Alef Logo
الآن هنا
              

محمود السيد أعشاب الزمن الحداثي

خضـر الآغـا

2010-05-05


يعرفه كتّاب وشعراء الحداثة الشعرية في سورية جيداً، فهو صاحب "مركبة الرغوة" (1967) أحد النصوص النثرية القوية في سياق قصيدة النثر. ويعرفه كتّاب وشعراء سورية الجدد (بدءاً من تسعينيّات القرن الفائت) جيداً أيضاً، فهو عرّابهم، والمبشِّر بوجودهم، وأول من صفَّق لهم، في الوقت الذي كانوا فيه يحملون حقائب سفرهم من مدنهم وقراهم البعيدة إلى دمشق، و يحلمون بتغيير البنية الشعرية العربية – بنية قصيدة الحداثة، وقد غيّروها حقاً. إننا نعرف «محمود السيد» جيداً.
في أوائل التسعينيات من القرن العشرين ترأَّس تحرير مجلة "ألف" التي أسسها «سحبان السواح»، والتي عُنيت بما أطلقت عليه الكتابة الجديدة تحت شعار: حرية الكشف في الكتابة والإنسان. تلك المجلة الطفولية، المراهقة، (المولْدَنة) التي أسهمت بإطلاق الجنون الأول لكتَّاب وشعراء مجهولين، صغيري السن، وبلا تجربة كتابية واضحة! تلك المجلة التي تشابهت في ظروف صدورها مع ظروف صدور كبريات المجلات العربية التي عُنيت بـ / وأطلقت الحداثة الشعرية في خمسينيات وستينيات القرن الفائت: مجلة "شعر" ومجلة "الآداب"، إنما من الجهة الأخرى، من قفا المشاريع الكبرى التي حملتهما تلك المجلتين.
لقد تأسست مجلتا شعر والآداب بوصفهما حاملتين ومطلقتين لقضايا الحداثة العربية، والوضعيات المعرفية الكبرى آنذاك: الوطن، والتغيير، والقومية، والكونية، والبعث، وتموز، والتحرر، والتحرير، وتغيير العالم شعرياً... وما إلى هنالك. إذّاك كانت تلك القضايا هي الرائجة، وهي التي يدافع عنها الناس، ويموتون لأجلها، وهي التي تقوّم الشاعر والكاتب، وهي التي تدور حولها المعارك الثقافية والمعرفية. فظهرت المجلتان لتحملا وتطلقا وتدافعا وتديرا المعارك وتصنعاها وتتبنيَّا تلك المشاريع الكتابية والشعرية والوطنية والقومية، لكن.. الحداثية قبل وبعد أي اعتبار! إن أهمية تلك المجلتين متأتّية من هذا الاعتبار، أي من كونهما صاحبتي مشروع كبير.
مع بداية تسعينيات القرن الفائت كان أن تمَّ الإعلان، بالخط العريض، عن انهيار تلك المشاريع الكبرى بما تحمله من أفكار وثقافة وقيم وبنىً أخلاقية، وترافق ذلك مع بزوغ حركة طفيفة آنذاك، وبدء تململٍ ضئيلٍ آنذاك، نحو كتابة تنطلق من الذات والداخل لا من الخارج، من الجسد لا من المحيط، كتابة تغيّر الأنماط التي كرستها الحداثة الأولى- حداثة مجلتي "شعر" و"الآداب"... وهذا شكّل مشروعاً جديداً ظهر من الباب الخلفي لمشروع الحداثة الأولى. في هذه الأثناء ظهرت مجلة "ألف" على أنها حاملة ومطلقة لـمشروع الكتابة الجديدة، الشعرية خاصة، وقصيدة النثر على وجه الدقة.
إذا كان لنا أن نقتنع بقول «هولدرلين»: «يظهر الشعر في بداية أو نهاية مرحلة من المراحل"، فإنه يمكن القول إن شعر الحداثة الأولى ظهر في بداية مرحلة صعود المشاريع العربية الكبرى في الحداثة، وظهر الشعر الجديد في بداية (أو نهاية) سقوط تلك المشاريع، وبداية ظهور مشروع جديد هو مشروع الكتابة بلا حوامل إيديولوجية، ولا ادِّعاءات في تغيير العالم شعرياً، كتابة بصوت خفيض، هامس، مرتاب، لا يقيني... وكانت مجلة «ألف» هي التي حملت أعباء ذلك المشروع وأطلقته! كان «محمود السيد»، بوصفه رئيساً لتحرير "ألف"، برومثيوس تلك الكتابة.
لم يظهر في الشعرية العربية الحديثة شاعر ذو تجربة ثقافية متينة، وقف بهذا المقدار، إلى جانب، ومع شعراء بدؤوا، لتوِّهم، الكتابة كما فعل «محمود السيد»، شعراء لا يملكون سوى بضعة حقائب في داخلها بعض الملابس الرثة، وبعض القصائد الشاذة، شعراء مجهولو النسب والمصائر، وبلا تاريخ... لقد وقف «السيد» معهم كأنه منهم، كأنه مثلهم، هو الذي عمل مديراً عاماً لمؤسسة الوحدة، وترأس تحرير جريدة الثورة السورية (1970)، وكان قد أصدر "مونادا دمشق" (1978) ذلك النص النثري الطويل الذي أحدث فرقاً في الشعرية العربية، في سورية خاصة، وعلى مستوى قصيدة النثر على الأخص، وذلك باعتراف الكثير من شعراء وكتّاب تلك المرحلة الفاعلين والمؤثرين. وأيضاً باعترافات الجيل اللاحق، حيث تمَّ تداول الكتاب وقراءته بكثرة على أنه يمثل، على نحو من الأنحاء، أحد طموحات القصيدة الجديدة، إنما في مستواها البلاغي الذي يرتكز على خبرة القصيدة العربية، في مستوياتها العليا، في التعاطي مع المجازات، والبعد الجوّاني للغة.
ولدى توقف "ألف" عن الصدور (1993)، لم يتوقف «السيد» عن متابعة تجارب الشعراء الجدد، تحولاتها، انحرافاتها، سقوطها، ألقها... ولم يكن ينحاز، تحت أي شرط، للنصوص الشبيهة بنصوصه، كان يرى في العملية الإبداعية تعدداً وتنوعاً ضرورياً لها، بل إنها لا تقوم إلا بذلك.
لقد شكل «محمود السيد» لكثير من القرَّاء والنقاد الذين اعتقدوا أن قصيدة النثر هي مجرد قصيدة تفاصيل يومية ومهملات ومتروكات، بعد أن شاعت هذه المقولة، و"عمّت حتى خمّت" حسب المثل الشعبي، حيرة. ذلك أن النص النثري، والذي أُطلق عليه قصيدة نثر، الذي يكتبه «السيد» ليس نص تفاصيل بأي مستوى من مستوياته، بل يبدو، من جانب ما، أنه على نقيض نص التفاصيل. إنه نص يرتكز، من جهة، على بلاغة الشعرية العربية ومجازاتها، ومن جهة أخرى يقف بعيداً عنها من حيث ارتكازه على السرد (خاصة في "مونادا دمشق")، وابتعاده عن الإيديولوجية (السياسية) التي كانت توجّه، إلى حدٍّ كبيرٍ، الشعرية العربية. فكيف، والحال هذه، يتم وضع قصيدة النثر ضمن باب قصيدة التفاصيل اليومية، وكيف لا يكتب السيد، وهو من شعراء قصيدة النثر المؤثرين، قصيدة تفاصيل يومية؟ بدا الأمر أنه بحاجة إلى إعادة نظر في تعريف قصيدة النثر، ومدى علاقتها، تعريفياً، بالتفاصيل. إذ ماذا يمكن أن نطلق على تلك القصيدة التي لا تُعنى بتلك التفاصيل، مع أنها قصيدة نثر؟.
أصدر «السيد» عام 1998 عملاً شعرياً مهماً هو "سهر الورد – تجليات السهروردي في الورد والدم". إنه نص صوفي من الطراز الرفيع، ويتضح ذلك من عنوانه الذي يحيل إلى محاكاة من نوع ما مع حكيم الإشراق، الشيخ القتيل، صوفي النور السهروردي. وكما يتضح من الكتاب أنه أراد من السهروردي الجانب الإشراقي، نظراً للعلاقة الوثيقة بين الشعر وبين الإشراق. لكن المختلف في نص «السيد» أنه حوَّل التصوف من كونه حواراً مع الله، إلى أنه حوار مع الجسد، عشق الصوفيين هو الله، فيما عشق «السيد» هو الجسد، دون أن نلحظ تناقضاً في البنية المعرفية والشعرية لكلا الأمرين. نص "سهر الورد - تجليات السهروردي في الورد والدم" يتقدم مع المفاهيم الصوفية الأساسية ويحاكيها شعرياً دون أي التباس، أو تناقض، أو خلط، كما يحدث حتى مع الكثيرين ممن يبحثون في التصوف! ثمة تمييز واضح المعالم، صوفياً، بين درجات المعرفة، ومستوى الوعي بالوجود، وهذه يعرفها «السيد» جيداً. لن يقودنا هذا الكلام إلى الظن بأن السيد يعرض للتصوف في شعره، بل هو يبني مفاهيم التصوف شعرياً، ويخترقها بحضور الذات حضوراً كبيراً، هو تصوف لكن بانزياحات معاصرة:
"تعال،‏‏‏‏‏‏‏
اخرج من دمك، من وجع جسدك، وادخلنــي‏‏‏‏‏‏‏
أنا العاشقةالوردة،‏‏‏‏‏‏‏
أناديك لتمتلئ في نسغي.‏‏‏‏‏‏‏
هكذا‏‏‏‏‏‏‏
كما البنفسجيمتلئ بالصمت،‏‏‏‏‏‏‏
هكذا... كما الصمت يمتلئ بالضوء.‏‏‏‏‏‏‏
آه، ماأبلغه الصمت يسهر في الورد،‏‏‏‏‏‏‏
فيقوّض الخطابة والكلام.‏‏‏‏‏‏‏
ما أبلغهالصمت يسهر في العشق،‏‏‏‏‏‏‏
مبتدئاً تلاوة النهار:‏‏‏‏‏‏‏
انهر جسدي لئلايغويك الضجيج،‏‏‏‏‏‏‏
ثمّ اقرأني في الغضارة،‏‏‏‏‏‏‏
تعلّمني فيالانخطاف.‏‏‏‏‏‏‏
سلّم نفسك للورد، فيحفظ دمك الورد...".
***
غاب «محمود السيد» منذ فترة طويلة نسبياً عن التواجد الثقافي، غاب عن جلسات الشعراء، عن نمائمهم، عن تاريخ الشعر، مكتفياً، كما ينبغي للشعراء، بالعزلة لإنتاج الأمل والشعر، بصمت يتواءم إلى حدٍّ كبيرٍ مع الصمت الذي مجّده كثيراً في شعره، لكنه ليس صمت العاجز عن الكلام، ليس صمت الذي لا يملك شيئاً ليقوله، بل صمت العارف.
غابت السجالات الثقافية من أوساط المثقفين، غابت القضايا المعرفية التي يمكن أن يجتمعوا حولها، وحلَّ محلَّ ذلك كله جلسات النميمة والنزاع الشخصي على ما تبقَّى من الموائد، وتحوَّلت الصحافة التي عمل «السيد» فيها طويلاً إلى منبر لشتم الآخرين، وتسويق الضِّعة والرُّخص، وحل محل «السيد» في تاريخ الشعر شعراء الفضائح الشخصية والمهرجانات ومواقع (التشات) في الإنترنت، وحلت قصيدة الفقاعة الصابونية محل شعر المجاز العالي والقول العميق... لذلك كله غاب «السيد» كما يليق بالكبار.
***
يا سهر الورد، أغرتني بك الـ"لا"،
ولادة الضوء،
أو ما يشبه ولادتك.
اليقظة،
أو ما يشبه الإشراق.
علّمني كيف أغمض جسدي وأقرؤك،
كيف أنام وتصحو بي،
كيف أكونك،
ولا أشبهك،
كيف أصل إليك، ولا أصل.
***
"...من يعلّمني اللغة فلا يضجّ بي الكلام؟
من يعلّمني الإصغاء فلا أرى العازف؟
من يعلّمني العزف فلا أرى نفسي؟
من غيرك يهزمني لأنتصر، يغزوني لأحتلّ
اشتهاءه و يقوم بي.
من أستيقظ به، ويستيقظ بي. وحين نستيقظ معاً
نمتلئ ببعضنا، فلا يرانا الآخرون، لأننا نكون
فيهم، أول الـ" لا"،
أو أول النار في عروش الـ" نعم" وسلطة الضجيج...".
خضـر الآغـا
النشر الورقي: شرفات
النشر الإلكتروني: ألف



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

لماذا نكتب عن سورية

14-آذار-2020

محمود السيد أعشاب الزمن الحداثي

05-أيار-2010

ماني (216-276م) / أولى محاولات الإنسان التنويرية

24-شباط-2010

الشعر الجديد في سورية.. من قتل الأب إلى إحياء الأخ الأكبر

09-تشرين الثاني-2009

الشعر النسائي الحديث في سوريا

17-أيار-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow