Alef Logo
ابداعات
              

فن تشكيلي / السراب السريالي

هفال يوسف

2006-04-08

«الحياة الحقّة غائبة، لسنا في العالم»
رامبو: فصل في الجحيم- هذيانات
من تدمير القيم الجمالية التقليدية وصولاً إلى التمرّد على الآباء حاول السرياليون القبض على الرؤيا، وتجسيد لحظة الإشراق، عبثاً وعندما يتابع الدارس محاولاتهم الممتدة طويلاً، بمثابرة لا تكلّ، لا بدّ أن يدرك أن تلك المحاولات كان لا بدّ لها أن تبوء بالفشل. بتنا نعرف هذا الآن، بعد أن وصلت الكشوفات العلمية إلى هذا الحدّ المذهل، ولكن لم تكن الأمور على هذا النحو قبل ثمانين عاماً. ويبقى لهم فخر المحاولة متلقّين الهزائم الواحدة تلو الأخرى.
في الشعر، وكذلك في الفنّ، رفض السرياليون الموهبة والصنعة، في محاولةٍ للتمكّن من إسقاط حالة الإشراق على الورق أو القماش، ولجأوا إلى التنويم المغناطيسي والتجارب الحلمية والتداعي الحرّ وغير ذلك من آليات علم النفس للاستغراق في البراءة والدهشة إلى درجة وصل بهم الأمر إلى اعتبار الشعر شكلاً من الوحي الروحي؛ وفي البيان السريالي طالب أندريه بريتون الناس أن يصمتوا عندما يتوقفون عن الشعور، فهو لم يكن يعتبر الشعر وسيلة تعبير بل فعل إلهام. يقول مونرو في «الشعر الحديث المقدّس»: «يتوقف القول السحري عن التفتيش عن غايته خارج نفسه... الشعر صلاةٌ للغائب»؛ لكن السريالية تختلف عن الصوفية في نقطة جوهرية، خلافاً لما ذهب إليه أدونيس، فالمتصوفة يتحدثون دائماً عن الارتقاء إلى العلا، بينما كان السرياليون يحاولون إنزال ما في الأعلى إلى عالم الإنسان، وإخراج كنوز الأعماق إلى السطح للوصول إلى «حياةٍ في الحضور»، لذا كان رفضهم العنيف لما هو كائن، وباسم «الما- فوق» رفض السرياليون الجمال المنفصل عن الحياة والحب والأمل، وهنا تلتقي السريالية مع الحكمة القديمة للشرق التي تقول بوهم الظاهر، وكون الكينونة الحقة تكمن في الباطن، لكن السريالية حذفت الحضور الإلهي المختبئ في المخطط الخلفي. يقول بريتون في «الحب المجنون»: «ليست السريالية هرباً إلى اللاواقع أو إلى الحلم، بل هي محاولة للنفوذ فيما له واقعية أكثر من الكون المنطقي والموضوعي» بحثاً عن الوطن المفقود للحرية العقلية اللامشروطة، وهذه استحالة مؤكّدة. فهل لم يكن السرياليون يدركون استحالة الوصول إلى تلك البراءة المطلقة، أو الواقعية المطلقة وفق التعبير السريالي؟
في كثير من الأدبيات السريالية نلاحظ ذلك اليأس الخفي الناتج عن الاستحالة المذكورة أعلاه، فعلى الرغم من تأكيد بريتون في «مطلع النهار» على اقتناعه بوجود «شيء ما» مخبّأ خلف الأشياء المرئية، إلا أنه يؤكّد أنّ الانتظار السريالي لانكشاف ذلك الشيء هو انتظار بلا هدف، وأمرٌ غير مجدٍ؛ فكلّ جواب تخلٍّ عن الحرية، وخيانة للإنسان؛ وإنّ غياب الجواب هو ما ينبئ عن أصالة الإنسان، فكل فنّ هو تشويه وتحديد ونفي، والشعر الذي يحاول الدلالة على الوجود إنما يدلّ على ما ليس هو، بينما الشعر الحقيقي لا بدّ أن ينبع من كائنٍ حرّ لا ينضب، وعقل حقيقي دون كسوف، كما يقول بريتون في «مفتاح الحقول»، ولذلك كان ذلك البحث المجنون عن واقع مختلف، واقع أكثر واقعية، ووجود أكثر وجودية، عبر الهلوسة والتخيّل والجنون الإرادي وحتى السحر، فالشعر «رسالة مكتوبة بحروفٍ سحرية». وفي الحقيقة لم يكن السرياليون أول من ربط بين السحر والشعر، فلطالما كانت الربة البيضاء –القمر- ربة السحر والشعر ترعى الشعر والشعراء، وفي الأدب العربي لا تندر الإشارة إلى الشياطين والعفاريت والجن عندما يكون موضوع الحديث متعلقاً بالوحي الشعري، فيندمج الواقعي بالمتخيل في تداخل مدهش بين عالمين يبدوان على التضادّ، أو ما أسماه بول إيلوار في «عطاء للرؤية»: «ذوبان الظلّ والفريسة [الواقع والخيال] في ومضةٍ واحدة»، ليصل العمل الفني إلى حدود الإبداع حقاً، فليس للتخيل غريزة التقليد، ولا نموذج لمن يفتش عمّن لم يره مطلقاً، إلى درجة أن السريالية راحت تتحدث عن سريان الإبداع عبر الإنسان، وأنّ عملية الخلق هذه إنما تعبّر عن نفسها من خلاله، حتى أنّ أراغون في «التصوير الملون المتحدي» اعتبر أنّ الفنّ لم يعد شخصياً مطالباً الفنانين المبدعين عن التوقّف عن وضع أسمائهم على اللوحات لأنهم ليسوا صانعيها، وإنما هي تُصنع عبرهم ومن خلالهم؛ بل إنّ سلفادور دالي، وفي مقالٍ بعنوان «غزو اللامعقول» في المنشورات السريالية يقول: «تتجاوز صور اللامعقولية المحسوسة مجال الاستيهام والتصورات الضمنية»، فاعتبرت السريالية حالة من الواقع المطلق، ونمطاً لأسطورة جمعية، ليبقى السؤال: أين أخفقت السريالية؟
لا يمكن الجواب على هذا السؤال ببساطة، ولا يمكن حتى تأكيد إخفاق السريالية، فهناك حاجة إلى إعادة تهذيب اللغة السريالية لنتمكّن من مناقشة العقيدة السريالية، إن صحّ التعبير. فكيف نفهم عبارة: «الوجود المنفصل عن الوجود» على سبيل المثال، أو «الجانب الثاني للأشياء». في رأيي، يكمن سبب إخفاق السرياليين في كونها جاءت قبل أوانها، فخلال نصف القرن المنصرم أصبحت الأمور أكثر وضوحاً، أو ربما الأفضل القول: أكثر غموضاً، فقد أكّدت العلوم الحديثة استحالة معرفة الواقع على ما هو عليه، في تقاطع مذهل مع حكمة الشرق، حسبما أكّد الفيزيائي فريتجوف كابرا في مؤلفه «طاو الفيزياء»، أو كما تؤكّد معادلات هايزنبرغ، وكذلك علم النفس اليونغي؛ وظهور مقتربات مختلفة جداً عما كان قبل خمسين عاماً لتفسير العالم والواقع والوجود، وإلا لما كان في إمكان بريتون أن يتحدث عن «وجود خاص للصورة»، أو أنّ «الإنسان جاهزية مطلقة» أو «الجمال المعتبر في ماهيته»، بل ربما لما ظهرت كلمة Sur-realisme، التي تعني (فوق الواقع)، فقد أصبح الواقع أكثر اتّساعاً ليشمل ما يعدّ حتى الأمس القريب كل ما هو خارجاً عنه، ولما اعتبرت السريالية الواقع أمراً تافهاً يسهل التعبير عنه، فالواقع اليوم يعتبر كائناً لامتناهي التعقيد بحيث يستحيل إدراكه والتعبير عنه كما هو. والمفارقة أنّ السرياليين، في بحثهم عن الوطن المفقود عبر الاستعادة المتعمّدة للدهشة الطفلية، للبقاء «تحت إمرة المذهل»، إنما كانوا يزدادون بعداً عنه، على الرغم من تأكيدهم أنّ الإنسان «تساؤل: انتظار لا اكتشاف»، إلا أن ذلك التوق العنيد للوصول إلى ما وراء الأشياء أوقعهم في الفخّ، فعلى الرغم من الحديث عن «عذرية التلقّي»، وذلك العمق البديع الذي وصلوا إليه، في «الحبل بلا دنس» على سبيل المثال، إلا أنهم لم يتمكّنوا من مقاومة غواية الوقوع في الخطيئة الأزلية: وضع القلم على الورقة، كما يقول ألدوس هاكسلي في مقاله الموسوم «الابتذال في الأدب»، وهو أمرٌ مثير للاستغراب حقاً. يقول سبينوزا: «كل تحديدٍ نافٍ»، ولم يكن هذا خافياً على بريتون وإيلوار على الأقلّ، وبالتالي ففي اللحظة التي تتمّ فيها الإشارة إلى «العذراء» تفقد هذه عذريتها، فالإشارة تنتهك براءة اللحظة التي ينبغي الاستغراق فيها بصمت كامل، والسماح لتلك الغبطة بالتعبير عن نفسها دون تدخّل، ودون محاولة امتلاكها والقبض عليها، فهذا منافٍ للحب والحرية، مكمن أمل السرياليين في زوال اللعنة، فإيلوار يقول في «الحب والشعر»: «إنها تحبّ.. تحبّ أن تنسى نفسها» معتبراً أن الحب هو نسيان للذات، ورغم ذلك يقول بريتون في «الحب المجنون»: «يجب البحث عن المفاجأة لذاتها، وبشكل غير شرطي». هل يمكن البحث عن المفاجأة؟ ألا تفقد فجائيتها بذلك؟. بينما في الشرق هناك تراث يتكئ إليه شارع مثل «باشو» الذي استنار عبر تقطيع الحطب، وسحب الماء من البئر. جمالٌ بلا هدف، وحقيقة بسيطة بإطلاق.
أخفق السرياليون في الذهاب أبعد من الواقع، ولكنهم تمكّنوا من توسيع واقعهم بالتأكيد، وهنا تكمن شجاعة المحاولة، لتتأكد مقولة ريلكة التي يقول فيها: «يبدو أنّ قدرنا هو أن نُهزم باستمرار أمام أشياء أعظم فأعظم»، ليبقى الوجود عصياً على فضول العبارة التي تبقى، بدورها، حجاباً يعيق الرؤية الواضحة، ولتبقى الحقيقة مكنونةً في فضيلة الصمت المبارك.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد / المرأة: هذه الدمية الحمقاء!

10-نيسان-2006

"الغروب الأخير"شاعر يتنزه مع الموتى

10-نيسان-2006

نُوروز: نشيد الخلود

09-نيسان-2006

نقد / «دون كيخوته» باعتبارها رواية ما بعد حداثوية

09-نيسان-2006

الفيديو كليب: إثارة وجنس ومال

09-نيسان-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow