Alef Logo
دراسات
              

الحق في الخطأ بين العلمانية والدين

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2012-03-13

تشرق الأفكار العظيمة والدعوات الخيّرة في عقول العلماء والفلاسفة وقلوب الأنبياء والمصلحين ثمّ يتلقفها السياسيون والتجار من المتدينين ومنتهزي الفرص لتتحول على أيديهم إلى بضاعة للبيع والشراء في سوق المساومات، فتنطفئ جذوتها ويخبو نورها ولا يبقى منها غير شكلها ويغيب جوهرها وهدفها الأسمى. بعد ذلك تهبّ ريح الثورات الفكرية من أجل إعادة الأمور إلى نصابها ونفض الغبار المتراكم فوق جواهر الكلم الناطقة بتلك الأفكار فيركب الموجة منْ أشرنا اليهم آنفا ويزايدوا على الثوار ليحولوا مسيرتها نحو معنى جديد لايمتّ بصلة إلى حقيقتها ويحتكرون تفسيرها ويتهمون من يخالفهم بمحاربة الحق وهكذا تعود إلى سوق النحاسة كأي عبد أعظم الأفكار وأخلص دعوات المخلصين. بل أنهم يحوّلون ساحة المساومات إلى ميدان حرب شرسة شعارها (الفرقة الناجية هي من يحدد الحق ويعرّف الحقيقة) والطامّة الكبرى أن كل طرف من الأطراف السالفة الذكر يظن إنه الفرقة الناجية. عندها تضيق الآفاق لما في الأعماق. وبدلا من أن ينطلق الاختلاف بين الخلق من منبع المحبة كما جاء في الحديث القدسي "كنت كنزا مخفيا فأحببتُ أن أعرف فخلقت الخلق"، إلى خلاف حول من يمثّل الحق. نصل بعدها لبناء الجدران العازلة والمحتكرة للحقيقة بدافع خفي هو الإستبداد عينه الذي يحوّل الحب إلى ضغينة والمودة إلى تنافر والتناقض الهارموني إلى نشاز في القول والتفكير والعمل. وإلا كيف يقرأ المتزمت المقولة الصوفية "عدد الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق" إن لم يكن بضغينة ضيّق الأفق الذي يميل بطبعه إلى الأحادية التي تشمُّ منها رائحة مفازة جرداء لا نجد إزائها من إحالة سوى الموت وحده. ولايخطر في البال سوى طيفه الذي قال فيه الراحل محمد مهدي الجواهري:
لغز الحياة وحيرة الألبابِ.... أن يستحيل الفكر محض ترابِ
أن يغتدي القلب الذكي مفازة... جرداء حتى من خيال سرابِ
أنا أبغض الموت الكريه وطيفه..بغضي لطيف مخادع كذابِ
ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبه... دمُ أخوتي وأقاربي وصحابي
وهكذا يصبح خطاب الموت هو السائد، فما من دعوة دينية من هذا الطرف أوذاك لايتخللها التهديد والوعيد والتبشير بالموت والتهديد بالويل والثبور والتكفير للمخالفين. وما من دعوة إلا وقد خلقت أعداءها ونصبت لهم الشراك بأسئلة تعجيزية لاتدع مجالا لاسترخاء المتأمل، ومن اعتاد على تجييش الفكر بإعادة النظر. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا اقترن التزمت بالديانات التوحيدية كأنه قرين ملازم؟ - باستثناء التصوف بالطبع، وماطرحته التجارب الصوفية المختلفة من دعوات إلى فهم العلاقة بين المطلق والنسبي أو بين الدين والحياة بمنظور مختلف، وأفق واسع المدى يتيح المجال للآخر المختلف-.
يقول ديورانت في كتابه قصة الحضارة (يُعدّ الدين في كثير من الوجوه أكثر أساليب الإنسان طرافة لأنه آخر ماتُفسّر به الحياة، وهو سبيله الوحيد لاتقاء الموت. وليس في تاريخ العصور الوسطى كله ماهو أعظم أثرا في النفس من الدين. فإنك تراه في كل مكان، ويكاد يكون أعظم القوى في تلك العصور. وليس من السهل على من يعيشون الآن منعّمين تتوافر لهم جميع حاجاتهم أن يدركوا حق الإدراك، ما كان في تلك العصور من فوضى وعوز هما اللذان شكلا عقائد الناس من خلالها. ولكن من واجبنا أن ننظر إلى ماكان عند المسيحيين واليهود من خرافات، وأسرار خفية، ووثنية، وسذاجة، وسلامة طوية، نقول إن من واجبنا أن ننظر إلى هذا كله بنفس العطف الذي يجب أن ننظر به إلى عنائهم، وفقرهم، وأحزانهم وإن فرار الآلاف من الرجال والنساء من "الدنيا واللحم والشيطان" إلى أديرة الرجال والنساء ليوحي إلينا بما كان يسود ذلك الوقت من إضطراب، واختلال أمن، وعنف،أوفت على الغاية أكثر مما يوحي بجبن أولئك الفارين وخور عزيمتهم. وبدا أن من البداهة أن لا سبيل إلى السيطرة على الدوافع البشرية الوحشية إلا بقانون أخلاقي تؤيده قوة تعلو على القوى البشرية. وكان أكبر ما يحتاجه العالم وقتئذ هو عقيدة توازن المحن والآمال، وتخفف من واقع الحرمان بالسلوى والعزاء، وتزيل من ملل الكدح بخيال العقيدة، وتمحو قصر الأجل بعقيدة الخلود، وتضفي على المسرحية الكونية معنى ملهما يشرفها ويرفع من قدرها، لولاه لكانت موكبا لا معنى له ولا يمكن احتماله، موكبا من الأنفس، والأجناس، والنجوم، تهوى واحدة بعد واحدة إلى الفناء الذي ليس منه محيص. وسعت المسيحية إلى الوفاء بهذه الحاجات بفكرة حماسية رائعة عن الخلق والخطيئة الآدمية، والأم العذراء، والإله المعذب والنفس الخالدة التي قدر عليها أن تواجه يوم الحساب فيقضي عليها بالتردي في الجحيم إلى أبد الآبدين، أو أن تنجو وتنال النعيم السرمدي على يد كنيسة توفر لها بأسرارها المقدسة البركة الإلهية التي حلت على العالم بموت منقذه... وكان أعظم ما أهدته العقيدة الدينية إلى العالم في القرون الوسطى هو ثقته بأن الحق سيعلو آخر الأمر وأن كل نصر ظاهري للشر سيفنى آخر العهد حين يظفر الخير بالشر في العالم كله، وتلك ثقة تعلي من قدر البشرية وتدعم كيانها.وكانت عقيدة يوم الحساب أساس العقيدة المسيحية واليهودية والإسلامية). ماجرّني لهذا الحدبث هو ما تتناوله القنوات الفضائية ذات الصبغة الدينية الأحادية التوجه عن موضوع العلمانية، العلمانية كتهمة جاهزة ولا تحتاج إلى شرح وتفسير بل أن الأمر ناجز فعندما تُطلق صفة علماني على أحد فإنها تعني بالضرورة الخارج عن الملّة أو هو منْ باع نفسه للغرب وأصبح مروّجا للأفكار المستوردة. (الغريب في الأمر أن جلّ ماحولنا مستورد بما فيها تلك القنوات ولا نرى الإعتراض إلا على الفكر). ولا أدري كيف ينسى هؤلاء انتشار دعواتهم في مشارق الأرض ومغاربها ولدى شعوب مختلفة في أقصى الأرض دون أن يعتبروا أنفسهم مصدّري أفكار؟!! ودون أن يعوا حقيقةً ماذا تعني العلمانية، ولا أن يعيدوا النظر وفق مبدأ " أنتم أعلم بشؤون دنياكم". يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه "التفكير في زمن التكفير" (والعلمانية لمن قرأ النذر اليسير عنها في الكتب المدرسية والملخصات ودوائر المعارف ليست نمطا من التفكير معاديا للدين، بل هي تعادي التأويل الكنسي –تأويل رجال الدين- الحرفي للعقائد، وتناهض محاولة الكنيسة فرض تأويلها من أجل هيمنتها وسيطرتها. إنها نمط من التفكير يناهض "الشمولية" الفكرية والإطلاقية العقلية للكنيسة، أي لرجال الدين على عقول البشر حتى في شؤون العلم والحياة الإجتماعية. العلمانية هي مناهضة حق " امتلاك الحقيقة المطلقة" دفاعا عن " النسبية" و"التاريخية" و"التعددية" و" حق الاختلاف" بل و"حق الخطأ". وفي ظل " العلمانية" ازدهرت الأديان، وتحرر أصحابها من الاضطهاد والمطاردة والمصادرة. قد تخون بعض الأنظمة هذه المبادئ، وقد حدث هذا بالفعل في ظل الأنظمة "الشمولية" في شرق أوروبا. ولعله يحدث الآن في غربها بفعل التحولات التي بدأت في الحدوث في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وبحكم محاولة الرأسمالية العالمية "الهيمنة" و"السيطرة" على ثروات العالم الثالث. هذا كله باطل تجب مناهضته، لكن المبادئ العامة تظل صائبة ومشروعة، بل إن الوقوف في وجه التبعية ومناهضة محاولات الهيمنة والسيطرة لا يتم إلا وفق مبدأ " عدم امتلاك الحقيقة" وهو مبدأ العلمانية الجوهري والأساسي، هذا بالإضافة لكل ما يمكن أن يتحقق لو ساد هذا المبدأ في حياتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية).


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow