Alef Logo
دراسات
              

عن (الإلياذة والأوديسة)

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2012-06-09

العنوان الأساسي للمادة:هل أغفلت (الإلياذة والأوديسة) أسراراً جديدة عن العالم القديم ؟
بعد ثلاثة آلاف عام تقريبا من وفاة الشاعر الأغريقي (هوميروس) ,لاتزال قصصه الملحمية عن حرب طروادة والأحداث التي تلتها,مغزولة بعمق في نسيج ثقافتنا.هذه القصص التي تدور حول الفخر والحماسة وبطولات المعارك والعودة الى الوطن بعد غياب,لاتزال تترجم وتعاد طباعتها بعد دخولنا الألفية الجديدة.حتى إن الناس الذين لم يقرأوا كلمة واحدة عن (الإلياذة ) أو (الأوديسة) يعرفون العبارات التي ورّثتها لنا مثل - حصان طروادة ,كعب أخيل ,الوجه الذي أطلق ألف سفينة – وغيرها. ننكبّ اليوم على ملاحم هوميروس ليست فقط لكونها منبعا للحكمة القديمة وللشعر العظيم ,بل أيضا لكونها تسلية تمتاز بشعبيتها الخالصة وتتربع على أعلى الدرجات في سلّم قائمة المبيعات.حيث ألهمت الأوديسة الكثيرين , من(أليسا) جيمس جويس حتى سينما (جورج كولوني) وكذلك كان للإلياذة نصيبها من الإقتباس في أفلام عن طروادة حققت مايتجاوز 100 مليون دولار من الأرباح.
على أية حال فإن اليونانيين القدماء يعتقدون إن ملاحم هوميروس كانت شيء أكبر من كونها حكايات خيالية: كانوا يعتيرونها بمثابة قصائد تروي تاريخ الحرب الحقيقي بشكل متسلسل, وتعكس بشكل موثوق به, ماكان يواجهه الأسلاف من تحديات.لكن العلماء المعاصرين يميلون بشكل عام الى التشكيك. تصف القصائد الثقافة التي أزدهرت قبل ولادة هوميروس بمئات السنين,والتي كانت ذات طابع اسطوري حتى بالنسبة له.وقد أجاز العلماء أن تكون بذرة الحقيقة التاريخية مختبئة في طيات اكاذيب البطولات المبالغ بها والشاعرية المسهبة,إلا أنه في الأعوام الخمسين الأخيرة برز أمر جوهري جعل معظم الدارسين يميلون إلى جانب القصص الكلاسيكية التي تجادل بأن الملاحم كانت عبارة عن ( مجموعة حكايات من البداية إلى النهاية) ليس إلا وإنها – بكل فخامتها وتسلسل أحداثها ذات الطابع الدرامي - لاتقودنا أبدا إلى الحضارة التي شهدت قتال حرب طروادة. نحن وسط إعادة تقييم شاملة لتلك الأعمال التي تشكل المرجع الأساسي للأدب الغربي. لكن الفضل يعود للأدلة التي يزودنا بها اليوم التطور الذي تشهده علوم الأثار وعلوم اللغة والتي تمدنا بالدعم اللازم عن أحداث حرب طروادة وأين جرت,بالإضافة إلى البراهين التي تقدمها الحفريات والتنقيب في المواقع المناسبة في طروادة وكذلك من التحليلات الجديدة للألواح واللقى الأثرية من الإمبراطورية السائدة في المنطقة آنذاك.كما إن التدقيق الذي يجريه علم الأنثروبولوجيا المقارن قد نقل لنا دراسات جديدة عن المجتمع الذي أبدع تلك القصائد العظيمة وهو مايسمح لنا بتحليل الملحمة بطريقة جديدة تطرح علينا اقتراحا بأن نماذج العنف الذي يلّف قصائدها تتضمن مفتاحا لتاريخ الأغريق القدماء – برغم إن قراء هوميروس لن يكونوا بالضرورة قد حصلوا على هذا المفتاح أو اعتقدوا إنه في حوزتهم.إن (الإلياذة) و (الأوديسة) هما أعظم وأغلى مانمتلك من الثقافة الأغريقية في بداياتها الأولى.وبعيدا عن علم الأثار وخرائبه الجافة ومواقعه البكماء , تظل القصائد هي آخر الإنطباعات الباقية عن المجتمع الذي أبدعها – ماالذي كان يجعل الناس مفعمين بالأمل محبين للحياة ,وما هو الشيء الذي كان ينشر بينهم اليأس , وكيف كانوا يديرون شؤونهم الحياتية الإجتماعية منها والسياسية.إن القصائد هي عبارة عن آلات للزمن – ليست خالية من النواقص بالتأكيد – ترينا صنفين من البشر إما بشرا يشبهوننا أو آخرين يختلفون عنّا غاية الإختلاف. كما إنها لاتزال توحي لنا بحقائق جديدة حول حضارة ماقبل التاريخ تلك الحضارة التي مارست بكل قوة تأثيرها ومدّت نفوذها على الفن وعلى التاريخ بل وحتى على سيكولوجية الغرب إلى يومنا هذا.إن الرغبة في إيجاد الحقيقة عند هوميروس لها تاريخ طويل متعدد الأشكال ,ولا يلوح بالأفق طيف أكبر من طيف رجل الأعمال الألماني وعالم الآثار هنريش شيلمان وهو الرجل الذي نال ثقافته في هذا المجال بجهد شخصي وتعليم ذاتي. فقد نزل على ساحل آسيا الوسطى (أي تركيا الحالية ) في عام 1870 وكان يحمل في يده نسخة من (الإلياذة). وجد على السهل المنبسط أمامه متراسا من الحشائش والحجارة وشجيرات العليق يرتفع كركام حتى 100 قدم نحو السماء دون أن يثير في النفس أي عاطفة. فقد جرى العرف ومنذ زمن طويل على إطلاق إسم على هذا الركام هو ( هيسرلك) وهو الموقع المحتمل لطروادة التاريخية. وفي الحال أبلغ شيلمان العالم بلهفة المكتشف- دون أن يأخذ نفسا – بأنه والحفارين الذين يعملون لصالحه وجدوا آثارا متفحّمة للمعقل الرئيسي الذي تم تدميره قبل التاريخ من قبل الأعداء – وإنه وجد موقع طروادة الذي حدده هوميروس بالضبط .فأنتشرت هذه الأخبار المثيرة في زوايا العالم الأربع وكذلك انتشرت وجهة نظر شيلمان التي تؤكد إن الملاحم كانت تؤرخ بشكل دقيق للعصر البرونزي الأخير – وإن عالم الأغريق هذا كان في عام 1200 قبل الميلاد تقريبا – وهو العالم الذي تطلب أكثر من خمسين سنة من الدراسات المستفيضة لكشف مجاهله. لكن في الحقيقة إن شيلمان لم يجد طروادة هوميروس.كانت هيسرلك منطقة مسكونة من عام 3000 قبل الميلاد حتى 500 ميلادية ,كما إن التنقيبات الأثرية اللاحقة أظهرت بأن حضارة شيلمان كانت كسرة صغيرة من ركام كبير كان قد اندثر قبل ألف سنة من وقوع حرب طروادة الحقيقية. وذلك عندما قام عالم الأثار الألماني( كارل بلاغن) بفحص طبقة من ركام هيسرلك, فوجد إن ما ترسّخ في الأذهان عن تلك المنطقة ليس سوى ترهات فارغة ليس لها أي قيمة علمية. لقد قادت شيلمان ادعاءاته وتمنياته وقلة خبرته ورغبته في تحقيق مجد شخصي إلى خطأ جدي وأنهت بشكل مخزي في نهاية المطاف ما كان يدعيه من إن قصائد هوميروس مثبتة تاريخيا. لكن التنقيبات الأحدث عهدا قلبت من جديد ما كان قد تم الإجماع عليه, ربما في هذه المرة سيكون لما هو أحسن. فقد تبين لنا الآن إن شيلمان وبلاغن كانا قد اكتشفا قمة الجبل الجليدي فقط, فبعد تجريف هيسرلك وإزالة السطح الخارجي من ذلك الركام بدأت تبرز للعيان آثار لمدينة مدفونة تحت سطحه .أي إن ذلك الركام كان قد أوقف المشروع لعشرين عام بوهم الوصول إلى الحقيقة...ولكن الذي قادنا إلى الحقيقة هو عالم آثار ألماني آخر يدعى ( مانفريد كورفمان) بمساعدة المئات من المعاونين والتي كشفت النقاب عن مدينة كبيرة مطمورة, هي ما كان يحيط بذلك المعقل وذلك باستخدام التقنيات الحديثة مثل الحواسيب المتطورة والآلات الدقيقة التي تمكن الباحثين من الرؤية مخترقة باطن الأرض حتى قبل أعمال الحفر.كان كورفمان ورفاقه على يقين بأن حدود حجم المدينة أكبر عشر أو خمس عشرة مرة وأن عدد السكان فيها يتراوح بين 5000 إلى 10000 آلاف نسمة وهذه يعني إنها مدينة كبيرة بحجمها وبعدد سكانها بالنسبة لزمانها ومكانها. بما تتمتع به من دفاعاتها الحصينة وأنظمة للمياه تحت الأرض تساعدها على الصمود في أوقات الحروب والحصار.كما إن المدينة كانت تحمل أيضا دلائل وإشارات على عملية نهبها ثم إحراقها حوالي عام 1200 قبل الميلاد, في الوقت الذي جرت به حرب طروادة تماما.لكن إذا كان يُنظر إلى حرب طروادة بشكل متزايد على إنها حقيقة تاريخية, فهناك سؤال لايمكن التغافل عنه وهو فيما إذا كانت قصائد الملحمة تطلعنا على أي شيء يخص دوافع وأفكار الناس الذين اشتركوا في تلك الحرب.وهل إن آلات الزمن الملحمية ترجعنا فعلا إلى الثقافة اليونانية في العصر البرونزي الأخير.إنه لمن المؤكد تقريبا إنها لن تفعل ذلك. ملاحم هوميروس تشكل ذروة الحكايات التي انتقلت عبر القرون الطويلة شفهيا من جيل إلى آخر , وتتقاطع عندها الدراسات الواسعة التي تعنى بتوثيق الأدب الذي ينتقل بهذه الطريقة والذي أسس على قصص غير جديرة بأن تكون تاريخية في الحقيقة. إن العلماء الذين يدرسون أعمال هوميروس يعتقدون بأن الملاحم قد تمّ تدوينها بشكل نهائي في القرن الثامن قبل الميلاد, يعني إن قصص أخيل والأوديسة بقيت تتناقلها الأفواه لمدة خمسمائة عام قبل أن يتم تدوينها بشكل نهائي.وبالتالي فإن الحقائق حول الحرب والناس الذين اشتركوا بها قد تمّ تحريفها بشكل كبير.كما إن العلماء متفقون على إن الوصف البسيط الساذج الذي يقدمه هوميروس في ملاحمه لايتناسب أبدا مع الممالك اليونانية الغنية وتعقيداتها والتي شهدها العصر البرونزي الأخير حيث جرت الحرب. لكن حتى لو كانت الملاحم تؤرخ بشكل سيء لليونان في عام 1200 قبل الميلاد – بنقل الأسماء والتواريخ والروابط السياسية بدقة - إلا أن العلماء يوافقون بشكل متزايد على كونها نافذة على الثقافة اليونانية في زمن تدوين القصائد بشكل نهائي.كما إن الملاحم لاتقودنا على الإطلاق نحو تاريخ حرب طروادة بل نحو ثقافة هوميروس الخاصة.وعندما نلتفت بعين عالم الآثار للصراعات التي كتب عنها هوميروس نتعلم عند ذلك الكثير الكثير عن تلك الثقافة وكيف تبدو تماما.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow