَ أن يخطب لنفسه هذه الفراشة ويتزوّج منها ويعيش برفاه وبنين وبنات على سطح هذه الشوارد من البيوت، في هذه الحارة، فكّر كيف سيعامل الفراشة زوجته في المساء وفي العصر وفي الصباح، فكّر، كيف سيكون الصباح و" - ما هو الصباح في الصباح؟" ويلتفتُ التفاتة سريعة لأنّه يسوق الدرّاجة بشدّة، ترتطم الدراجة بفراشة ويسقط اسماعيل سقطة خفيفة والفراشة تتابع طيرانها والفراشة فراشة سوداء في الليل والليل دامس فهي سوداء وإلاّ لكانت الفراشة ساطعة، إن سطع ضوء البدر الساطع عليها، ذلك البدر رأى فيه النائم أحداث هذه السطور المنتقاة بغير ما دقة تذكر. ألهذا ناديتني؟ يقول صديقه اسماعيل الدراجيّ. وهو لا يكفّ عن النظر حتى بعد سقطته من الدراجة؛ لا، يقول الآخر، لقد سقطت في البكالوريا السوريّة وعليك أن تعيدها للأسف. يحلّ في هذه الأثناء صمتٌ أقوى بينهما واسماعيل لم يره قطّ، لا أثناء السقوط ولا أثناء النداء وظنّ الجواب والسقوط والفراشة من بنات أفكاره الشوارد في هذه الحارة الشاردة البيوت. وطلع بدرٌ بنفسجيّ كما في الماء، وبدرٌ صغيرٌ وهو كان متأكدا أنّه ليس بدرا إنّما هو مصباح بيت اسماعيل الأصفر وهو كبير لأنّه ينظر إليه من الأسفل، وتذكّر طلاّبا آخرين من الاعداديّة، تذكر أحمد توفيقو، تذكر عدنان، ذلك الشابّ النحيف الذي ربّما كان أحول قليلا وتعيش عائلته في بيت بالقرب من سياجات أشجار الصّنوبر على طريق القامشلي، تذكر صديق عدنان الذي ارتسمت ملامحه بقوّة في عظم ذاكرته الآن. كلّ هذا أثناء أيّام زواجه بالفراشة، أمّا الآخرون الحقيقيّون فأتوا إلى الربيع خارجين من بيوتهم المعتادة، ودخلوا بيوتهم حين حلّ الشتاء، أصبح بعضهم أطباء وبعضهم مهندسين وبعضهم بائعي يانصيب وهو أحبّ أن يتخذ من هؤلاء أصدقاء له في نومه الشديد. وتذكر الخاتم من صيف ما بين الصفّ الثامن والتاسع الاعداديّ ورائحة بطيخ أحمر دخلت أيضا في تلافيف أفكاره وأيّامه كثرت وصار لكلّ يوم طعم خاصّ. شجرة التوت كانت مضمون الرسالة، " وآخ! تتمدّدُ نائما قرب هذا العشب القليل، تتأمّل هذا العشب القليل"؛ تخاطبني الرائحة باضافة صفة النوم إليّ وليس صفة الموت، حيث تجد الموت قليل الأهميّة ولا تضيفه إليّ، لا أعلمُ، ربّما كانت تجد الموت صفة سلبيّة وتبعد السلبيّات عنّي كوني أنا الوحيد، على الأقلّ، الآن هو من يستطيع شمّ الرّائحة وهذا دليل وجودها، ومن لا يهمّه دليل وجوده؟

×××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.

ألف


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

فصل بهار، الليمون

14-تشرين الثاني-2010

خفقان المناظر

23-حزيران-2010

مذاق نيمانا بشدّة

19-نيسان-2010

أحاسيس

05-نيسان-2010

طبوغرافيا الحدائق

09-كانون الثاني-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow