Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

حلم الجزيرة 1899 هرمان هيسه ترجمة:

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2013-02-18

1
أطاحت موجة عالية بالقنطرة المقوسة التي تعلو قاربي ورمت بها على الحصى تاركة مقعد تجذيف المركب الغارق لصاحب الأحلام يمدّ ذراعيه نحو الأرض الساكنة. العباءة الأرجوانية المهترئة تسقط بهدوء عن وركيّ. متكومة بطياتها ذليلة عند قدميّ. كانت ذراعاي ورقبتي قد أصبحتا نحيلتين من طول التجذيف والحرمان من الطعام. أما شعري فقد طال حتى التفّ متجعدا وراء رقبتي. انعكاس ظلي أجده أمامي على الأخضر الداكن لمياه الخليج الساكنة, ورأيت كل شيء من حولي قد تغيّر خلال رحلتي الطويلة؛ فقد أصبحت اشد سمرة وأكثر نحافة ومطاوعة. الساعات القاسية كانت قد حفرت اخطارها وهزائمها وتحدياتها على وجنتيّ وعنقي بخطوط اخاديدها وبروز العظام. لكن عيناي أشرقت صافية يقظة بريئة في محجريهما الواسعين.كانتا تتابعان النجوم ليالي تليها اخرى وتبحثان عن الأزلية منها وتختلسان النظر من خلال عتمة المحيط المتلألأة باحثة عن أي اشرعة مرفوعة,أو يابسة.ولأيام وأيام لم تبصرا أي ذرة تراب.ونادرا ما كانتا تبتسمان ويلفها الحنين الى الوطن عندما تلمحان اللون الأخضر للغابات العابرة ودخان المدن البعيدة المختفية.والأن ومن خلال المرآة الملساء تشع عيناي على اتساعهما وتبتسمان لي.
لقد شربت عيوني من المنظر الذي حُرمت منه طويلا, من الصخور البيضاء والأرض البنّية وأجمة شجيرات العليق.الهواء الذي يحيط بالشجيرات يبدو لي كحافة رائعة تميل الى البياض لأني فقدت ولفترة طويلة رؤية رداء الهواء الذي يتمدّد فوق الأرض الخضراء.بسعادة خجولة تنفست الأريج العذب للمرج وللأرض العارية وفي الحال وضعت قدمي بثبات على عالم الثراء,عالم اليابسة. جلب لي عبق الأرض رائحة اشجار الغابة وعطرا خفيفا من الحدائق البعيدة.وبسرور بالغ مددت كلتا يدي له وبغبطة شعرت بانفاسه الناعمة تدّب على يدي واصابعي وتمس بخفة صدغيّ الذين اعتادا على لذعات رياح البحر.
سحبت قاربي الرمادي على الرمال ومررّت يدي اليمنى فوق قنطرة الحافة العليا الصلبة للقارب والتي كانت قد اصبحت ملساء ومهترئة من تكرار مرور يدي عليها. بعد ذلك سلكت طريقي الى داخل البلاد,حتى اتيت الى أجمة كثيفة ظهرت امامي مثل جدار دائري وهي تمتد بعيدا, أبعد من مجال رؤيتي.طوقني السياج الأخضر,مسرورا بضلاله الضاربة الى الزرقة والمتضادة مع الأضواء الخضراء اللامعة,عبرت مرج العشب الندي والذي كان قد نما متدرجا وبدأ يصبح اكثر ارتفاعا شيئا فشيئا, وهو الذي سبب لي خدوشا في ركبتيّ بازهاره الحريرية.
يمتد المرج تحت ضوء الشمس بشكل كامل ولكن عند الحافة حيث كنت اتمشى فإن شجيرات العليق المرتفعة صنعت رزمة من ظلال. الأرهاق الرقيق بدأ يدبّ الى ساقيّ. وعندما ذهبت بعيدا بعض الشيء. اكتشفت على جهة اليسار فتحة ضيقة, كانت بمثابة ممر وسط الأجمة, وفي العتمة الخضراء رأيت طريقا من القواقع وفي الخلفية كانت قمم لأشجار هائلة الضخامة.لكن الممر كان مغلقا باكاليل من الزهور المتشابكة.وقفت هناك اغتسلت عينيّ بالشفق الحاني وكنت سعيدا باللون الناعم المتدرج. من السياج الأخضر اللامع حتى الأسرار نصف الواضحة لأعماق البستان.تشتت الأخضر الى آلاف الظلال,تتبعتْ عيني بلهف العتمة العميقة للغابة السمراء والتي يتفاوت منها اللون في البعيد ويرجع مع المسرّة المتجددة للضوء المصّفر للمرج المبلّل تحت اشعة الشمس.
بفرح غامر ازلت الأكاليل المتشابكة الملتفة حول الأعمدة فاصبح المدخل مفتوحا وزاوجت بين الأكاليل الحمراء والبيضاء حول عنقي وخصري. كما لو اني تطرزت بأفخر الثياب من أجل مهرجان الصيف. بعدئذ وبخطوة حذرة تابعت طريقي نحوالمنطقة نصف المعتمة. أتيت إلى المنطقة مقطوعة الأشجار وسط الغابة.كانت محاطة بجدار من الشجيرات والعليق.هذه المنطقة والممر الضيق كليهما تم فصلهما عن الغابة عن قصد. البني والأخضر تمّ غربلتهما وتصفيتهما من خلال قمم الأشجار المتدلية. في المنطقة الجرداء كانت الأرض مغطاة بالرمل الأبيض المنثور, وكانت هناك دكتين رخاميتين ضيقتين بشكل شبه دائري وبمواجهة بعضهما.تبعت الممر الذي يقود الى داخل البستان.كان رأسي مثقلا برائحة غريبة وسمعت هدير دمائي السائلة المتسارعة داخلي. وبعد ان سرت لبعض الوقت بدأ التثاقل يدبّ بشكل متزايد في ساقيّ وتقتُ الى مكان استريح فيه.ولكن بعد انحناءة صغيرة في الممر بدأ الطريق يتسع وجدران الغابة في كلا الجانبين أخذت بالتراجع فاتحة مجال الرؤية لفضاء كبير مفتوح وذلك ماكان بمثابة حديقة.
مهما تعددت المسالك, وسواءا كانت واسعة او ضيقة, فان الشجيرات كانت تحدها دائما, متزاوجة مع الأرض المعشوشبة ومساكب الورد, حيث اللون الوردي وأزهار عظيمة بالوان عديدة, مُعتنى بها جيدا ولاتجد حولها اوراق صفراء ميتة. في وسط الحديقة رأيت انواعا من الأشجار الجليلة وورائها في البياض الباهت بناية رخامية هي إما قصر أومعبد. كنت منسحبا الى دكة منخفضة ظللتها شجرة سرو. جلست على العشب الندي وشبكت يديّ خلف رأسي واستلقيت قبالة الدكة الصخرية كما كنت أفعل مرارا قبالة مقعد التجذيف في قاربي في الليالي الوديعة. رأيت من فوقي السماء الزرقاء الواسعة المدهشة, والغيوم الزغبية الساكنة؛ ثم أغمضت عينيّ وسررت بالأحمر المتوقد الذي أراه من خلال جفوني ثم جاء إله النوم وانحنى فوقي وأحاط بأعضائي المنهكة. روحي تنشر اجنحتها في حلم: صور من الأمس واليوم الذي قبله ملأتني بالفزع الشديد والأسى. لطم البحر قاربي بأمواجه والسماء الغاضبة أرسلت عواصفها. والعزلة التي طالما تاقت نفسي اليها نائت عليّ بثقل اكبر مما فعله البحر. وورائها الأرض بضجيج مدنها وكل ماجعلني اهرب بعيدا. الصدى الممل, الرائحة نصف المنسية, أغنية باهتة الذكرى من زمن الطفولة ـ وميض من الجمال والفن المهمل بين القذارة والضجبج.
مرة أخرى وكما في مرات عديدة سابقة, رأيت انعكاسات مؤلمة للحسناء الخائفة يضيء ويرتعش معها ويعاني مثل ماتعاني من خوف. لازلت اوغل في البعد تحت السماء المتألقة العتيقة. ابسط اوقات ربيع طفولتي ملامسا قلبي بعبير حنون. بأجنحة تخفق ببطء طار حلمي عائدا فوق المسالك المتشابكة لحياتي راجعا الى اشراقات الشمس الأولى وحلّق بحزن فوق أول الجبال التي تسلقتها وفوق بيت أبي.
كانت الشمس قد اشرقت فوق حافات جدار السرو وضربت بضوء ساخن عينيّ اللذين يلفهما النعاس فرفعت رأسي ونهضت لرؤية جديدة لسماء عميقة وحدائق خضراء. داعبت اذنيّ اصوات متألقة وكانت اصوات انسانية تصرخ بمتعة غزيرة وفي تلك الأصوات كان هناك صوتا منخفض النغمة صافيا رنانا وعميقا كما البحر,ذلك مالم اسمعه ابدا في الأصوات الأنسانية والذي سيظل منبثقا من الماء الأول الذي لم يُمس من الينبوع العذب الذي لايعرف التلوّث.مشحون ومشغول في الحياة وفي جماله الخاص.لقد حملوا النغمة القوية العذبة لآلامنا التي تعز عن الوصف . نبدو باننا نسمعها كلما حضيت ارواحنا بمناجاة حزينة مع اجيال من عصور الماضي الذهبية.
وبحذر شديد أزحت اوراق الشجر ولمحت مجموعة من الصبايا الرشيقات يلعبن بكرة ذهبية.وقد انقسمن الى معسكرين يتقاتلن بظرافة من أجل الفوز بدمية براقة ضاحكة,ظلت الفتاة الصغيرة تقذفها عاليا في الهواء. كن يرتدين ثيابا فضفاضة ملائمة ومعظمهن كن قد ربطن شعرهن بعقدة بسيطة.رأيت الخطوط الصافية لأعناقهن واكتافهن عندما ينحنين او يتمايلن أو عندما يرجعن رؤوسهن الى الخلف ليتمكن من التقاط الكرة النازلة, رأيت منهن الأعين والكواحل بغمزاتها الشهية عبر الأربطة البيضاء والذهبية للصنادل.رأيت اجسادهن الرشيقة اللدنة تتمايل الى الأمام كلما ركضن وأذرعهن النحيلة الجميلة البضة وهي تظهر من طيات أرديتهن.
فجأة سمعت ارتعاشة في الغصن الذي يعلوني والكرة الذهبية قد سقطت على العشب عند اقدامي التقطتها بقلب تتسارع نبضاته كما لو تفاجأ بحضور غير متوقع لخطر داهم أو متعة عظيمة. اللاعبات كن يركضن قُدما باتجاه مخبأي.لذت بالفرار نحو الأجمة الكثيفة ووقفت كشبح قبالة الحشد المبتهج حاملا الكرة في يدي اليمنى وقذفتها في الهواء. لكنهن تنحّين جانبا وتركنها تسقط بعيدا ووقفن يحدّقن باندهاش على الغريب. وعندما دنوت تفرق الحشد فاتحا ممرا واسعا أمامي. رفعت بصري فرأيت أمراة طويلة تواجهني, وكانت أعظمهن جمالا, ملكة فوق الأخريات. خفضت بصري وانحنيت قليلا. انساب الرداء الأبيض من ركبتيها في طياته الكهنوتية الطويلة. وكان هناك نسيما من الطهر والنبالة يحوم حولها وذلك ماجعلني ـ وعلى حين غرة ـ اشعر بالضعة ويلفني الخجل. كل السبل الخاطئة التي سلكتها وكل المحرمات التي انتهكتها وكل شيء بشع وسقيم في حياتي المتقلبة برزت مؤلمة موجعة لخاطري. وكل التألق والكبرياء يتلاشى بعيدا عني.عندما تحدثت بصوتها الصافي,جثوت على ركبتّي مطأطاً رأسي بخجل وتواضع. وبصوت مكتمل واكثر جمالا من اصوات النساء الأخريات,وكان له نغمة رفيعة ونبيلة وهو ماملأني رهبةً قالت (ماالذي أتى بك الى هنا,ياصديقي وكيف وجدت السبيل للوصول الينا؟) رفعت بصري فوجدت عيونا كبيرة رزينة تنظر باستخفاف نحوي.قلت (كنت قد وجدت سبيلي اليكم عبر مئة يوم وليلة وحيدا بمواجهة بحر يزمجر بعدائية ,وعبر مئات من ليالي المراقبة المرعبة الرهيبة ذراعاي المكتملين اصبحتا نحيفتين من عناء رحلتي ويديّ قد غطتهما الخدوش والعباءة الأرجوانية التي ارتديها هي من بلدكم وكنت انت منْ وضعها على سريري. لكن يدي ملطخة وعيني امتلأت بالقرف. أنا تعب ولا استحق ان ارتدي الأرجوانية بعد الان انها تعني الكثير للأيدي السعيدة والأعين المبتهجة,اتيت من أجل أن أعيدها).
((هل العباءة الملكية لاتعني لك الكثير؟)) سألت الملكة وهي لاتزال واقفة ساكنة تنظر اليّ برزانتها. ((انا اعرفك جيدا, وأعرف روحك المرهقة, كنت قد حلّقت فوق حياتك. أخبرت طفولتك أشواق الجبال الزرقاء وصباك تقوى الآلهة, مرة بعد أخرى حاولت ان أريك صورا وأمثلة عن الجمال. ألم تكن أنت من دمّر المعبد حيث كنت اعلمك الصلاة, ودنّست حدائق الحب الذي اطلعتك عليه؟ ألست أنت من زاوج بين الأغاني التي علمتك اياها لتغنى من خلال أغاني الشارع. وعندما حملت كؤوس المسرّة اليك أسأت استعمالها وحولتها الى كؤوس للسكر؟)).
(كنت انا, لقد ظللت عندما كنت بعيدة عني. ولطالما مددت اليك ذراعيّ بشوق وصرخت لك وناشدت كل ماكان نبيلا في صباي. لكنك لم تسمعيني والحياة التي كانت تدحرجني بعيدا كانت ميتة. بعد ذلك اختفى قلبي ولعن آلهته. وسقط من جميع عليائهم. والآن أنا تعب من السقوط والنهوض مرة تلو الأخرى. استرجعي هديتك وضعيها على أكتاف أقوى ودعيني أصبح كالأخرين). اشاحت الملكة بنظرها فغامرت بنظرة خاطفة الى وجهها والذي بدا مألوفا بعمق بالنسبة لي ورأيت ظلال ابتسامة قالت((انا مندهشة كيف ان هذا القلب الخائر القوى توجب عليه ان يجد الطريق الى جزيرتنا,انها لرحلة شاقة)). (يامليكتي ليس القلب الخائر القوى هو من قادني الى هنا من حياة كانت مقرفة بدخان مدنها وضجيج احتفالات معابدها بل شوقي لمشهد منك كان ينمو ويكبر كل يوم يمر في رحلتي اليك. التعب والمخاطر وضعاني على الصليب والعزلة أزاحت من عيوني غشاوة الحياة التي خلفتها ورائي. عندما رأيت التلال الرقيقة لبلدك تبرز شيئا فشيئا من زرقة البحر. كان قلبي قد اصبح شابا من جديد وتعلّم مفخرة ممتعة جديدة. عندما وضعت قدميّ على أرضك, رفعت ذراعيّ بصلاة لروائعها. سرت مجتازا غابتك كرجل وُلد من جديد, صدقيني لقد سحبت عباءتي الأرجوانية حول كتفيّ ومشيتي لم تكن مشية تائب. تمددت على العشب خلف أجمة الشجيرات. أستمع الى العاب نساؤك وضرب قلبي بقوة. وعينيّ لم تستطع مقاومة رؤياك؛ في الحضور الذي يفرضه صفاؤك. كنت ذا قوة مفرطة بواسطة كل ماكان سقيما وبلا قيمة). قالت ((إنهض)) بنغمة لطيفة عميقة ((ولا تجبر نفسك على الإجابة.كن ضيفي وحاول مرة اخرى ان تحيا حسب قواعدي)). نهضت انظر من حولي بلا تركيز. لكن من كانت أعظمهن جمالا أخذت بيدي اليسرى وسحبتني الى النساء اللواتي كن ينتظرن ((هيا رحّب بصديقاتي, وانظر اذا ماكنت تعرف واحدة او اكثر من بينهن)). بعد ذلك وكما دخلت وسط النساء الجميلات حييتهن بدون ارتباك,ثم حدث شيء غريب.فمن كل الجوانب كانت هناك عيون مألوفة تنظر الي؛واجهت حركات ونظرات كنت اعرفها في أيام اخرى ايضا ولدهشتي كنت لااتمكن من مناداتهن باسمائهن وشيئا فشيئا تعرّفت على بعض منهن. وقريبا سيصبح من الواضح لي إن كل النساء الجميلات اللواتي كنت اعرفهن وأعجب بهن كّن هناك سوية.وكل واحدة كان يمكن التعرف عليها فقط بميزات خاصة اعطتها ـ ذات مرة ـ سحرها الخاص في عيني تمييزا لها عن جميع الأخريات وتجعلها اكثر جمالا . كل تلك اللحظات من حياتي التي ادين بها لتقواهن و بركة مشهد جمال امراة عاشت هنا على الدوام في منتهى صور الكمال والفخامة. ليس هناك بين اولئك النسوة من تستطيع ان تكون في منزلة اعلى او ادنى من الباقيات؛فقط الملكة هي من مزجت باعجاز كل ميزات الجمال بكمال وجهها وشكلها الذين يشملان الجلال والفتنة إنها تبدو لي فوق كل الصور وفوق التمجيد وعندما التقت عينيها بعيني بود هاديء. ايقظني في ربيع شباب حبي الأول مع كل نشوة ارتجافة ومع الدموع التي سكبتها عندما فقدته.سحب الليل دائرته السوداء قرب الحدائق؛جاء مسرعا ومتغطرسا كما يفعل في الجنوب, بالتتابع السريع اختفت التلال والأشجار والخمائل, ثم احاطت بنا فجأة وفي الحال, الشجيرات حاجبة نفسها في الصمت وتلاشت في مملكة الغموض. جلست عند قدمي الملكة في شبه الدائرة الفسيحة للرواق المفتوح.العمود الثقيل يقف بصفاء وجلال كحارس بمواجهة الضوء المحجوب للسماء البعيدة . توهجت ناران حمراوان في إنائين حجريين في المدخل؛ من فوقنا كان هناك قنديلا بشعلات أربع, هواء الليل الثقيل يهب من جانب الأشجار, يحمل بعيدا رائحة عطر الزيت بموجات بطيئة.
2
البحر الذي لانستطيع سماعه في القصر أو في الحدائق في النهار غنى بسمو ايقاعات مكتومة ـ النساء بالكاد توقفن عن الغناء. وكان هناك صدى باهتا للحن بهيج في الهواء. جلبن لي العود ذي الخمسة أوتار وتعلقت عيونهن بشفتيّ بترقب. أغمضت عيني واُُمتُصصتُ في شذى الليلة وشعرت بأنفاس رقيقة على شعري. كان قلبي مليئا بسعادة حزينة وارتعش صوتي عندما بدأت بالغناء. لامست أصابعي الأوتار الجميلة ـ لم أغني منذ فترة طويلة, والإيقاع ونغمة الكلمات إرتفعت شهية وفاتنة الى عقلي .غنيت (صيف في صباي) وعندها وللمرة الأولى سكنت عينيّ على قوام ومشية المرأة الشابة. غنيت عن الليالي عندما يتسلق عبير شجرة الزيزفون. وكيف كنت أجذف بوحشية, وكيف عبرت البركة السوداء في شوقي المؤلم لزيارة كل دكة وكل درب وكل مدرّج الى اليوم الذي لمحت فيه الجميلة ذات القوام الممشوق من مسافة تثير الريبة وللأيام التي قادني فيها حبي الى أن أركب مبحرا في رحلة بالغة الحرارة. أستدعيت شجيرات الورد اليانعة. ومجّدت الممشى الظليل الذي يعبق برائحة الياسمين. البعض من النسوة ابتسمن والأخريات نظرن اليّ يعيون متّسعة يملأها الوقار. عندما التفتّ الى من كانت أكثرهن جمالا, رأيت رموشا واسعة يغطيها الحياء تغطي عينيها؛ رأيت فما ساحرا ووجنات جميلة بألوان ربيعية ناعمة وجبينا أملسا ضاحكا يظلله شعر أشقر مجعّد. رأيت حبي الأول جميلا فاتنا بالذكريات والحنين الى الماضي. كما كانت تظهر لي أحيانا في أحلامي المفضلة. كان قلبي مشتعلا مثقلا مع الأغاني وأشواق يوم آخر. لمست يدي الملكة (هل تذكرين الأكثر فتنة؟) تبسمت وفتحت عينيها ((قل لي أكنت لست أكثر سعادة من الأخرين؟ )) هززت رأسي برفق لأني لاأستطيع ان أبعد عيني عنها شفاه اليـــسا. ((لكن أكنت ممتنا ؟))عندئذ شعرت بالحزن وكان علي ّأن أطأطأ رأسي مرة أخرى. أومات إلى أحدى النساء التي ملأت كأسا رقيقا بالنبيذ من ابريق فضي رفيع الطراز. أخذت الأبريق الرقيق وحملته الي بلطف ((الأن انت تحتاج للراحة. اشرب واسترخي على الفراش وضيافتي سوف تصون غفواتك)) شربت وأعطيتها يدي بامتنان للطفها وكرمها. قادتني أحدى الوصيفات الى غرفة في القصر الفسيح وأضاءت قنديلا معقا وغادرتني. كانت الغرفة متوسطة الحجم بشبابيك عالية. في الوسط هناك سرير منخفض كان قد تمّ اعداده لي اضطجعت ورأيت بساطا صوفيا ضيقا يلف الجدران يرتفع قليلا عن الأرضية يُظهر بخط منخفض فضائل الحكمة والعفاف والعدالة والشجاعة, منتظرا الجميلة وتقديم القربان لها. الاشكال المرسومة هدأت من عقلي المستثار بسلامها وبساطتها. وحولتني الى صور الأحلام لاحقة بي الى غفواتي. في الصباح الباكر عندما استيقظت مبتهجا منتعشا رأيت وجها مبتسما يميل علي يطوقه شعر جميل بلون لطيف. تعرّف قلبي على لطفها ورحّب بها قلبي أجمل ترحيب للطفها وناديتها بإسمها الذي كانت تحمله في تلك الأيام عندما كانت خطواتها الرشيقة ترافقني لساعات وسط البستان والرياض النظرة.
((سيدة غرترود !))
قالت تعال بصوت جذاب, (سنبحث عن الدروب التي إعتدنا على السير فيها). خلف القصر وفي الأماكن الشاهقة التي تعلوه. كان هناك إمتداد لأشجار معمّرة تقف كأصدقاء أزواجا أو في مجاميع صغيرة. مشت السيدة غرترود بجانبي في الدرب المتعرج. الدرب والبستان كانا يشبهان تماما الدرب والبستان اللذين كنا نتجول ونطوف بهما في الزمن الغابر. كان قلبي ثملا وأصغيت الى همسات وشدو الطيور بحزن شفيف. كانت أقدامي تتجول فوق روضة عشب مشابه وأُذني تصغي لذات الهمسات ولنداء طيور كتلك الطيور ولا أعرف إلا بمشقة إن كان ذلك قد حدث البارحة أم منذ سنوات عديدة منسّية. سألت السيدة غرتورد.هل تذكر ذلك؟ واضعة يدها على جذع الشجرة العجوز المرقّع لأنها في تلك الأيام كانت الأكبر سنا والأطول فكنّا نسميها (الأب). هززت رأسي بصمت.
(وهل تذكر هذا الأخضر والأصفر وهذه الدروب وتلك الأيكات؟ ممتلئاً بسعادة متعبة أومأت برأسي بصمت. قالت (هذا هو حلمك آخر الصيف) (وما تفضّله!) وكل ماحولك ليس سوى الأغاني التي غنيتها. لأيام التي زارتك بها بأجنحة منشورة ذكرياتك وأشواقك). مبتهجا مسرورا برشاقتها الأرستقراطية وبياضها وعروقها صعبة المنال واللون الوردي الشهي لأصابعها. (سألت السيدة غرترود :هل تذكر ذلك اليوم الأول تحت شجرة الليلاج؟ )0(أتذكر أتذكر كل ذلك.أتذكر كيف هدأتني وقدّمت النصيحة لي وكيف ذكرتيني بأمي التي أعيّت دونها السبل. كنت مريضا وتائها وأنتِ منْ أيقظ فيّ التقوى وإجلال الوالدين المغروسين فيّ. فقد علمتني مرة أخرى البحث عن الجمال المفقود وكيف أعود شاباً من جديد في اللحظات الجليلة التي اختطفتها.مرةًَ ياصديقي أردت أن تؤلف أغنية عني وعن سعادتك .هل تذكر؟كانت أيامك ولياليك غامرة بأغانيك المتبرعمة مع حبك المتوفّد ,بحثت عن كل شيء نادر وثمين. بحثت عن الأنوار والنغمات التي لم يكتشفها فنان بعد.وعن كلمات الحب التي لم يسبقك اليها شاعر. أنظر من حولك.هنا أغنيتك بكاملها. في كمال وقداسة صعبة المنال. مجاميع من الأشجار النبيلة النبيلة والشجيرات السامية والأضواء البنّية والذهبية,وأغاني نخبة من طيور الغابة.وانظر إليّ جيدا ! ماكان صغيرا وليس جوهريا وزائفاً فيّ سقط بعيدا. ماتراه الآن أكثر جمالا من أي واقع وأكثر حقيقية من أية حقيقة. إستمع لأي ترتيل رقيق للهمسات. إشرب في كل الألوان المتعددة للأوراق بعيون صافية بلا غيوم إنظر الى إنها ستكون جميعها ملك يديك.عندما تكون بعيدا, ستستيقظ في الليل وتتأسف بمرارة لكل صوت ولكل ظل قد فقدته عيونك أنت. لكن بعد ذلك ستأتي إليك أغنيتك بمئة طريقة. ومتعة قصائدك الأولى ستحملك بعيدا. الغريب سيألف الغريب. سيكبر عملك وسيأخذك الى الحياة حتى يأتي يوما ما وفي ساعة مباركة سيغادر مشغلك ويقف أمامك مكتملاًً صافيا شجيا ). السيدة غروترد تشعر بالصمت مرة أخرى لكن يدها بين يديّ. سمعنا صوتا هادئا رقيقا قادما من نافورة بعيدة, إنسلّ طير كبير بجناحين ساكنين عابرا بقعة السماء التي رسمتها وحددتها الأشجار المعمّرة.في اليوم التالي نهضتُ باكرا قبل أن يغرد أول الطيور.المطر الخفيف كان يهطل خلال الليل.الأرض لاتزال رطبة تفوح منها رائحة لاذعة وقطرات من الماء الصافي تتدلى من أوراق الشجر. في كل خطوة وفي كل نََََََََََفس شعرت بالشباب وعنفوانه والصحة بداخلي. السماء الزرقاء الفسيحة والأرض على المدى تبدو منتعشة بكرا ًَ. ليس منذ صباي البعيد قبل التماعة الحب والعاطفة الصاخبة التي جاءت لتعذيبي. كانت تريني الأرض هذا الوجه المكتفي بذاته. أخذت سبيلا غير مطروق والذي أصبح اكثر فأكثر كثافة كلما تقدمت داخل الغابة البكر. هبّت رياح عاصفة على قمم أشجار السنديان المعمّرة, والتي ترتفع فوق الشجيرات المتشابكة الأغصان المتعانقة مع بعضها والملتفّة بعقد أغصانها كعائلة متناغمة من العمالقة ,متطاولة ممتدّة في الفضاء والضوء. على أرض الغابة السوداء رأيت آثار حوافر تقطع الطريق, وكان هناك واحد في نصف العتمة قرب الأجمة. إعتقدت إني رأيت رأس أيّل يطل رشيقا فخما وينظر من حوله. رمقته وأنصتُّ ألآن وبعد ذلك مراقبا أنفاسي وبقيت واقفا حتى أستثير ولمرات عديدة المشاعر المخادعة للغابة التي كانت مليئة بالمفاجئات والعجائب الصامتة. جرى الغدير الفسيح مزبداً ينشر رذاذ ماءه منحدرا بإتجاه الوادي والذي ظهر فجأة في المشهد. في البرك التي في تحت قنطرة الشلال كان هناك سمك سلمون أسود اللون يسبح بصمت ويتلاشى عن الأنظار مثل البرق عندما يعبر ظلي من فوق مكانه الخفي. متتبعا السيل الذي يبعث البهجة في النفس وجدت نفسي فجأة في وادي مشابه.وصلت الى تلة منخفضة في آخره؛وهناك تركت السلمون يتابع طريقه. وسوف لن اتمكن من سماعه الأ بشكل خافت.مشيت في الغابة عبر شجر الزان الفتي والذي بدا يرتفع في عليائه رويدا رويدا وتنتهي أطواله بالتساوي فاتحة مشهدا ذكرني بالبيت. البعض من التلال كان يحمل على كتفه أحراجا تبدو كمهاميز داخل المروج الفسيحة للوادي قبالتي, كان محاطا بالأسل الطويل وكانت هناك بركة معتمة كنت قد قضيت عندها الساعات الطويلة ايام صباي.بضعة من الأشجار لها جذوع لاتحمل أغصانا وتبدوإن عليها تيجان متفرقة عالية والتي تنعكس على السطح المائل للسمرة. كانت أحلامي الأولى قد عبرت فوق روحي بين الأسل على هذا الشاطيء وكانت تتمرّى في مياهه الساكنة. هذه العزلة الحانية الوقورة كانت تستثير مني الأفكار الأولى الشعرية والملتوية بغرابة. مغطيا عينيّ باحدى يديّ, أُخذت بالألوان المتعددة وتنفست الصمت والسلام والذي بدا لي وكأني غادرته ورائي منذ زمن بعيد عند تلك الأماكن المحبوبة.الأسل والعشب يتحركان بشكل غريب مع الصوت الفاقد للحياة الذي يجعل الصمت أكثر محسوسية. في الشاطيء المقابل يتصاعد بخار رقيق من الأرض الرطبة الدافئة والذي يصل الى التلال الأكثر بعدا عن السماء ليتساقط قطرات رقيقة. فوق قمة التلة بزغ البرج الضّيق لكنيسة الدير؛ وقريبا سيكون من المؤكد إن صوتا صافيا من الأجراس سيضرب أُذني. النغمات الطويلة عبرتني بموجات ناعمة رقيقة. خلف التلة ,وكما اعرف يقف الدير الذي علّمني لأول مرة التفكير باليوم والغد حيث تذوقت وللمرة الأولى عذوبة مرارة المعرفة والتلميحات الأحلى للجمال الخفي.هناك أصبح عقلي المتفتح يحيط بكل الأسماء العظيمة التي تقدمت بكل شموخها مهيبة على كل مالدي من أفكار,أعمال بيريكس (السياسي الأغريقي ), وأعمال سقراط وكتب الفيدّية * وأعمال هوميروس الكبرى. رأيت بعين عقلي بوضوح قبب التلال والشبابيك القوطية الطراز للأديرة. أردت بشدة تذوق البهجة المرّة للزيارة الثانية للمكان لكني بقيت حيث أنا؛ كنت أخشى من تدمير الصورة التي احتفظ بها بداخلي؛ كنت أخشى رؤية الآخرين في البهو عندما كنت احلم في البيت. أشرقت الشمس على قبة برج الكنيسة, ورأٍٍس التلة وقف صارما بين هنا وهناك. بيني وبين الشفق المتلاشي. بحركة باطنية رفعت يدي بالتحية.
* الفيدية هي الكتب المقدسة للهندوسية.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow