Alef Logo
ضفـاف
              

رحلتي من الشك إلى الشك / رواية1

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2013-01-26

الإهداء
إلى أبي العلاء المعرّي الذي قال ذات مرة:
(أما اليقينُ فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظنَ وأحدُسا)
هي محاولة لتدوين ما مرّ بي في تلك الأيام التي عشتها بأملها وألمها متنقلاً بين اليأس والرجاء ومتسربلاً بحلوها ومرها في بقاع ثلاث هي العراق وايران وسوريا, في رحلة العمر الذي قضيت معظمه في دمشق الشام متنقلاً مرتحلاً بالروح و بالجسد, بأرجوحة الأيام بين مدّ وجزر في بحر الحياة المتلاطم. وهي بالتالي ما يشبه رحلة أو سيرة ذاتية أو مذكرات أخرج عن سياقها في حالات معينة لتسجيل رأي تبنيته أو فكرة تخليت عنها لغيرها, أو أبيات قليلة صاحبت بها شيطان الشعر لحظات جليلة, فوضعتها بين أٌقواس ليسهل فصلها عن السياق الأصلي أو ليدرك القارئ إنها تهويمات في فضاء الحياة ومداراتها التي ليس لها نهاية




.
ـ 1 ـ
لحظةٌ وجوديةٌ ساعد على تصاعد النشوة فيها قنينة تلو الأخرى من البيرة وشرفة زجاجية في مطعم يطل على ساحة وسط دمشق وتساقط المطر الربيعي الذي غسل الشوارع. لقد امتدت هذه السعادة التي غمرت القلب كرياح من بساتين بعيدة للنخيل وهي تغتسل بالمطر ويتموج على سعفاتها قوس قزح كلما تمايلت السعفات مع الرياح, هناك حيث عشت طفولتي ومراهقتي قبل أن أغادرها في رحلة أذابت الأيام والسنوات ولازالت تدور كما تدور الكواكب في رحلتها الأبدية. في حيّنا الغافي عند مصبّ نهر ديالى بنهر دجلة كانت البداية.
ما أطيبها من رائحة, إنها لأريج زهر البرتقال المتفتحة براعمه أوائل الربيع. تلك الرائحة التي أصبحت تشكل عندي مزيجاً من الذكرى الحميمة لمراهقة تملؤها الأحلام, وللإثارة الجنسية التي تفتحت أوراقها مع تفتح براعم شجر البرتقال. لكن الصيف الكافر بحرارته, كان دائماً بالمرصاد لأحلامي يتربص بأيام الربيع المعدودة, ليحوّل أحلامي إلى كوابيس مزروعة بالخوف والإحساس بالتيه والضياع وينمّي بداخلي رغبة شديدة بالموت ويريني صوراً متعددة للنهاية الحتمية التي تنتظر أحلامي.
في بيت كبير ممتلئ بالكائنات البشرية وأطياف الأجداد وحكاياتهم في الليالي الشتائية عن الغول والبطولات الفردية التي لابد أن يكون قد خاضها أحدهم, كنت أعيش أنا وأبي وأمي وزوجة أبي وإخوتي من أشقاء وغير أشقاء مع عمي وعائلته الأقل عدداً, وجدتي القابلة غير المأذونة "جمرة" ذات اللسان السليط والخبرة الكبيرة في توليد النساء وشتمهن بلا مبرر سوى إنهن لا يزلن قادرات على الحمل والإنجاب, وحثّ الجميع على الاستيقاظ المبكر حتى في أيام الجمع والعطل, لأسباب مجهولة لدى الجميع وكأنها تخشى الموت القادم إليها وحيدة والآخرون نيام.
*****

((كنت أتسلى في ساعات الضجر الطويلة- باعتباري ملول من الدرجة الممتازة- بتزجية الوقت عبر الكتابة بالمقلوب. أعني الكتابة التي تتشابه مع ما نراه في الأختام أو أعيد كتابة المقطع الأثير لشكسبير على لسان مكبث الذي يقول فيه:
وغداً وغداً وغداً وكل غد يزحف بهذه الخطى الحقيرة
يوما أثر يوم حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب
نرى أماسينا وقد أنارت الطريق للحمقى والمساكين
طريق الموت والتراب
ألا انطفئي يا شمعة وجيزة ما الحياة إلا ظل يمشي
ممثل مسكين يستشيط ساعته ويتبختر على المسرح
ثم لا يسمعه أحد
إنها حكاية يرويها معتوه ملؤها الصحب والعنف
وفي النهاية لا تعني أي شيء .....
وما أن أنتهي من كتابة هذا المقطع حتى أطير بأفكاري إلى البحر إلى العالم الأرفع والمدى الأوسع مسافر بمركب شراعه الخمرة ورياحه المؤاتية كؤوس تتلوها أخرى حتى تشدني رائحة زهر البرتقال من بعيد)).
من زمن بعيد كذكرى عالقة في تلافيف الدماغ. تلك هي رائحة زهر البرتقال الفواحة أول الربيع على مشارف حينا القديم. في هذه الزاوية من العالم, كانت هناك سواقي وفراشات وزهور بيضاء صغيرة وحشرات تتقافز وسحالي تنسحب ذات اليمين وذات الشمال, وهياكل عظمية لأحصنة نافقة وظلال أشجار يختبأ فيها التلاميذ للمطالعة أيام الامتحانات المدرسية. ثمة أصوات بعيدة من أعراس وحفلات يلفّها غبار الدبكات وصوت الطبول والشجارات العشائرية سريعة التلاشي. ثمة أصوات لمغنين يعاندون حرف الجر ويرفعون المنصوب عالياً في ثورة غير معلنة على النحو وأزلامه, وساحات كرة قدم ترابية يحولها الشتاء إلى مستنقعات محجوزة بالكامل للضفادع الربيعية, وفرق رياضية تتوزع على مقاهي البلدة تتنوع أسماؤها بين الأمل والعروبة ومشتقات النفط... تلك المقاهي التي اختفت عن الوجود ما أن اشتعلت نار الحرب بين العراق وإيران قبل أن يغيّب الموت روادها واختفى معها شخصيات نمطية كانت تعرف بها كما اختفت الكراسي المصنوعة من القصب أو السعف، كما أخذت معها بائعي المثلجات على العربات. وسُحب من التداول المطربين الشعبين الذين يحيون الأعراس في ليلة الحنّة مجاناً. بعد أن ساطتهم الحرب بسياط الموت أو الأسر أو الإعاقة الدائمة وحولت ما تبقى إلى شيوخ مسنّين قبل أوانهم. في هذه الزاوية أيضاً ثمة بائعات هوى من أقذر طراز، متسخات قلباً وقالباً, كان هناك أيضاً كلاب وقطط سائبة شجّعت السلطة القضاء عليها وكانت تدفع مبلغاً يتراوح بين نصف دينار ودينار واحد بالتمام والكمال لمن يقتل قطة أو كلباً, وانتشرت في وقتها أهزوجة شعبية تتناولها ألسنة الناس تقول (يالمفلس كظلك بزّونة). (اكتشفنا بعد فوات الآوان إن العملية مدروسة، كان الهدف منها تهيئة النفوس لقبول عمليات القتل المجاني للناس القادم على أيدي السلطة). كانت هناك أيضاً براءة على وجوه شبان تحوّلت مع الأيام إلى قسوة لا بفعل الزمن بل بقدرة من أسس كلية الأمن القومي. روى لي حينها أحد الذين تمّ قبولهم للدراسة في هذه الكلية المغلقة على نفسها, كيف يطلب من التلاميذ كتابة تقرير عن مجموعة أفلام تعرض الجنس والقتل بأبشع صورة, يفرض عليهم مشاهدتها لساعات طويلة بعد أن يتم إيقاظهم في وقت متأخر من الليل, طبعاً بعد التدريب المضني طوال النهار. لم تفقد وجوه التلاميذ براءتها فحسب، بل قطعت صلتها بماضيها كاملاً وأصبحت كوجوه الضباع الجاهزة تماماً للانقضاض على فرائسها الآدمية.
******
كان هناك بساتين للنخيل ومشفى للسل على ضفة النهر, ومكتبة لا يرتادها في الصيف سواي, ودراجات هوائية بالأجرة، وبائعي لبن في ظهيرة بغداد الحارقة، تراهم وهم يكشون الذباب عن دلاء اللبن في السوق الذي يتقاسم الأرباح مع الذباب. في أيام الصيف الطويلة اللاهبة كنت أقضي الساعات الطويلة في مكتبة الغزالي العامة أقرأ الأدب والشعر على وجه الخصوص. وكان لصاحب قصيدة الطلاسم، أي الشاعر اللبناني المهجري إيليا أبو ماضي الوقت الطويل من هذه القراءة. ومن وصفه للخمرة صرت أتشوق لشربها لا بتحريض من أصدقاء السوء. بالمناسبة لازلت أتذكر إلى اليوم الرقم الرمزي للكتاب في المكتبة وهو 55810 ولا أدري لماذا لم يطوهِ النسيان أم إن (لستُ أدري) هذه التي كان أبو ماضي يختم بها رباعيات قصيدته كانت هي السبب. أخذتني قصائده إلى الخمر فجربتها وحدي, تحملت طعم البيرة في المرة الأولى كمن يتجرع الحنظل، وحاولت أن أكمل القنينة فلم أستطع فرميت بها في نهر دجلة، كان عمري في السادسة عشرة ولم يوافق صاحب مطعم الشاورما أو (الكَص) قرب سينما سميراميس في شارع السعدون أن يقدم لي البيرة مع السندويشة، داخل المطعم، لأني تحت السن القانوي، ولكنه وافق أن يبيعني القنينة خارج المطعم. في المرة الثانية ذهبت إلى حديقة الزوراء وطلبت من نادل أحد المطاعم قنينة بيرة فجاء بها مع صحن من الليمون فاكتشفت سر المزة مع المشروب وطلبت لأول مرة منه سيجارة فدخنتها مع البيرة وبدأت علاقتي بالاثنين تتطور يوما بعد يوم حتى أصبحنا أصدقاء ثم تكاثر من حولنا الضيوف من مشروبات وسكارى وأمزجة وخبرات في طرق الشراب وأصولها وما يجوز فيها وما لا يجوز، حتى أصبح طعم الحنظل السابق أحلى من الشهد, وكان للندماء منزلة لا ينازعهم عليها أحد من الأهل أو الأقارب أو زملاء الدراسة. أخذتني إلى عالم من الأحلام والأماني في دائرة كان الحب يشغل محيطها ومركزها. من ينسى عذوبة الكأس وفد اشتعلت بالرأس وقد طارت به إلى وجه الحبيب, وذكريات اللقاء وأغاني الغرام وقصائد الهيام وكلمات العشاق.
******
كانت ثمة عشائر تتقاسم البلدة في اتجاهات معروفة للجميع ومدارس تحتضن أولاد الجميع من أرومات مختلفة، من الجنوب والشمال، عرب وأكراد وتركمان مسلمون وصابئة, ثمّ تلاحقت موجات من المهجّرين من مناطق عديدة لفظتها دورة الحياة من المركز إلى الأطراف لينفرد من رضي الله عنهم والسلطان بالمركز، وتتوحد نايات الفقراء بالنشيج. وتختفي للأبد تلك السنابل التي كانت تغطيني وأنا طفل في الخامسة من عمري أو نحو ذلك, بعد أن زحفت عليها بيوت البلوك والإسمنت المسلّح والأغراب, كما تختفي السواقي الصغيرة التي لم أكن أجيد السباحة فيها أبداً... ويتشارك الفقراء لقمة البؤس والغبار وتفاصيل الفضائح الصغيرة والألقاب والنكات الفاضحة اللاذعة في تبادل ومقايضة, قد تكون بطيئة عند الوهلة الأولى ثم تتسارع الوتيرة بتسارع مدّ حبال التعارف والمصاهرة والمعارك الجانبية. وبفعل الإزاحة المبنية على عقيدة البقاء للأوقح في مجتمع لا يرضى سمة الهدوء والسكينة طابعاً, ويشعر بالعار إذا ما تناسى ثاراته الصغيرة ومعاركه التافهة من أجل الحصول على كمية من الثلج لا تتجاوز الشبر طولاً وعرضاً. أو بسبب خلاف على بطل الشاشة أيام الأبيض والأسود, أو خسارة أحدهم بلعبة الدومينو, عدد من كاسات الشاي المخمّر على الفحم أو على المدافئ النفطية من ماركة "علاء الدين"" الشهيرة حينها بالفتيلة ذات اللهب الأزرق التي يفاخر بها المصنّع والمقتني على حد سواء, أو الخلاف على دفع ثمن قناني الحليب بالموز من الحجم الصغير الذي لا يوجد غيره والتي لا يتجاوز سعرها 25 فلساً. كان على المتفرجين على لعبة الدموينو أن يشربوا كاسات شاي الخاسر مجبرين. لأنه وغريمه أفنوا الساعات الطويلة وهم بلا أكل ولا شرب سوى الشاي حتى صارت عدد كاسات الشاي هي التي تحدد من الرابح ومن الخاسر في لعبة القمار البائسة هذه. ولكن للحقيقة أقول إن للدومينو أبطالها أيضاً.
******
(( يقال إن لكل من اسمه نصيب، أما أنا فكان لاسمي قصة مختلفة لست طرفاً فيها, فقد كان أبي "رحمه الله" متزوج من امرأة أنجبت له خمسة بنات ولأنه من بيئة فلاحية عشائرية تنحدر من قرى محافظة واسط, هاجرت إلى بغداد في الخمسينات, أبان هجرة الفلاحين إلى المدن, فإنجاب الصبيان كما هو العرف واجب عشائري ومطلب لمجتمع رجولي بالأساس, فتزوج من أمي أملاً بتحقيق هذا الحلم فجئت إلى الدنيا والحرب دائرة بين زوجة أبي وأمي فأخذت من تلك الحرب اسمي الذي لم أحبهُ يوماً، ولم يجلب لي شيئاً غير الأسئلة المتكررة من الآخرين" لماذا سمّوك حربي؟ وهل هو اسم أم لقب؟ إلى آخر الأسئلة المزعجة التي تفتح مواضيع جانبية لا قيمة لها سوى ملء الفراغ بالثرثرة)).
ـ 2ـ
هل تجتمع أكثر من حياة في رحلة عمر واحدة؟ أم هو السفر على أجنحة الخيال والأحلام والأمنيات؟ مرّة تعود بي روحي إلى حقب سحيقة في الماضي حتى لأعجب كيف يرسم الذهن هذه الصور العجيبة لعوالم غامضة ولمخلوقات غاية في الصغر تنظر إلى أطوار من الحياة في تنوعها بذهول واندهاش .. أو تحلّق بي وكأني روح متحررة تطير بسرعة مذهلة عبر النجوم ثم تتوقف لتعود بنفس السرعة لتتوقف محدقة تنظر إلى جسدي وتحل فيه لتوقظه من نوم كاد أن يكون أبدياً. وتثبّت وللأبد هذه الذكرى الفريدة, وهذا التحليق الحر الذي يطوي المسافات ويزرع في الروح أملاً مؤكد التحقيق بالخلود أو مصداقاً لآية ( وكلٌ في فلك يسبحون). هذه الرحلة التي يحيط بها الألم والحسرات الصغيرة, الغم والفرح الوجودي لأسباب يلفها الغموض والأسرار. من أين أبدأ ؟ أم تراني بدأت فعلاً أصف بالكلمات وأشرح بهذه السطور تجربة صغيرة امتدت تحولاتها لأيام وليالي وجرّت معها سنوات تليها أخرى في محاولة لتحليق افتراضي يهدف إلى رؤية الأمور مجراها ومرساها, في تقلباتها وصورها وحالاتها المتغيرة دوماً والمتناقضة أحياناً كثيرة .. مسيرة أرضية تحاول اللحاق بأسراب الطيور والأرواح التي سلكت درب السماء بحرّية مطلقة.... في البداية الأولى كانت الثنائية, فتحت عيني على ما في عيون من حولي فوجدت فيها لونين وطريقين واتجاهين فلا ثالث إلا الشيطان الذي يرجعني دائماً للاختيار والاصطفاف والتمحور حول أحد القطبين والنوم في كنف إحدى الجبهتين، والصحو على عمل في واحد من الطريقين لتصبح الحياة دائرة مغلقة من الثنائيات, أما أن يقف المرء ليتساءل لمجرد السؤال عن الطريق الثالث أو الرأي الآخر, وهل ثمة فرصة لأن تكون الأشياء أكثر اتساعاً ورحابة وحرية, فذلك ما لا تسمح به لا الظروف ولا المحيط الاجتماعي ولا ما اعتادت عليه الخلائق, مع أو ضد بكل شيء، ولابد من صبغة بأحد اللونين الخالدين الأبيض والأسود اللذين يحولان الحياة إلى بركة آسنة راكدة لا يسمع فيها غير نقيق الضفادع ولا يرى فيها وعليها غير البعوض والحشرات اللاسعة وبقايا الزواحف التي تتشمس على ضفافها. ثم القناعة والجمود والرضا بالروائح البغيضة التي اعتادتها الأنوف. من هذه البركة الآسنة سارت بي قدمي بعيداً إلى حيث التجربة فدخلتها بلا خوف بل كان مبعث الخوف لدي أن تنغلق الأبواب بوجهي ولا تأذن لي الأقدار بهذه الرحلة الطويلة في عالم الغربة والاغتراب, ولكنها شاءت بعد إصرار على المضي إلى المجهول تاركاً القياد إلى حيث يحطني الطائر ويقودني المصير. يحدوني الأمل أن تكون الحياة جديرة بأن تعاش وليست سراً خفياً...
( إن يكن سراً فسائل عنه أزهار الخميلة عمرها يوماً وتحيا اليوم حتى منتهاه). نعم أردت أن أعيش اليوم حتى منتهاه، وأن أبحر بعيداً في هذا الخيار وهذه الهبة الربانية حتى آخرها..
ابتدأت الرحلة الحقيقية عند سفح إحدى الجبال في منطقة رانية في كردستان العراق، بعد أن غادرنا بغداد إلى الموصل فزاخو والعمادية وقراها النائية, التقينا وصديقي مع صالح اليزيدي وهو الدليل الذي قاد الرحلة وشاب كردي من أربيل كان يود أن يصل إلى إيران ومنها إلى السويد وهما منْ كانا بمثابة مترجمين لنا, في رحلة إلى إيران دامت أسبوعين أو يزيد عليها قليلاً سيراً على الأقدام عبر وديان وجبال وقرى بعيدة ومقرات للأحزاب الكردية في المغاور والقمم التي تعانق السحاب, ممرات يلفها الخوف والحرب والدماء والأساطير تنام على أكتاف الجبال مفتوحة العينين تخشى الصباح وتأنس بالليل وتحتمي من نيران القصف وتسلل الأعداء المرعبين المرعوبين في المغاور والكهوف والظلمة الحالكة, عندما يرتاح القمر من مشاهد العبث بمصائر الناس وترويع الآمنين من أجل بسط السيادة وفرض السلطة بالبطش والتنكيل والسحق الذي لا يعرف الرحمة ولا يقيم وزناً لحسابات المباح والممنوع فأصل الأشياء عند السلطة الإباحة بالمطلق, لمن وضعت الصدف أو الحتميات التاريخية – إذا شئت- مفاتيح الأمور ومغاليقها بيديه فهو الأول والآخر الآمر الناهي بيده المصائر وإليه ترجع أمور البلاد والعباد. قضينا ليالينا بين القرويين الأكراد أما نهاراتنا فكانت للسير بلا بكلل ومنذ الفجر الكاذب, يدفعنا الخوف من المجهول المتربص بنا عند كل استراحة, والأمل بالوصول إلى أقرب قرية قبل مغيب الشمس لنقضي ليالينا بين أناس فرضت عليهم الأقدار ضيافتنا وحمايتنا بنمط من الإيثار والتضحية قلّ نظيره. في أحدى الليالي ضيفتنا فيه سيدة كردية لديها ولدان, ذهب صاحبي مع الشاب الكردي إلى بيت آخر. وكان نصيبي في بيت تلك السيدة التي قدمت لنا الأكل, همس لي صالح "كل لقمتين وقل الحمد لله" ومن بعدها سنشرب الشاي ونتحول إلى بيت مختار القرية. لم أفهم في بادئ الأمر هذا التصرف حتى أطلعني عليه صالح بعد أن خرجنا من بيت تلك السيدة. قال صالح لقد طلبت منك ذلك لأني رأيت بعيون الأطفال الجوع وخمنت إن تلك السيدة لا تملك غير ما قدمته لنا من طعام. شعرت بالخجل الشديد من الموقف, كنت لا أعرف كيف أداري مشاعري أمام منْ يقدمني على نفسه لأقاسمه لقمته المغمّسة بالدم والحصار، بل أحمّلهم مسؤولية إيواء هارب من نظام دموي, لا تربطهم به رابطة قربى ولا معرفة سابقة ولا يجمعهم به سوى وحدة المعاناة والضيم, فكلانا ضحية لذات الجلاد الذي جعل نصب عينيه افتراس أجمل وأنبل ما لدى الإنسان العراقي وتحويله إلى وعاء خاوٍ وكيان فارغ من قيم الحب والخير والجمال، إي إفراغه من كل مضمون إنساني وتحويله إلى عبد صاغر مطيع متشبث بحياة كسقط المتاع وتحويله إلى مجرد رقم قابل للضرب والقسمة ومن السهل طرحه من المعادلة بلا تعويض أو زيادة.... كان الجلاد يستهدف هدم أنساق من العلاقات الاجتماعية وتدمير تكوينات أساسية كانت زاخرة بتراكم قيم إنسانية وحضارية شملت مختلف الجوانب من النسيج المتماسك للعائلة العراقية, إلى ما تحمله حواضن الفنون والآداب، إلى الحراك السياسي والثقافي، إلى التعايش السلمي بين مختلف الفئات والطوائف والإثنيات...
لن أنسى ما حيّيت تلك الأيام والليالي التي اجتزنا بها تلك الجبال والوديان والقرى البعيدة والمسيرة الشاقة والوجوه التي عصرها الخوف والحصار والحرب التي لا تنتهي, ولن يغادر ذهني اليوم الذي أفقنا فيه على منظر الثلج الكثيف الذي يغطي الأرض والسماء. في ذلك اليوم شعرت وكأني أسير في حلم ناصع البياض. كل ما حولنا أبيض. لأول مرة في حياتي ينتابني الخوف من الأبيض ولأول مرة يرجف قلبي بهلع من هذه المتاهة البيضاء. لا أعرف كيف يستدل قائدنا صالح معالم الطريق ويعرف بأي جهة يسير. لقد سلمناه قيادنا بالكامل حتى لو أخذنا إلى وجر ذئاب أو الموت المحقق.
******
الصدمة... أعني صدمة الموت والتي فُرض على الإنسان العراقي أن يواجهها وهو في زهرة العمر وعند أول إحساس له بتفتح أوراقها وأريج عبقها وشذاها جعلت منه كائناً أول ما يواجه في مسيرته وقبل متطلبات الحياة العادية لإنسان في وضع طبيعي, أسئلة كبرى, تلك الأسئلة التي حيّرت جلجامش عن الموت والخلود وجدوى الحياة. فكان للدين في زمن الحروب العراقية التي لا تنتهي ولم تنتهِ حتى يومنا هذا, دوراً كبيراً في التأثير على نمط حياة العراقيين الذي يختزنون في وعيهم الجمعي سلوك الأجداد الذين كانوا حسييّن وطلاب متعة إلى أبعد الحدود, يفضلون المتعة البسيطة الحاضرة على جنان الخلد في الدار الآخرة, وخير دليل على هذه الروح ما كنا نسمعه في الأمثال الشعبية المتوارثة, (عيّشني اليوم وموّتني باجر) أو رفض الايمان بحياة ما بعد الموت والحساب والعقاب على طريقة (منو طلع من قبره مفشخ). هذه النمط من السلوك قلبته قسوة الحروب وجراح ضحاياها, فتحول إلى معاشرة طويلة مع الموت وأحزان الفقدان. حتى لفد دبّ العبث في قلوب الكثيرين واليأس إلى عقول آخرين وبدأ الجنون يضرب ذات اليمين وذات الشمال في معركة خرج الناس منها وهم سكارى وماهم بسكارى. يتجرعون ألوان من العذاب غير قابلة للوصف بالكلمات، لا يدرك قسوتها إلا من ضُرب بسياطها, ولا مرارتها إلا من تجرّعها جرعة بعد جرعة وغصة فوق أخرى. ثّم توالت الأحداث واتصلت سلسلة العذاب المستعر حتى أصبح الموت والموت فقط هو ما يلفّ سماء العراق وأرضه. يدخل من أبواب المدن تحمله الريح إلى الزوايا الأربع في هذه البقعة المشؤومة التي أحاطت بها لعنات الحروب من كل جانب حتى آمن الجميع بأنها لعنتهم الأبدية التي صبّتها عليهم آلهة العالم السفلي. حروب بلا نهايات وحياة هي عبارة عن (عيشٌ أشقّ من المنيّة). بعبارة أخرى تحولت الحياة ذاتها إلى عبء ثقيل مفروض وحصار من كل جانب.
فلم أجد مهرباً إلا الهرب والمضي في رحلة خارج هذه البقعة, هذا الكابوس الذي ظلّ يلاحقني أبداً.

نهاية الجزء الأول
إعداد : ألف
يتبع ...




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow