Alef Logo
يوميات
              

بالأبيـض والأسـود

خضـر الآغـا

2009-04-29


إلى عهد فاضل

لم تزل محفورة كالوشم في ذاكرتي تلك الصورة الكبيرة التي كانت، ذات يوم، تتوسط غرفة الأسرة: أبي شديد النحولة يقف جانب حصان ضخم، ويمسك رسنه، وقد قال لي، بعدما كبرت قليلاً، إنه لم يمتطه ولم يفكر بذلك في حياته، إنما التقط تلك الصورة كنوع من مباهاة وشعور بالكبرياء، كما كان يفرض المزاج العام في تلك الأيام.
ليس تشكيل الصورة ما كنت أتذكره دائماً، لا الحصان الذي تبدو عليه الحيرة، ولا أبي الذي يبدو عليه التوجس، ولا البيت في خلفية الصورة الذي يبدو عليه الرسوخ... ما أتذكره، فكرة أن الصورة بالأبيض والأسود. ما أتذكره، الأبيض والأسود.
في منتصف القرن العشرين لم يكن وجود الصورة بالأبيض والأسود دليلاً على تأخر تقني، وليس توثيقاً على أن الصورة لم تكن، بعد، قد لوّنت... إن وجودها دليل على مرحلة تاريخية كاملة، وتأسيس لها في الوقت ذاته!
في منتصف القرن العشرين كانت الحياة كلها تبدو كأنها بالأبيض والأسود. كانت الحياة واضحة، محددة، متّجهة... قررت الشعوب أنها تريد إخراج الاستعمار من بلادها بقول لا رجعة عنه: يجب أن يخرج، ومسك الرجال شواربهم. كانت شوارب الرجال باهظة وباذخة، وبالأسود، ليس تماشياً مع موضة الشوارب التي يقف عليها النسر، بل لأنهم سيقسمون بها، ومالم ينفذوا ما وعدوا به، سيحلقونها، مع ما يتبع ذلك من عار! وأخرجت الشعوب المستعمر ولم يحلق أي رجل شاربيه. لم يكن ثمة احتمالات أخرى للفكرة، لم يكن ثمة شروط قابلة لتأويل المصالح والاستفادات والسلطات، كان الأمر إما أبيض أو أسود، إما يخرج المستعمر أو يحلق الرجال شواربهم! لا خيارات أخرى.
خرج الاستعمار، وقررت الشعوب أن تبني دولها ومجتمعاتها وتعيش حرية حقيقية، فكثرت الآراء والأفكار والتيارات المعرفية الكبيرة، والأحزاب السياسية، والجرائد والمجلات، ولم يكن ثمة نوايا للنهب والقمع والفساد، إذ ثمة وعد ببناء دول ومجتمعات. فكانت مرحلة الخمسينيات مرحلة حرية، باتفاق الجميع.
حتى الشعراء، عندما وجدوا أن الشعر وصل إلى مستويات باهتة، واستبد به عمود الشعر، واستبد به قول لا يؤدي إلى غد يريدونه، كان أن اجتمع الشعراء في خيمة مترامية الأطراف بناها يوسف الخال، وقرروا تغيير الشعر واقتنعوا أن ذلك يغير العالم، وقالوا إن الحداثة يمكن أن تغير الشعر وتغير المجتمعات، فغيروا الشعر، فثمة وعد، ومن يجرؤ على أن يحنث بوعده؟ وحدث اتفاق فريد بين الشعراء والسياسيين، اتفاق بالأبيض والأسود لتغيير المجتمع القائم وبناء مجتمع جديد، وذهب كل إلى مكانه في التغيير والبناء وتنفيذ الوعد. لا رجوع، إما أبيض وإما أسود: إما أن يغيروا الشعر أو لا يكتبونه، وإما أن يبنوا مجتمعات أو لا يعدون أحداً بذلك. فذهب الشعراء إلى اللغة، والسياسيون إلى المكان الذي عبره يستطيعون ذلك، وحدث تعاون حقيقي: الشعراء قدموا للسياسيين لغة التغيير القادرة على إقناع العالم بضرورة وجدوى ذلك، والقادرة هي ذاتها على التغيير والتغير، وقدم السياسيون للشعراء وسائل الإعلام التي عبرها يقدمون مقترحاتهم الشعرية والكتابية والتغييرية.
وراحت الشعوب تمد حركة التغيير والأفق بمن تجده أهلاً لهذ العمل التاريخي، فأجادت بالكثيرين: أم كلثوم، فريد الأطرش، أسمهان، عبد الحليم حافظ، فيروز والرحابنة، أنطون سعادة، زكي الأرسوزي، صدقي اسماعيل، قسطنطين زريق، سلامة موسى، الياس مرقص، بوعلي ياسين، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، خالدة سعيد، سنية صالح، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، وآخرين وآخرين... وجميعهم، كما نعرف الآن، بالأبيض والأسود.
شعراء، روائيون، قوميون، ماركسيون، ليبراليون، ديمقراطيون، علمانيون... جميعهم كانوا، آنذاك، أصحاب وعد: إما أبيض وإما أسود...
حتى إنهم عندما يلتقطون صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود، لم تكن مجرد صورة للذكرى، كانت وثيقة انتماء لحقبة كبيرة كلها بالأبيض والأسود، وكانت بالوقت ذاته نصاً يؤسس لهذه الحقبة ويتأسس فيها معاً. والرتوش التي يقوم بها المصور لم تكن لمجرد تجميل الصورة، بل لكي يثبت، بلا هوادة، جمال الحقبة بالأبيض والأسود. لذلك حين نرى، نحن أبناء وصنيعة الصور الملونة تلويناً فظاً، الصور في منتصف القرن العشرين نراها جميلة جداً: النساء والرجال والأطفال والكبار والفنانين والفنانات والأشياء... وكل شيء. إذ، بالأبيض والأسود، كل شيء كان جميلاً.
***
مع هذا، لماذا كان يبدو على أبي في تلك الصورة الكبيرة التي تتوسط غرفة الأسرة التوجس، ويبدو على الحصان الحيرة، وعلى البيت في خلفية الصورة الرسوخ، مع أنها بالأبيض والأسود؟
خضـر الآغـا
(عن: شرفات- العدد51)


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

لماذا نكتب عن سورية

14-آذار-2020

محمود السيد أعشاب الزمن الحداثي

05-أيار-2010

ماني (216-276م) / أولى محاولات الإنسان التنويرية

24-شباط-2010

الشعر الجديد في سورية.. من قتل الأب إلى إحياء الأخ الأكبر

09-تشرين الثاني-2009

الشعر النسائي الحديث في سوريا

17-أيار-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow