Alef Logo
دراسات
              

تجربة خيري الذهبي الروائية...المعمار الفني أولاًَ

غياث راسم المدهون

2008-02-23

تجربة الكاتب السوري خيري الذهبي الروائية، شكلت منذ السبعينات إغناء نوعياً له مذاقه الخاص والمميز في سياق حركة الرواية السورية التي اعتنت – عموماً – بالهمين السياسي والاجتماعي، ربما أكثر بكثير من اية تجربة روائية عربية أخرى، ولعل هذه الملامح بالذات، جعلت تجربة الذهبي تأخذ تميّزها وخصوصيتها من انتباهها الواعي لحركة المجتمع، كما تتبدى من حدقة الكاتب، الرائي والمتأمل، أكثر من تجلياتها الأيديولوجية وما يعصف بها من أسطرة مسبقة، ومن قراءات إنسانية تذهب إلى حدود «الحتميات» و «الثوابت». منذ مطلع تجاربه الروائية الأولى، في سبعينات القرن الفائت، لاحظ النقد والقراءة الموضوعية شغف خيري الذهبي بمحاولة سبر التكوين الاجتماعي السوري عموماً، والدمشقي على وجه الخصوص، وهو سبر ذهب في توغله إلى رؤية العلاقات الإنسانية كما هي في الواقع فعلاً، أي من خلال تجلياتها التي تعكس عادات وتقاليد، مفاهيم وثقافات، والأهم، مواصفات الشخصية «الشامية» العامة، والتي لا تغيب في زحام وطغيان المواصفات الشخصية الفردية التي تميز البشر كأفراد.
لعل قراءة أعمال خيري الذهبي الروائية منذ «ملكوت البسطاء» و «ليالٍ عربية» حتى «صبوات ياسين»، مروراً بـ «حسيبة» و «فياض» و «الدوران في المكان» و «فخ الأسماء» و «لو لم يكن اسمها فاطمة»، تكسف اعتناء الذهبي العميق ببناء شخصياته الروائية، وبالذات الشخصيات الرئيسة إلى الحد الذي يسمح لنا أن نقول من دون خشية الوقوع في المبالغة، أن روايته هي بالدرجة الأولى رواية شخصيات، لا بسبب قوة حضور الشخصيات في الرواية فحسب، ولكن بتعمد الكاتب أن تكون الشخصية الرئيسة محور العمل الروائي وبؤرته التي ترتبط بها الأحداث، بل التي تنبع الأحداث من بنائيتها ووعيها، تماماً كما من تصرفاتها وردود أفعالها.
هنا لا يعود ممكناً ولا منطقياً عزل الشخصية الروائية عن بيئتها الاجتماعية، فرواية الذهبي، بيئية بامتياز، ولكن ليس بذلك المعنى الذي يحيل إلى الفولكلورية والتزيينات الخارجية، ولكن من خلال تقديم ذهنية أبناء هذه البيئة، طرائق تفكيرهم، عوالمهم العامة وما فيها من ملامح مميزة، ثمّ حضور التاريخ فيهم، ليس من خلال وقائعه وأحداثه، ولكن من خلال أثره العميق في تشكيلهم على صورهم الأخيرة، التي تجعلهم ينتمون إليه يتميزون به عن غيرهم، بل يخلقون من خلال تميزهم عالمهم الخاص، الذي يستحق عناية روائية تعيد تقديمه في صورة فنية، وفي سياق علاقات درامية فيها لعبة الفن وقدرته على أن يشابه الحياة الحقيقية، ولكن من دون أن يكون مثلها تماماً.
عناوين وأسماء
أهم أعمال خيري الذهبي الروائية تحققت خلال سنوات العقد الفائت، لكن أهمها على الإطلاق هي رواياته الثلاث الأخيرة «فخ الأسماء، «لو لم يكن اسمها فاطمة»، ثم «صبوات ياسين». نعدّد أسماء هذه الروايات فنلحظ إشارات لما ذهبنا إليه في مطلع هذه المقالة، فالروايات تحمل عناوين من أسماء شخصياتها، فاطمة، ياسين، ومن قبلهما، حسيبة وفياض وهشام، ففي كل تلك الروايات ثمة عالم إنساني بؤرته شخصية محورية يصطفيها الكاتب، من أجل إضاءة حقبة زمنية – اجتماعية لها التباساتها مثلما لها خطوط وعيها، ولها بالتأكيد وقائعها التي تشير إليها.
في الروايات الثلاث الأخيرة يبني خيري الذهبي شخصياته الرئيسة من لحم ودم، أي أنه ينجح إلى حد كبير في رسم ملامح إنسانية تحمل إلى جانب وعيها، قابليتها للتطور تبعاً للأحداث الاجتماعية والسياسية التي تواجهها. هذه مسألة على جانب شديد الأهمية، إذ نجد أنفسنا أمام شخصيات لا ترتسم ملامحها من ذهنية المؤلف ورغباته الثقافية، قدر انبعاثها «التلقائي» من ضرورات يمليها واقعها الاجتماعي ووعيها، أي أن مواقفها من العالم والحياة تظل قابلة للتجدد والتغير بحسب ما يمكن أن تواجهه من أحداث. يصعب في هذه الروايات – كما في أدب خيري الذهبي عموماً – الحديث عن «بطل إيجابي»، بذلك المعنى الذي جاء توصيفه من الأيديولوجيا، إذ لا نجد أنفسنا إزاء أبطال من ملامح محددة يتوجب أن نتوقع مسبقاً، تصرفاتهم وردود أفعالهم، ذلك أن كثيراً من تلك التصرفات وردود الأفعال يأتي بوحي من الوقائع الاجتماعية – السياسية منظوراً إليها من عدسة الوعي الذهني والثقافي، حتى لا نكاد نقول أن هذه النقطة بالذات تشكل الافتراق الأهم لروايات الذهبي عن أعمال جيله من الروائيين السوريين الذين استغرقتهم عموماً مقولات الستينات النقدية وفي المقدمة منها المفاهيم المغلوطة والملتبسة للالتزام والإيجابية والتي جعلت كثيراً من الروايات تسقط في التبشيرية، بسبب من حرصها المسبق على مسارات جبرية تشبه «الثوابت»، وأيضاً بسبب من انضباطها لتقسيمات اجتماعية ذات منشأ أيديولوجي، راحت تملي على الروائيين سلوكيات وأخلاق هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، من دون الانتباه إلى أهمية دور العوامل الشخصية وما حملته من تأثيرات ثقافية وفكرية، وحتى نفسية، وما يمكن أن تخلقه من نقائض لتلك «الثوابت» الأيديولوجية الصارمة.
فانتازيا روائية
في «فخ الأسماء» يختار الذهبي فضاء روائياً فانتازياً، يتوغل خلاله في حزمة من المفاهيم الموروثة وشبه الثابتة، ويستعيد وقائع وأحداث كبرى، أسهمت في تكوين الشخصية العربية وما تحمله إلى اليوم من تعادل من نقاط قوة ونقاط ضعف. «فخ الأسماء»، رواية التشويق الحدثي من خلال عنصرين مهمين:
- قوة بناء الشخصيات وتماسك منطقها – إذ جعل الكاتب أبطال روايته يعبّرون في صورة استثنائية وبالغة الجمالية عن واقعهم وحياتهم، هم الذين يفترض أنهم من مواقع اجتماعية عادية. إنهم بمعنى ما نخبة التاريخ الافتراضي وأبطاله، الذين يحملون مشعل الوعي والخلاص، يجوبون به ومعه أزقة ودروب تاريخية تحيطها من كل جانب، ويجدون أنفسهم في كل مرة مطالبين بتجاوز القمع والعسف السلطوي وطغيان الارادات الغريبة من أجل الحفاظ على مشعل الوعي والخلاص متوهجاً في أيديهم، وقادراً على متابعة رحلته في التاريخ الفانتازي، الذي تشاؤه الرواية معادلاً لتاريخنا الواقعي.
يرسم خيري الذهبي ملامح أبطاله مستفيداً من إرث القص العربي وما فيه من إتكاء على فكرة البطل – الفرد، الذي يمكن أن يشكل حضوره رافعة التغيير ووسيلته، فيعمد إلى توظيفه في سياقات موضوعية. ثمة في «فخ الأسماء» أقانيم ترسخ في بنائية الرواية بوصفها «الثوابت» والأساسيات ليس في الرواية ذاتها وحسب، ولكن في الحياة العربية التي هي مهد الرواية وأرضها.
أهم هذه الأقانيم وأشدّها غنى وقدرة على الإيحاء، المرأة التي يحسن خيري الذهبي صياغة ملامحها، ويقدمها في صورة تتجاور مع الوعي الراهن فتخلق حواراً إيجابياً، يمكن لنا من خلاله استعادة صورة المرأة العربية لا في التاريخ وحسب، ولكن أيضاً في الراهن من أيامنا ومعها صورة وعينا «الحداثي» بوجود هذه المرأة. هي صياغة تركيبية، حملت وتحمل مزيجاً من الإرث الفكري والتقليدي والوعي الحداثي المكتسب، بكل عصفه وجموح حركته في اتجاه التغيير وفي اتجاه بلورة وعي وواقع جديدين.
ميزة «فخ الأسماء» الأهم أنها أكثر نتاجات هذا النوع من الروايات قدرة على امتلاك مصداقية تدفعنا للتواطؤ مع حدثها وسياقاتها، ثم تالياً وأساساً مع أبطالها، مع أحلامهم وبحثهم العنيد والصبور عن نقطة ضوء كاشفة يمكن أن تلوح في نهاية النفق. نقول ذلك وقد قرأنا خلال سنوات العقد الفائت عدداً كبيراً من الأعمال الروائية التي نهضت على فضاء تاريخي، وعلى فضاء تاريخي فانتازي بالذات تكررت خلاله فكرة «عثور» المؤلف على مخطوط قديم يروي حكاية وأحداثاً معينة، يبدأ الكاتب في سردها على الورق، حريصاً كل مرة أن «يؤكد» لنا نحن القراء، أن دوره يقتصر فقط على سرد الأحداث بأمانة وكما جاءت في المخطوط، وهي حيلة فنية نتواطأ كل مرة بقبولها على أمل الوصول لما هو أهم وأثمن: بنية روائية جميلة المعمار، رشيقة السياقات والتسلسل، ثم دسمة المضمون، الذي يمكن أن يستحق كل ذلك البذخ الفني. ومع ذلك كنا في كل مرة ومع كل رواية نفتقد الأهم والأكثر ضرورة لانجاح الأعمال وجعلها قريبة من أرواحنا، ونعني قدرتها كروايات على إقناعنا، قدرتها أن تكون معادلاً سلساً، له وشائجه المتينة مع حسّنا الجمالي، وهو مأزق مزدوج فني وفكري على حدٍ سواء.
«فخ الأسماء» هي إذن التجربة الأنجح، والأكثر جمالية، وهي ربما لهذا السبب بالذات، تمكنت من أخذ موقعها المميز في مسيرة الكاتب وفي مسيرة الرواية السورية عموماً، والتي تحتاج في صورة مستمرة إلى وعي علاقتها بالتاريخ والسياسة والقضايا العامة بطريقة مغايرة وأساليب مختلفة.
أما في «لو لم يكن اسمها فاطمة»، فإن الذهبي يعود إلى خياره الفني المفضل. رواية المرأة – البطلة، التي ينهض العمل الروائي كله من حول شخصيتها بالذات، ولأنها كذلك فهي بالضرورة امرأة استثنائية، في مواصفاتها كلها، وهي في الوقت ذاته جديرة بتلك المواصفات التي تتحول معها إلى امرأة الحلم، ذات القدرة الطاغية على ولوج وعي ومخيلة القارئ. عوالم رواية «فاطمة» تستقصي مباذل الفساد السياسي والاقتصادي وتتوغل في دهاليز العلاقة بين الحكام والمحكومين. أهم ما في الرواية ذلك المعمار الفني، المشغول بعناية فائقة، والذي يتجاوز خلاله الذهبي مسألة الغاية الفكرية ونبالة القصد التي تحكم معظم الروائيين، ويصل بفنية عالية إلى تقديم بنية روائية تنهض الجمالية في أساسها، حيث تنبني المضامين الفكرية بعد ذلك، على هذه الجمالية، وهو نجاح تحققه أيضاً، وفي صورة عالية روايته الأحدث، «صبوات ياسين»، التي يمكن أن نشير إليها بوصفها رواية المرحلة السياسية والاجتماعية بامتياز.
في «صبوات ياسين»، يبرع خيري الذهبي في تقديم صورة المثقف السوري خصوصاً، والعربي عموماً في أزمته الوجودية الحادة، بين نسختين، واحدة رسمتها السلطة وشكلت عقلية صاحبها بالتدجين والترويض المستمرين، وأخرى أمكن لها أن تفلت من أتون ذلك الترويض وأن تجوب ساحات الحياة والفن طليقة ومتسلحة بوعيها الخاص، النقيض لكل ذلك والمتصادم معه. هنا نلحظ أيضاً شغف الكاتب اللامحدود في حب بطله الروائي، وهو شغف يلحظه القارئ من خلال جهده في استثناء رسم ملامح ياسين واستقصاء وعيه، متكئاً خلال ذلك كله، على وعي حقيقة أساسية هي خلق المعادل الفني الصحيح الذي يمكن أن يحقق التوازن بين بنائية شخصية ياسين الإيجابية ونسخته السلبية أيضاً من جهة، وصورة الواقع بما فيها من تناقضات حادة.
تجربة خيري الذهبي الروائية، هي بمعنى ما، حرث في فنيات الرواية السورية، فهذا الكاتب المسكون بالهم الاجتماعي – السياسي يتقدم إلى فضائه الروائي بطموح تحقيق إنجاز فني جميل.. إنجاز لا يرغب الكاتب أن تكون مضامينه الفكرية بطاقة دخوله إلى وعي القارئ، لأنه يؤمن أن الرواية هي قبل كل شيء آخر، معمار فني، يتوجب أن يقوم على الجمال.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سيعود ليكتب جداريةً أُخرى فله أسبقيات في الموت

13-آب-2008

قصائد لن تكتمل

21-تموز-2008

"نسيان" لفراس سليمان قصائد الاغتراب الأمريكي

09-حزيران-2008

تجربة خيري الذهبي الروائية...المعمار الفني أولاًَ

23-شباط-2008

بلاد الموت

05-حزيران-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow