Alef Logo
مقالات ألف
              

عندما تكون الرحلة هي هدف الرحلة

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2012-06-20

في أسطورة العنقاء التي تناولها «فريد الدين العطار» في (منطق الطير) نجد مجموعة من الطيور تقرر البحث عن العنقاء، فتبدأ رحلة طويلة تدور بها حول العالم ولطول الرحلة وشدة المعاناة تصاب الطيور بالإعياء والتعب الشديد، فتبدأ بالتساقط واحداَ إثر الآخر.
وبعد أن تُكمل دورانها وتعود إلى نفس النقطة التي بدأت منها رحلتها دون أن تحظى بالعنقاء تكتشف أن عدد من تبقى من الطيور صامداً بعد نهاية الرحلة هو ثلاثين طائراً، وبما أن العنقاء في اللغة الفارسية هي (سيمرغ) وأن تعني ثلاثين ومرغ تعني طائراً تكتشف الطيور أنها هي العنقاء وإن الهدف من الرحلة قد تحقق وهو الرحلة نفسها، فبالرحلة اكتشفت ذاتها وعرفت ما هي عليه. وكذلك الرحلة في الفن التشكيلي فالهدف من الرحلة هو عين الرحلة. ولمزيد من التوضيح نقول: إنَّ الفن التشكيلي، مرّ بمسيرة مشابهة لرحلة الطير في الأسطورة. ولكي نلقي الضوء على هذه المسيرة علينا أولاً أن نتعرف على مفردات الفن التشكيلي وأدواته والتذوق الفني والتجربة الجمالية. «والإنسان هو صانع الصور. فمن الرسوم على جدران الكهوف للإنسان الحجري انحدر إلينا رصيد ضخم من الفنون البصرية استمر قائماً إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من أن الحافز لهذه الرسوم قد اختلف من عصر إلى آخر. إلا أن الشواهد الكثيرة تدلل على مدى حاجة البشر إلى نقل تجاربهم وتحويلها إلى رموز صورية». يناقش الفيلسوف «ألبرت تشالندر» في كتابه « الجمال والطبيعة البشرية» المتعة التي يجدها الفرد في الفنون، فهو يطلق على المتعة تعبير «التجربة الجمالية» فيقول: (باستطاعتنا تحديد معنى التجربة الجمالية بعبارة المتعة بالتأمل، أو بديهة الاستمتاع. فعندما أتمتع بمشهد الغروب الجميل فأنا أحس بالرضا بالتأمل فيه. إن فضولي العقلاني، حينئذ، يكون في غيبوبة. فأنا لا أعبأ آنئذ بالمسببات الطبيعية من ضوء وغيوم. اهتماماتي العملية معلّقة. فلا أعير اهتماماً، آنذاك، إن كانت السماء تنذر بالجفاف على الرغم من أن حديقتي بأمس الحاجة للمطر. لديّ متعة بتأمل الغروب فحسب. قد تعني كلمة «متعة» على نحو غير مباشر، الحالة الذهنية المتولدة من الرغبة في إطالة التجربة موضوعة البحث. فمصطلح «المتعة» أفضل من السرور، لأن المتعة هي الأشمل. فالإنشاد القلق الذي تثيره التمثيلية العاطفية نادراً ما يثير السرور، لكنه، دون أدنى ريب، متعة مادام الناس يسعون إليها ويبغون إطالتها وتكراراها. وقد يقال الشيء نفسه عن الموسيقى الحزينة وشعر الرثاء، فهما يجعلاننا نذرف الدموع لكن تجربتنا هذه، مع ذلك تسبّب لنا المتعة). في الأساس، إن التجربة الجمالية هي نتاج التواصل بين الشيء الفني والمشاهد. وهذا التواصل لا يتأتى إلا إذا تهيأت الظروف لحدوثه.
وهذه الظروف هي استعداد المشاهد وقابليته على تحسس وإدراك معالم ذلك الشيء. أو التجربة التي تساعد على خلق حالة من المتعة الجمالية قد تنشأ بفعل الاستجابة الحاصلة تجاه الحافز في الطبيعة والحافز الذي هو من صنع الإنسان معاً. يتساءل «ناثان نوبلر» في كتابه «حوار الرؤية» عن موقف التجربة الجمالية المطلوب. فيقول: «في البدء من الضروري أن يوجّه اهتمام المشاهد إلى الشيء الذي أمامه، فالناظر إلى عمل فني يجب أن يوجّه كامل اهتمامه إليه. قد يحصل بعض الاتصال بالعمل الفني دون أن يركّز المشاهد تركيزاً مطلقاً فيه، فمعظم الناس الذين يعيشون في غرف تزيّنها الرسوم قد لا يتوقفون لتأملها إلا توقفاً عابراً. وآخرون قد يستمعون إلى الموسيقى وهم ينجزون مهامهم المنزلية، فيجمعون بين العزف الموسيقي والطبخ ونفض الغبار في آن واحد. وكلا المثالين يؤلف اتصالاً غير مباشر بالعمل الفني، أي ليست هناك بينهما علاقة. «وجهاً لوجه» كما يقال. وهناك أمثلة أقل وضوحاً لكن لها النتائج نفسها؛ فالتجوال العابر في أروقة المتاحف والمعارض دون التوقف والتأمل لتلقي التأثير المحتمل، وتداخل الضوضاء وجموع الناس التي تعيق التركيز، والإضاءة الرديئة، والخلفيات غير المنسّقة- كل هذه تخلق حاجزاً من نوع ما بين الناظر والعمل الفني». كما أن النتيجة التي توصل إليها الفلاسفة في أن تعريف الجمال يختلف من شخص إلى آخر عزّزتها الدراسات النفسية التي أوضحت أن رد الفعل الجمالي مماثل لردود الأفعال العاطفية، وأن ردود الأفعال الفردية تختلف بجلاء من شخص إلى آخر. ومنذ مرحلة الطفولة فقدُماً، يتلقى الواحد منَّا إحساسات لا تحصى تشكّل في داخله استجابة محتملة لحوافز معينة.
ولأن ردود الأفعال العاطفية متباينة، ولأن هناك العديد من الخصائص المجهولة لإثارة حاسة الجمال في نفوسنا جميعاً، فمن المتعذر إرساء معايير مطلقة لتعريف الجمال، إذ ستثار الأسئلة من جديد: «جميل لمن؟» أو « جميل متى؟». ولكي نصف الفن بالجمال يجدر بنا «حينئذ»، أن نقصر تعريف الكلمة على مستوى شخصي بحت بحيث تغدو الكلمة فيه غير ذات معنى.
إن الفن هو نتاج إنسان ينظم فيه المواد بحذق ومهارة لكي يوصل تجربة إنسانية ما. وضمن هذا المفهوم يتسنى لبعض المشاهدين أن يرى الجمال، وقد تتاح لبعضهم الآخر الفرصة لكي ينعم بمتعة فكرية وعاطفية. وقد لا يرى غيرهم، إلا لغزاً يقلقه. في عام 1911 نشر الرسام والمنظّر الروسي «فاسيلي كاندنسكي» كتاباً حاول فيه تعريف مفاهيمه الجديدة في الفن. ففي كتابه (عن الروحية في الفن) شرح «كاندنسكي» نظريته في فن يقوم على القناعة الداخلية. إنه يشعر أن الفن يجب أن يستل من التجربة الحقيقية لكنه أيضاً يجب أن يتكامل بفعل شخصية الفنان الفرد وواقعه الذاتي المحض. دون أية محاولة لتمثيل مظهر العالم الخارجي صورياً. ولتحقيق ذلك فقد اقترح استعمال «لغة الشكل واللون»، كما أضفى قيماً تعبيرية على ألوان وأشكال معينة وأكد أن من الضروري للفنان أن يرسم وهو يضع في اعتباره مسبقاً هذه القيم لأنها تمثل ذاتية الفنان. أي استجابته «الروحية» للتجربة. لذلك يقول:(في الواقع ليس بالإمكان عدّ صورة ما «مرسومة» جيداً، إذا ملكت قيماً لونية صحيحة. لكن المرء يطلق عليها هذا الوصف إن كانت ملأى بالحياة فـ«الرسم الكامل»، هو ما ليس بالإمكان تغيير شيء فيه دون القضاء على الحياة الضرورية الكامنة. وبغض النظر عما إذا كان هذا الرسم يناقض فكرتنا عن علم التشريح، وعلم النبات أو غيرها من العلوم. المسألة ليست مسألة انتهاك للشكل الخارجي العرضي، لكنها فقط مسألة اعتماد صفته على حاجة الإنسان إلى أشكال معينة، مهما يكن النسق الواقعي. كما أن الألوان يجب أن تستعمل لا لأنها تصور الطبيعة، بل لأن الانسجام اللوني مطلوب للرسوم كل على انفراد. وللفنان كل الحق في استخدام أي شكل من الأشكال التي يعدُّها ضرورية لتحقيق هدفه، بل إن من واجبه أن يفعل ذلك).
على العموم إن التذوق الفني هو حوار رؤية بين المشاهد والعمل الفني الذي أمامه. حوار يتطلب محاوراً ملمّاً، مدركاً ومتجاوباً من ناحية. والعمل الفني من ناحية أخرى، والطرف الثالث أي الناقد والمدرس، إنما يكون وسيطاً لتقديم المحاور إلى العمل، وإعداده لتذوقه، ولكن ليس بوسعه أن يفعل أكثر من ذلك، لأن تذوق الفن لا يمكن تلقينه، فهو ينمو في المشاهد حين يكون مستعداً له. ولن ينمو إلا إذا قام الاتصال المستمر بين المتحسس والعمل الفني.
يقول الدكتور «علي شاكر النعمة» في دراسة له بعنوان «مدخل إلى مدارس الفن التشكيلي» ما نصه (إن جدلية العلاقة بين الغائية والموضوع من جهة وبين اللاغائية والذات من جهة أخرى، انعكست على الفن بوضوح، فتنازع المحيط الموضوعي بكل ما يحمله من قيم وعقائد ومصالح وأحلام أفضت بالضرورة إلى جعل الفن سائراً في ركاب هذا الجدل، دون الوصول إلى أحداث تواشج أو تعايش تأملي جمالي تطمح الذات في نشاطها الإبداعي الفردي الموجه إلى الداخل إلى بلوغه ولو بشكل محدود التداول، وهذا ما عبر عنه (ريد) بقوله: «إن طاعة سلطة ما في ظل ظروف خارجية تفرض ضغطاً شديداً على الفن وقد يكون مصدر السلطة واقعاً في نطاق الفرد نفسه أو في نطاق المجموعة المذعنة» (1) ولقد استمدت مرجعية الفن الموضوعية الغائية مشروعيتها من طبيعة البنية الفكرية العقائدية المهيمنة على الوعي الإنساني في حقب الحضارة الأوروبية منذ الإغريق وحتى بواكير النهضة.
ولعل الاستعانة بالثقافة الإغريقية القديمة كدافع للديانة المسيحية في عصر النهضة، وشيوع (المذهب الإنساني) أدى إلى تغيير الرؤية المفاهيمية للوجود والعالم – وهو محور فلسفي أساسي ضمن محاور الفلسفة اليونانية القديمة، الوجود، المعرفة، القيم – حيث ترحّل وفقاً لذلك التغيير الأنموذج المثالي القيمي من الإله – المطلق إلى الإنسان النسبي النهضوي فالإله تجسد على يد (مايكل أنجلو Maichel Angelo) بصورة شخص كبير الحجم في جدارية رسمها على سقف كنيسة (السيستين – Saistena). وكذلك دفع (ليوناردو دافنشي Leonardo Davenshi) النزعة التشخيصية الإنسانية إلى الأمام بتحويله للأنموذج الإنساني القيمي إلى فرضيات هندسية وأقيسة وقوانين للنسب (2) انتهت بدورها إلى وضع (النسبة الذهبية) كعرف منطقي رياضي يعد قاعدة ثابتة في تقاليد الرسم الكلاسيكي وأنموذجاً جمالياً لا يخلو من مرجعيات (فيثاغورية) نادت من قبل باعتبار العدد أساساً للوجود ومظاهره. (3) بما يرسخ المعيارية وبالتالي الجمالية الغائية) لذا فإن ما يمكن قوله عن التحول الكبير الذي حصل بين فترتي الحداثة وما قبلها هو ما يمكن استيضاحه على صعيد المنجز الفني، وأهم المؤشرات الممكن استخراجها هنا، هو التحول من الغائية إلى اللاغائية ولكن بشكل تدريجي، وما يؤكد ذلك تبدل القيم التي هيمنت على المدارس الفنية الما قبل حداثية من حالة القيم المضامينية إلى القيم ذات التداعيات الشكلية، وهذا ما يستشف من تتبع تحولات السياق الجمالي للفن الحديث حيث التخلص التدريجي من الوصاية المضامينية إلى النبوغ الذاتي للشكل.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow