Alef Logo
يوميات
              

دروشات يسارية

أحمد حسين

2008-05-02

في خضم حركة تقرب اليسار من الليبرالية ، التي أصبحت الآن دين المرحلة المستقوية للطبقية في قيادة التغيير ، وسيدة مشاهد الحركة الحركة الإجتماعية ، من مشهد علاقات العمل وحتى مشروع الثقافة ، يكثر التطفل على موقف ماركس من الدين ووعيه النظري له . ويجري ذلك في الموقع الرأسمالي بطريقة التجاوز والتوظيف البراغماتي لغنائم الحرب ، ونصب فخاخ التصفية لآثار الماركسية ، بينما هو في دوائر التراتب الأخرى ، حول هذا المركز ، يتخذ منحى التقليد والترديد والهواية الفكرية ، علاوة على ركوب الأهواء الذاتية للمصلحة في التموضع السياسي والثقافي للمرحلة . ومن الطبيعي أن يكون أكبر ضحايا النكبة المعاصرة للسقوط السياسي للماركسية ، هم كوادر السقوط الحزبي الذين هجرتهم مهام الممارسة والتنظير معا . هؤلاء يحاولون استعادة بعض حيثياتهم المنسحبة ، إما بالتمترس وراء الأخطاء التقليدية لمواريثهم الحزبية الإنتهازية ، وإما بالإستفادة من عبرة الماضي ، وتعديل مواقف ماركس والماركسية النظرية ، وليس مواقفهم الحزبية والشخصية ، لأن قطار الفرص الجديدة قد فاتهم . بعضهم فقط ، قرر الإستمرار في الولاء لحقيقة الوعي والإلتزام ، وتصحيح أخطائه الحزبية ، والإقتراب أكثر من شعبه وشعوب العالم المنكوب . ومهما كان موقف الأخلاق العلمية ، وشرف الإلتزام الإنساني ، من أولئك المقتربين التعديليين ، فأن ذلك ليس هو المهم الآن . ألمهم هو قضية الدين وعلاقة الماركسية به .
ومع أنني أقرأ أو أرى أسبوعيا مقالات كثيرة في موضوع " الدين و ....." لبعض دراويش الثقافة الأكاديمية التقليديين والجدد من الخليجيين بالإنتماء أو بالمواطنة التوظيفية ، إلا أن هؤلاء عادة عديمو الحداثة ، وعازفون تقليديون . لذلك لفت نظري في المدة الأخيرة مقالات متعددة ذات نكهة جديدة حول الدين وماركس أو الماركسية ، يكتبها أناس يبدو أنهم كانوا يساريين محترفين ... وربما ما زالوا .
لم يكن ماركس فيلسوفا لاهوتيا حتى يبحث للدين عن مساحة نظرية خاصة في وعيه التاريخي ، أو حركة خاصة خارج سياق مشهد تطور الوعي . حينما تحدث ماركس عن الدين تحدث عن ظاهرة تاريخية هي من صميم التطور الطبقي للمجتمع مثل الدولة سواء بسواء . ومرجعيات الدولة الفلسفية في النظام الطبقي لا تختلف من حيث غيبيتها عن مرجعيات أي وعي غيبي آخر مثل الدين . لذلك كل ما قاله ماركس في هذه القضية كان خارج مرجعياتها الغيبية الإيمانية . كان في صميم حركتها الدين- اجتماعية . لم يحاول أن يحل لغز الوجود أو مرجعياته التكوينية . كان يبحث في العالم قيد الوجود وليس قيد الإحتمال . أي فيما هو حركة واقعية مدركة ، وليس فيما هو مغامرة فلسفية مجردة للوعي . بمعنى أن قضية الأيمان كانت بالنسبة له من مشاعيات عالم الغيب التي لا تعنيه إلا بمدى ما تم استغلالها اجتماعيا في عالم الوجود . فلماذا تتعمد الغيبية الإجتماعية للمتطفلين علي ماركس تجاهل الهوة النوعية السحيقة بين الدين والديانات ؟ بين الغيب الإيماني ، وبين ما هو مدارس للوعي الغيبي الإجتماعي والتاريخي ؟ لم يناقش ماركس قضية وجود مركزية من نوع ما في عالم لا يخترقه الوعي المعرفي ولا الحركة . ناقش أولئك الذين يدعون معرفته ، ويتحدثون إلى الله شخصيا في قضايا الملكية الخاصة ، ويستصدرون باسمه الدساتير الطبقية ، التي تقدس الفقر لحماية الثروة . لقد قال لهم ماركس أنهم لم يتحدثوا مع الله وإنما مع الآلهة التي نصبوها بإنفسهم . فما العلاقة بين خيار الوعي في الإيمان بالغيب أو عدمه , وبين مؤسسات للظلم الطبقي تحاول أن تكون غير محدودة الضمان ، بدعوى العلاقة المباشرة بالله ؟ لقد رفض ماركس استغلال دعوى التدخل الجدلي للغيب في حركة التاريخ ، وقال ان جدل حركة البنية هو جوهر وجودها المادي وليس شكلا ماديا منفصلا عن جوهره . فأين الإيمان أو الإلحاد في هذا القول . ألا يستطيع الله أن يصنع وجودا ماديا بقوانين ثابتة وعلاقات جدلية لا تقبل النقض ؟ لم ينكر ماركس هذا ولم يرفضه ولم يناقشه أصلا . قال ما يعني وعيه العلمي للوجود فقط . وقال أن علاقة الغيب بالوجود الفعلي ، ليست في كل الأخوال علاقة غزو خارجي ، لها مؤسسات خاصة ووكلاء وعي اجتماعي غير محدود الضمان ، على حركة الوعي أو المادة . ولم تقبل الماركسية كما لا يقبل كثيرون من الناس ، صورة الإله الطبقي التي جاءت بها الأديان ، لأنها صورة مشبوهة لا تليق بالله حتى في الوعي الإيماني الحر .
لا يمكن فصل الغيب عن الوعي الإيماني الخاص في حدوده الوجدانية ، كما لا يمكن فصله عن الوعي لأنه جزء من الجوهر الجدلى للوعي ، بصفته ساحة غياب المعرفة . لقد شكلت نزعة الوعي الإيماني المبكرة ،قبل أن يصبح ملكية للوعي الإجتماعي ، منفذا لحيويات وحاجات الوعي التأسيسية من المحافظة على البقاء ببعدها البيولوجي وأبعادها النفسية المرتدة من رهبة المجهول ، والتساؤل والشعور بالإغتراب والألم وفردية المصير . من هذا المنفذ دخلت كل محاولات الوعي الإولى في التأويل الإبداعي ، للخلاص من براغماتية الوجود وقوانينه الباردة ، وحياديته التي لا تقيم وزنا لوجوده المتميز على الطبيعة . ولكن في حين دخلت كل تلاعبات الوعي الجميلة للتطور نحو التميز الإنساني ، من منفذ الوعي الإيماني بوجود عالم أكثر جمالا برعاية حاضرة في التصور الغيبي ، دخلت أيضا فيما بعد كل تدجيلات الوعي الطبقي التي جعلت تجربة الوجود أكثر قتامة , وبسطت هيمنتها حتى على ساحة الغيب ، لتحولها إلى مرآة غيبية ، تنعكس عليها كل ما تسببت به هي من خطايا وبشاعات وأهوال واستبداد وعلاقات مختلة ، منسوبة لخطايا الوعي والتشدد الإلهي ، إلى درجة الخيار بين الوعي والإيمان . تدجيلات الوعي هذه – الأديان الإجتماعية – هي التي ساجلها ماركس ، بوصفها ، تطويرا أو تأسيسا ، آليات اعتداء طبقية على وعي البشر .
هل كان على ماركس أو على أي وعي آخر ، أن يعلن الحرب على الوعي الإيماني للتخلص من الوعي الديني ، في حين لا وجود لأية علاقة وعيوية مباشرة بينهما ؟ ألم يكن ماركس يدرك ذلك ؟ فإذا كان يدركه فأية علاقة منطقية يمكن أن تنشأ بي الماركسية وقضية الإلحاد ؟ وحينما قال ماركس أن الدين أفيون الشعوب ، هل كانت زلة لسان يتوجب الإعتذار عنها ، أو تأويلها فلسفيا لتخليص مشاريع التحول اليساري والشيوعي إلى الليبرالية من تبعاتها ؟ ماركس لم يكن يتفلسف حينما قال ذلك . كان يشجب بصراحة الوعي العلمي الثوري كل الديانات بوصفها مؤسسات دجل وعيوي طبقي لا علاقة لها بقضية الإيمان . بل على العكس من ذلك قامت بتشويه الوعي الإيماني الجميل كمركب وعيوي يدعم وجدانيا وعي الإلتزام والأيديولوجية الثورية ، حينما قامت بالتطفل عليه . والذين ينبرون للدفاع عن ماركس أو الإعتذار عنه على خلفية موقفه من الدين يقومون في الحقيقة بالإعتذار لليبرالية عن ماضيهم الفكري الشخصي . فماركس لم يكن درجة وعي ليبرالي أو يساري متشدد ، كان وعيا تاريخيا يعرف أن أبشع حلقات التاريخ البشري هي حلقة الوعي الديني ، وأن الأديان هي العدو الأخطر على حراك الوعي الثورى لدى الأكثرية المسحوقة ، من بين كل آليات الإستبداد الطبقي . لذلك صرخ بكل صدق الوعي والإلتزام : ألدين أفيون الشعوب !
لم يطرح أحد حتى الآن وعيا اجتماعيا متقدما على الماركسية . لو تم ذلك لكانت مراجعة أخطاء الماركسية جزءا من الوجوب في حركة الوعي الملتزم . فهل نناقش وعي الماركسية على ضوء هزيمتها السياسية ، وفشل وعي الشعوب المقهورة بالحديد والنار والدين عن مجاراته . هل نناقشها على ضوء منافقة الليبرالية ، والجزئيات المتفلسفة لأدباء البنيوية الذين يفككون التركيب الكيماوي للوعي بالغرابيل اللغوية ، والمكاييل المسطحة تعبيرا عن يأسهم الشخصي من التاريخ والحضارة والإنسان . طبعا لا هذا ولا ذاك . والكل يدرك ذلك . فالقضية ليست هنا . ألقضية قضية دروشات سياسية لليسار في مرحلة تغيرت فيها قوانين اللعبة السياسية . قضية أن الطموح أصبح الآن رهانا على الليبرالية من جانب بعض محترفي الوعي اليساريين ، وأيتام الأحزاب الشيوعية ، الذين يريدون تحويل هزائمهم الحزبية إلى هزيمة ماركسية ، اقتداء بغورباتشوف ويلتسين ، وتبريرا لتحييد الوعي القديم والإنتقال منه إلى سوق المرحلة . ويتم هذ الإنتقال ا في اٍسواق الليبرالية الغربية بطريقة القفز العفوي من الشيوعية إلى فلسفة فوكوياما والمحافظين الجدد ، لأن التبرير غير مطلوب في أسواق العمل عندهم . ألأساس هو مسألة الجدوي في البضاعة المعروضة ، وصلاحيتها للتوظيف في لعبة هار مجيدون . أي معركة الفوضي البناءة وما يحيط بها من جرائم سياسية وثقافية صغيرة . ولكن في عالم شبه ساكن مثل عالمنا العربي ، يتعامل مع الوعي بالوكالة ، على اليساري أن ينتقل إلى الليبرالية بزفة معتبرة حتى يجلب انتباه وكالات التشغيل إليه . عليه أن يجد موضوعا للدروشة لتكوين الزفة . وهناك مواضيع متعددة للدروشة . ألدين والماركسية , ألدين والدولة ، ألدين والمرأة , ألدين والديموقراطية ، ألدين والقومية ، ألدين والتنمية ، ألدين والمسألة الكردية ، وباختصار ، ألدين وهلمجرا .... .

لقد انقضت مرحلة الصدمة . وتبين للوعي العادي أن أمريكا هي شر اجتماعي مجنون يهدد بقاء العالم . وأن انتصار الشر الإجتماعي على الماركسية ، كان سببه اختلال موازين الحركة لصالح الإمبريالية ، لأن رصيدها المادي والمعنوي العالمي المتفوق ، كان موجها نحو بلد واحد يمثل رمزية التحرر العالمي وليس قوته الفعلية . القوة الإقتصادية والسياسية وضعف حركات التحرر العالمي ،بسبب وعي الشعوب الفقيرة المثقل بالدين والقمع المتواصل ، والإنشغال المعيشي ، كونت توازنا عظيم الإختلال لصالح العالم الرأسمالي أمام دولة متعبة بنظامها الحزبي الفاسد وقصورها في موازين القوة المادية . لقد انهزم النظام السوفييتي فعلا ، ولكن ما هي علاقة الماركسية كوعي ، بالتوازنات المختلة بين الدول والأنظمة ؟ هل هناك دليل وعيوي واحد على أن العالم قد تغيرت صورته بشيء عما زعمته الماركسية من علاقات بين نظامه الإمبريالي وبين الظلم والإستبداد وبؤس الإنسان ؟ ماهو الإقتراح الموضوعي للوعي الذي أسفر عنه انتصار الإمبريالية على الشيوعية ، سوى اقتراح عولمة الظلم والبؤس الإنساني ؟ بل أين هو الحل التحرري البديل عن الشيوعية ، للشعوب التي أخذت تنتشر فيها المجاعات والمذابح والأحزاب الدينية ؟ كل هذه الأسئلة على سطحيتها ومباشرتها تفسر على الأقل ، لماذا يجب على اليسار الذي ينافق الليبرالية أن يعترف أن رداءة الوعي البشري النخبوي هي التي انهزمت وليس الوعي الماركسي . وعلى سبيل الإفتراض الوعيوي الماركسي كان على اليسار العالمي أن يجمع صفوفه تحت مظلة النقد الذاتي ويواصل تجربة التحرر ، وليس تحت مظلة نقد الماركسية للترويج لاقترابها من الوعي الليبرالي للمحافظين الجدد الذي يقارب المجاعات بوعي الخصم الديموغرافي بواسطة المذابح والحروب الأهلية ونشر الأوبئة أو السكوت عنها ، لكي تسطيع مقاربة الحد الأدنى لمستوى المعيشة بالكوكاكولا . هذه هي الليبرالية التي يتملقونها بمحاكمة الماركسية بالوعي الديني .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أحزان جميلة

07-أيار-2008

دروشات يسارية

02-أيار-2008

دفاتر

29-نيسان-2008

مفكرات الشيوخ

26-نيسان-2008

أرجوحة السرير

18-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow