Alef Logo
مقالات ألف
              

"بين الجد والهزل"

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2012-09-16

إلى منْ تصلي عند قبره أرواح الشياطين, تمجيداً لعهد البطش والطغيان" بهذه الكلمات قدّم الشاعر البغدادي الراحل " حافظ جميل " الاهداء في أحدى قصائده التي تضمنها ديوان (نبض الوجدان) الصادر في خمسينيات القرن الماضي. تلك القصيدة التي تضمنت وصفاً لطاغية تصلح أن تكون شاملة لكل طغاة العالم. لم يتبقى في الذاكرة سوى ثلاثة أبيات من تلك القصيدة التي تصف الطاغية بسخرية مُرّة سوداء. يقول حافظ جميل:
يمناكَ ماتركت عذراً لمعتذرِ....فاضرع ليسراك أن تبقي على البشرِ
إذا تبسمتَ طار الناسُ من فرحٍ.... وإن تجهمتَ ماجَ الناسُ في كدرِ
وإن أقمتَ أقامَ الذعرَ محتشداً.... وإن مشيتَ مشى الطاغوتُ في الأثرِ
هذه الأبيات وذلك الاهداء الذي يشبه النعي أخذني لتقمص حالة من الكوميديا الساخرة التي نحتاجها جميعاً كحالة دفاعية تبعد عنا الاحساس بالاخصاء ونحن نرى الاسلحة والمسلحين المدججين بها من حولنا, "بغضّ النظر إذا كانوا ثواراً أو جلادين". فحامل السلاح يظن نفسه امتلك الحقيقة المطلقة ويعطي الحق لنفسه أن يمارس على الآخرين سلطته القامعة أو الموجِّهة التي تفرض على الآخرين الطاعة بمنطق القوة لا بقوة المنطق. بتعبير آخر نجد أمامنا استعراض صارخ عن القوة والضعف, أو كما قال ايليا أبو ماضي ذات مرة على لسان الغراب الذي كان يخاطب البلبل:
لا رأي للحقِ الضعيفِ ولا صدى.... الرأيُ رأيُ القاهرِ الغلابِ
في متاهة القوة هذه واستعراضاتها التافهة التي تهزء بالموت ويهزء بها, ذلك الموت الذي تلعب معه لعبة نرد جهنمية, أجدني وقد انسحبت نحو السخرية من كل شيء. من الموت وصنّاعه ومن الخوف وتجّاره ومن الحياة نفسها في كنف الشعارات والشعارات المضادة, ومن الخطل الذي يصيب الجميع في الخيارات والبدائل, ومن ضجيج الاعلام وأبواقه والببغاوات التي تردد ما تقوله القناة الفلانية ومن خصومهم من أنصار القناة العلانية, (الكل لايرى إلا بمنظار أحول). السخرية هنا هي الترياق الذي يشفي الحليم الحيران صاحب القلب الكبير والحظ القليل. وتطيّب خاطر مكلوم الفؤاد من فقدان الأحبة, والشعور بالتيه. السخرية أن تضع كل الهذر والكلام (الكبير) والمزايدات في أقرب حاوية للزبالة. وأن تلتفت إلى (الدروايش من الجانبين) أن تعير انتباهك وجلّ فكرك نحو من يفترش الأرض ويلتحف السماء. أن تحدّق وتدقق بوجه من بدفع الثمن الباهض دائماً ولا يحظى بغير كلمات التأبين والتعزية التي تذروها الرياح سريعاً من (على الطاولة). طاولة المدمنين على الجلوس في الصفوف الأولى, الذين يأخذون صفة الدوام من إسم الله (تعالى ذكره) الذين يتربعون على الأكتاف سواءاً كانت تلك الأكتاف موالية أم معارضة. السخرية من تجار الكلام والمؤتمرات الذين يدورون في فلك المصلحة الشخصية حتى إن ادعوا إنهم دعاة للتغيير وسعاة للحرية. ولكي لا تقتلنا الكآبة التي تنشرها حولنا غربان الانتهازية وقرود االتصفيق والتلفيق. أتحول للموجة الساخرة وأنقل للقاريء النعي المتخيل التالي لانسان محب للحياة فارقها مرغماً غير مختار, فأقول:
"كان رحمهُ الله, "معراقاً", "مبياراً", "منباذاًًًً", يميل إلى "الوسكي" في السهرات وإلى "الفودكا" في الملمات, ويستعين بالحشيش مع المشروب في الشدائد, وتقلّب الأيام. أما إذا استحضر "التكيلا" بملحها وليمونها فأعلم إنه يستعد للرقص الزوروبي اليوناني أو "البزخ" العراقي أو يستشيط غضباً مرتفعاً عن الأرض وعائداً إليها بدبكة فلسطينية. لم يترنح في حياته إلا لماماً, ولم يفقد وعيه وسرعة بديهته إلا قليلاً. كان غفر الله له حاضر القلب للسعادة وكله آذاناً صاغية لداعي المسرّة. سُئلَ ذات مرة عن الخمرة فاستحضر الماضي الأليم وقال: كان ياما كان في قديم الزمان...
في داخل قاعات مجمع للّاجئين والمهجّرين العراقيين في ايران في ثمانينات القرن الماضي, كان ثمة أسرّة مزدوجة و فسحة بين كل سريرين مزدوجين عادة ما تفرش بما يتاح من بطانيات أو أي شيء يصلح كحصير أو نحو ذلك, تكون حلقة للطعام أو لشرب الشاي أو للسمر في الليالي شديدة البرودة, أحدى ليالي هذه الجلسات كانت مخصصة للحدبث عن الخمر أو قُل أن تشعب الأحاديث جرّ الجميع للحديث عنها فتناولها أحدهم من جانب ديني متملقاً من كان موجوداً من المتدينين أو قل المدّعين, فأكد على ضرورة تجنب الخمر وذكر ما يظن إنه مذكور في القرآن عن تحريم الخمر, وشارك آخر برأي طبي وعلمي وقال ثالث عن فوائدها للجسم بينما تناول أحدهم ديواناً أو قرأ مما يحفظ أبياتاً في الخمر وعشقها واحتدم النقاش وتحول إلى جدل هزلي عن السكر والسكارى والمبدعين وعلاقتهم بالخمر حتى انبرى أحدهم ليختم الحديث كعادته بين الجد والهزل وهو الذي يلقب جزافاً بالحاج "م" قائلاً, إسمعوا جميعاً رأيي بالخمر, مع احترامي للجميع, برأيي المتواضع "الخمر كان في الأول مشروب الملوك وقد أتيح لعامة الشعب بفضل الحكومات الوطنية".....
يقول الكاتب التركي الساخر عزيز نيسن "في سنوات الدراسة الأولى, كانت السخرية سلاحي الوحيد بوجه "البلطجية" من الطلاب الذين يفوقوني حجماً, اولئك الجبابرة الذين يوسعون الضعفاء ضرباً. لقد أنقذتني السخرية من بطشهم".


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow