دروشات يسارية
2008-05-02
في خضم حركة تقرب اليسار من الليبرالية ، التي أصبحت الآن دين المرحلة المستقوية للطبقية في قيادة التغيير ، وسيدة مشاهد الحركة الحركة الإجتماعية ، من مشهد علاقات العمل وحتى مشروع الثقافة ، يكثر التطفل على موقف ماركس من الدين ووعيه النظري له . ويجري ذلك في الموقع الرأسمالي بطريقة التجاوز والتوظيف البراغماتي لغنائم الحرب ، ونصب فخاخ التصفية لآثار الماركسية ، بينما هو في دوائر التراتب الأخرى ، حول هذا المركز ، يتخذ منحى التقليد والترديد والهواية الفكرية ، علاوة على ركوب الأهواء الذاتية للمصلحة في التموضع السياسي والثقافي للمرحلة . ومن الطبيعي أن يكون أكبر ضحايا النكبة المعاصرة للسقوط السياسي للماركسية ، هم كوادر السقوط الحزبي الذين هجرتهم مهام الممارسة والتنظير معا . هؤلاء يحاولون استعادة بعض حيثياتهم المنسحبة ، إما بالتمترس وراء الأخطاء التقليدية لمواريثهم الحزبية الإنتهازية ، وإما بالإستفادة من عبرة الماضي ، وتعديل مواقف ماركس والماركسية النظرية ، وليس مواقفهم الحزبية والشخصية ، لأن قطار الفرص الجديدة قد فاتهم . بعضهم فقط ، قرر الإستمرار في الولاء لحقيقة الوعي والإلتزام ، وتصحيح أخطائه الحزبية ، والإقتراب أكثر من شعبه وشعوب العالم المنكوب . ومهما كان موقف الأخلاق العلمية ، وشرف الإلتزام الإنساني ، من أولئك المقتربين التعديليين ، فأن ذلك ليس هو المهم الآن . ألمهم هو قضية الدين وعلاقة الماركسية به .
ومع أنني أقرأ أو أرى أسبوعيا مقالات كثيرة في موضوع " الدين و ....." لبعض دراويش الثقافة الأكاديمية التقليديين والجدد من الخليجيين بالإنتماء أو بالمواطنة التوظيفية ، إلا أن هؤلاء عادة عديمو الحداثة ، وعازفون تقليديون . لذلك لفت نظري في المدة الأخيرة مقالات متعددة ذات نكهة جديدة حول الدين وماركس أو الماركسية ، يكتبها أناس يبدو أنهم كانوا يساريين محترفين ... وربما ما زالوا .
لم يكن ماركس فيلسوفا لاهوتيا حتى يبحث للدين عن مساحة نظرية خاصة في وعيه التاريخي ، أو حركة خاصة خارج سياق مشهد تطور الوعي . حينما تحدث ماركس عن الدين تحدث عن ظاهرة تاريخية هي من صميم التطور الطبقي للمجتمع مثل الدولة سواء بسواء . ومرجعيات الدولة الفلسفية في النظام الطبقي لا تختلف من حيث غيبيتها عن مرجعيات أي وعي غيبي آخر مثل الدين . لذلك كل ما قاله ماركس في هذه القضية كان خارج مرجعياتها الغيبية الإيمانية . كان في صميم حركتها الدين- اجتماعية . لم يحاول أن يحل لغز الوجود أو مرجعياته التكوينية . كان يبحث في العالم قيد الوجود وليس قيد الإحتمال . أي فيما هو حركة واقعية مدركة ، وليس فيما هو مغامرة فلسفية مجردة للوعي . بمعنى أن قضية الأيمان كانت بالنسبة له من مشاعيات عالم الغيب التي لا تعنيه إلا بمدى ما تم استغلالها اجتماعيا في عالم الوجود . فلماذا تتعمد الغيبية الإجتماعية للمتطفلين علي ماركس تجاهل الهوة النوعية السحيقة بين الدين والديانات ؟ بين الغيب الإيماني ، وبين ما هو مدارس للوعي الغيبي الإجتماعي والتاريخي ؟ لم يناقش ماركس قضية وجود مركزية من نوع ما في عالم لا يخترقه الوعي المعرفي ولا الحركة . ناقش أولئك الذين يدعون معرفته ، ويتحدثون إلى الله شخصيا في قضايا الملكية الخاصة ، ويستصدرون باسمه الدساتير الطبقية ، التي تقدس الفقر لحماية الثروة . لقد قال لهم ماركس أنهم لم يتحدثوا مع الله وإنما مع الآلهة التي نصبوها بإنفسهم . فما العلاقة بين خيار الوعي في الإيمان بالغيب أو عدمه , وبين مؤسسات للظلم الطبقي تحاول أن تكون غير محدودة الضمان ، بدعوى العلاقة المباشرة بالله ؟ لقد رفض ماركس استغلال دعوى التدخل الجدلي للغيب في حركة التاريخ ، وقال ان جدل حركة البنية هو جوهر وجودها المادي وليس شكلا ماديا منفصلا عن جوهره . فأين الإيمان أو الإلحاد في هذا القول . ألا يستطيع الله أن يصنع وجودا ماديا بقوانين ثابتة وعلاقات جدلية لا تقبل النقض ؟ لم ينكر ماركس هذا ولم يرفضه ولم يناقشه أصلا . قال ما يعني وعيه العلمي للوجود فقط . وقال أن علاقة الغيب بالوجود الفعلي ، ليست في كل الأخوال علاقة غزو خارجي ، لها مؤسسات خاصة ووكلاء وعي اجتماعي غير محدود الضمان ، على حركة الوعي أو المادة . ولم تقبل الماركسية كما لا يقبل كثيرون من الناس ، صورة الإله الطبقي التي جاءت بها الأديان ، لأنها صورة مشبوهة لا تليق بالله حتى في الوعي الإيماني الحر .
لا يمكن فصل الغيب عن الوعي الإيماني الخاص في حدوده الوجدانية ، كما لا يمكن فصله عن الوعي لأنه جزء من الجوهر الجدلى للوعي ، بصفته ساحة غياب المعرفة . لقد شكلت نزعة الوعي الإيماني المبكرة ،قبل أن يصبح ملكية للوعي الإجتماعي ، منفذا لحيويات وحاجات الوعي التأسيسية من المحافظة على البقاء ببعدها البيولوجي وأبعادها النفسية المرتدة من رهبة المجهول ، والتساؤل والشعور بالإغتراب والألم وفردية المصير . من هذا المنفذ دخلت كل محاولات الوعي الإولى في التأويل الإبداعي ، للخلاص من براغماتية الوجود وقوانينه الباردة ، وحياديته التي لا تقيم وزنا لوجوده المتميز على الطبيعة . ولكن في حين دخلت كل تلاعبات الوعي الجميلة للتطور نحو التميز الإنساني ، من منفذ الوعي الإيماني بوجود عالم أكثر جمالا برعاية حاضرة في التصور الغيبي ، دخلت أيضا فيما بعد كل تدجيلات الوعي الطبقي التي جعلت تجربة الوجود أكثر قتامة , وبسطت هيمنتها حتى على ساحة الغيب ، لتحولها إلى مرآة غيبية ، تنعكس عليها كل ما تسببت به هي من خطايا وبشاعات وأهوال واستبداد وعلاقات مختلة ، منسوبة لخطايا الوعي والتشدد الإلهي ، إلى درجة الخيار بين الوعي والإيمان . تدجيلات الوعي هذه – الأديان الإجتماعية – هي التي ساجلها ماركس ، بوصفها ، تطويرا أو تأسيسا ، آليات اعتداء طبقية على وعي البشر .
هل كان على ماركس أو على أي وعي آخر ، أن يعلن الحرب على الوعي الإيماني للتخلص من الوعي الديني ، في حين لا وجود لأية علاقة وعيوية مباشرة بينهما ؟ ألم يكن ماركس يدرك ذلك ؟ فإذا كان يدركه فأية علاقة منطقية يمكن أن تنشأ بي الماركسية وقضية الإلحاد ؟ وحينما قال ماركس أن الدين أفيون الشعوب ، هل كانت زلة لسان يتوجب الإعتذار عنها ، أو تأويلها فلسفيا لتخليص مشاريع التحول اليساري والشيوعي إلى الليبرالية من تبعاتها ؟ ماركس لم يكن يتفلسف حينما قال ذلك . كان يشجب بصراحة الوعي العلمي الثوري كل الديانات بوصفها مؤسسات دجل وعيوي طبقي لا علاقة لها بقضية الإيمان . بل على العكس من ذلك قامت بتشويه الوعي الإيماني الجميل كمركب وعيوي يدعم وجدانيا وعي الإلتزام والأيديولوجية الثورية ، حينما قامت بالتطفل عليه . والذين ينبرون للدفاع عن ماركس أو الإعتذار عنه على خلفية موقفه من الدين يقومون في الحقيقة بالإعتذار لليبرالية عن ماضيهم الفكري الشخصي . فماركس لم يكن درجة وعي ليبرالي أو يساري متشدد ، كان وعيا تاريخيا يعرف أن أبشع حلقات التاريخ البشري هي حلقة الوعي الديني ، وأن الأديان هي العدو الأخطر على حراك الوعي الثورى لدى الأكثرية المسحوقة ، من بين كل آليات الإستبداد الطبقي . لذلك صرخ بكل صدق الوعي والإلتزام : ألدين أفيون الشعوب !
لم يطرح أحد حتى الآن وعيا اجتماعيا متقدما على الماركسية . لو تم ذلك لكانت مراجعة أخطاء الماركسية جزءا من الوجوب في حركة الوعي الملتزم . فهل نناقش وعي الماركسية على ضوء هزيمتها السياسية ، وفشل وعي الشعوب المقهورة بالحديد والنار والدين عن مجاراته . هل نناقشها على ضوء منافقة الليبرالية ، والجزئيات المتفلسفة لأدباء البنيوية الذين يفككون التركيب الكيماوي للوعي بالغرابيل اللغوية ، والمكاييل المسطحة تعبيرا عن يأسهم الشخصي من التاريخ والحضارة والإنسان . طبعا لا هذا ولا ذاك . والكل يدرك ذلك . فالقضية ليست هنا . ألقضية قضية دروشات سياسية لليسار في مرحلة تغيرت فيها قوانين اللعبة السياسية . قضية أن الطموح أصبح الآن رهانا على الليبرالية من جانب بعض محترفي الوعي اليساريين ، وأيتام الأحزاب الشيوعية ، الذين يريدون تحويل هزائمهم الحزبية إلى هزيمة ماركسية ، اقتداء بغورباتشوف ويلتسين ، وتبريرا لتحييد الوعي القديم والإنتقال منه إلى سوق المرحلة . ويتم هذ الإنتقال ا في اٍسواق الليبرالية الغربية بطريقة القفز العفوي من الشيوعية إلى فلسفة فوكوياما والمحافظين الجدد ، لأن التبرير غير مطلوب في أسواق العمل عندهم . ألأساس هو مسألة الجدوي في البضاعة المعروضة ، وصلاحيتها للتوظيف في لعبة هار مجيدون . أي معركة الفوضي البناءة وما يحيط بها من جرائم سياسية وثقافية صغيرة . ولكن في عالم شبه ساكن مثل عالمنا العربي ، يتعامل مع الوعي بالوكالة ، على اليساري أن ينتقل إلى الليبرالية بزفة معتبرة حتى يجلب انتباه وكالات التشغيل إليه . عليه أن يجد موضوعا للدروشة لتكوين الزفة . وهناك مواضيع متعددة للدروشة . ألدين والماركسية , ألدين والدولة ، ألدين والمرأة , ألدين والديموقراطية ، ألدين والقومية ، ألدين والتنمية ، ألدين والمسألة الكردية ، وباختصار ، ألدين وهلمجرا .... .
لقد انقضت مرحلة الصدمة . وتبين للوعي العادي أن أمريكا هي شر اجتماعي مجنون يهدد بقاء العالم . وأن انتصار الشر الإجتماعي على الماركسية ، كان سببه اختلال موازين الحركة لصالح الإمبريالية ، لأن رصيدها المادي والمعنوي العالمي المتفوق ، كان موجها نحو بلد واحد يمثل رمزية التحرر العالمي وليس قوته الفعلية . القوة الإقتصادية والسياسية وضعف حركات التحرر العالمي ،بسبب وعي الشعوب الفقيرة المثقل بالدين والقمع المتواصل ، والإنشغال المعيشي ، كونت توازنا عظيم الإختلال لصالح العالم الرأسمالي أمام دولة متعبة بنظامها الحزبي الفاسد وقصورها في موازين القوة المادية . لقد انهزم النظام السوفييتي فعلا ، ولكن ما هي علاقة الماركسية كوعي ، بالتوازنات المختلة بين الدول والأنظمة ؟ هل هناك دليل وعيوي واحد على أن العالم قد تغيرت صورته بشيء عما زعمته الماركسية من علاقات بين نظامه الإمبريالي وبين الظلم والإستبداد وبؤس الإنسان ؟ ماهو الإقتراح الموضوعي للوعي الذي أسفر عنه انتصار الإمبريالية على الشيوعية ، سوى اقتراح عولمة الظلم والبؤس الإنساني ؟ بل أين هو الحل التحرري البديل عن الشيوعية ، للشعوب التي أخذت تنتشر فيها المجاعات والمذابح والأحزاب الدينية ؟ كل هذه الأسئلة على سطحيتها ومباشرتها تفسر على الأقل ، لماذا يجب على اليسار الذي ينافق الليبرالية أن يعترف أن رداءة الوعي البشري النخبوي هي التي انهزمت وليس الوعي الماركسي . وعلى سبيل الإفتراض الوعيوي الماركسي كان على اليسار العالمي أن يجمع صفوفه تحت مظلة النقد الذاتي ويواصل تجربة التحرر ، وليس تحت مظلة نقد الماركسية للترويج لاقترابها من الوعي الليبرالي للمحافظين الجدد الذي يقارب المجاعات بوعي الخصم الديموغرافي بواسطة المذابح والحروب الأهلية ونشر الأوبئة أو السكوت عنها ، لكي تسطيع مقاربة الحد الأدنى لمستوى المعيشة بالكوكاكولا . هذه هي الليبرالية التي يتملقونها بمحاكمة الماركسية بالوعي الديني .
08-أيار-2021
07-أيار-2008 | |
02-أيار-2008 | |
29-نيسان-2008 | |
26-نيسان-2008 | |
18-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |