Alef Logo
ضفـاف
              

رحلتي من الشك إلى الشك / ج 4

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2013-03-30

((في البدء كان الشيطان مجرد سؤال, استفهام استنكاري " أأسجد لمن خلقت طينا؟ ". ثمّ تحول السؤال إلى اعتراض ومحاججة فصارت المحاججة جدلاً وانتج الجدل لعنة أبدية وأصبح الشيطان ابليساً, من الفعل أبلس أي يأسَ وقنطَ. فأقسم أن يكون مغويا لأدم وزوجه, بماذا أغواهما؟ بالمعرفة والخلود وعندما أكلا من ثمار المعرفة أُخرجا مما كانا فيه وهبطا إلى ساحة التجربة المعرفية القاسية. خرجا من جنة القرود إلى غابة السباع, فكان الشيطان لهما شريكاً والمعاناة لهما قريناً. وبقي السؤال علامة في جبهة آدم وحواء, يشير إلى انسانيتهما. ومن السؤال الذي يبحث عن إجابة جاءت المعرفة, التي تبحث بدورها عن دليل وحجة لكي تقبل أمراً أو ترفضه. فجاءت مقولة "نحن أبناء الدليل أينما مال نميل" شعاراً يردده المتنورون الذين يضعون العقل في المنزلة التي يستحق. أعني الذين لايقبلون أمراً أو يرفضونه دون حجة أو دليل. اؤلئك الذين يضعون نصب أعينهم "خذ الحكمة ولا تسأل من أي وعاء خرجت". لكن هناك من لايبدأ حديثه أو نقاشه مع أحد إلا بعد أن يتعرف على هوية محدّثه, لا أقصد هنا توجهه الفكري واصطفافه الإيدولوجي بل انتماؤه الديني أو الطائفي أو اصوله القومية أوالعرقية, لكي يضعه في خانة الآخر, المختلف, العدو الذي يتربص للانقضاض, فيتحول الحديث عندها إلى اتهامات وقذف ورجم بالغيب وتصيّد هنّات وعثرات. وكأن الاختلاف في الدين أو الطائفة أو القومية كاف لوحده برفض الآخر جملة وتفصيلاً, أو جعل الآخر في دائرة الاتهام, يدافع عن نفسه, أو التشكيك بنواياه لمجرد إنه مختلف, دون النظر إلى مايقول ويدعي وهل هو معقول مقبول أم مردود مرفوض لضعف الحجة وفقدان الدليل وتهافت الأدوات المعرفية المستخدمة في عملية الاستقراء. عندما أقرأ في "المهابهاراتا" ملحمة الهند الكبرى عن شخصية كريشنا ذي الطبيعتين الانسانية والملائكية, وكيف يظهر بالصورة الثانية ملاكاً يسدّ الأفق بجناحيه بعد أن يطلب منه سيده أن يرى صورته الأخرى. اتذكر ماقرأت في القرآن وما ذكرته كتب التفسير للآيتين "وما صاحبكم بمجنون, ولقد رآه بالأفق المبين" (سورة التكوير 22-23). عندها يحق لي التساؤل لماذا هذا التشابه؟ وعندما يُقتل كريشنا تمطر السماء دماً لثلاثة أيام, كما حدث بالضبط "في الموروث الشيعي" عندما قُتل الامام الحسين في كربلاء. فمن حقي السؤال التالي من أخذ ممن؟!! من نافل القول الحديث بأن كل الأسئلة مشروعة خصوصاً ّإذا كانت في سبيل المعرفة ومن أجل الحقيقة وإن كانت نسبية. كما إن المعرفة عملية تراكمية تبدأ بالأسئلة والشك وإعادة التقييم المتواصلة, لذلك نجد نقاط التقاء بين سؤالين أو فكرتين يطرحها أشخاص لا جامع بينهم ولا لقاء سوى إنهم توصلوا إلى نفس النتيجة أو تشاركوا في نفس زاوية النظر إلى مسألة معينة أو نهلوا من ذات المصادر)).
9
مرّت ستة أشهر حتى أذنت الأقدار بمنحي إجازة خارج المجمع, كي أرى ما حلّ بالعقلاء والمجانين, من بقي منهم على قيد الحباة الكابوسية ومن ارتحل خارج حدود الغربان. وهكذا مرّت الليالي والأيام وكرّت مسبحة الوقت الثقبل فتجاوزت سنوات أربع بأربعة أيام, في هذه السنوات العجاف عشت ومجموعة من الأصدقاء الذين توطدت علاقتي بهم في المجمع, في ظروف لايعلم بها إلا الله والراسخون في التشرد والغربة, من يتخيل إن لعظام الدجاج هذه القيمة حتى تتحول إلى "سوب" ومزة وعشاء ما بعد العرق, العرق الذي نحصل عليه بعد بيع ملابسنا القديمة أو تلك التي تبرع لنا بها من جاء له المدد الرباني وساعده قريب أو صديق له في أوروبا أو اميركا على االسفر ودقع له سعر تذكرة الطائرة. أو نحصل على النقود بعد بيع الكتب التي سرقتها وبكل فخر من مكتبة لمدرسة دينية أنشأتها منظمة العمل الاسلامي التي يقودها المدرسي. تلك المنظمة التي كان لي بها تجربة أدخلتني عالم الأسرار ودراسة المنطق وقواعد اللغة العربية وشيئاً من الفقه وكثيراً من الاسلام السياسي الطامح لدولة الولاية أو حكم الفقيه. أسست المنظمة مركزاً دراسياً يحمل إسم "مركز التوجيه الرسالي" الذي كان لي معه قصة قصيرة. بعد دورة صحفية سريعة قادها الشيخ أبو مشتاق أصبحنا كتاباً في صحيقة "العمل الاسلامي" ومجلة الشهيد التي تشرف عليها المنظمة. ثم احتجنا إلى دعم مالي فأخذنا الشيخ المسؤول عن المركز إلى مدينة قم, حيث مقر المرشد الروحي للمنظمة المرجع محمد الشيرازي. استقبلنا الأخير في غرفة صغيرة, جلسنا حوله وبدأ الشيخ يتحدث عن المركز وأهميته وطلب من المرجع دعماً مالياً, فقال المرجع الراحل: لو صعدت على المنبر وطلبت من الحاضرين وأغلبهم من التجار أن يتبرعوا من أجل إقامة وليمة على حب الحسين لسارع الجميع للتبرع. ولكني قد لا اجد أحد يقدم الدعم لمشروع ثقافي كتأسيس "مركز التوجيه الرسالي". ثم أكمل حديثه بالقول: "كنت في العراق فأخرجوني منه وذهبت إلى الكويت فطردوني منها وأنا الآن في إيران ولا أدري قد أبعد عنها أيضاً", ثم توجه إلى الشيخ مسؤول المركز بالقول "نصيحتي لكم ان تأخذوا الشباب إلى بريطانيا لكي يأسسوا مركزهم هناك لأن في بريطانيا بلاط للعقلاء". وهكذا عدنا إلى طهران حيث المكتبة الدينية الحافلة بالكتب, وحيث أصدقائي الذين يحاربون الافلاس والجنون على اكثر من صعيد فكانت سرقة الكتب من مكتبة المنظمة أحد الحلول المؤقتة المطروحة, تمت سرقة مجموعة من الكتب بتخطيط وفتوى بالاباحة واشراف مني على اعتبار إن الضرورات تبيح المحضورات, ولأن الكتب التي أسرقها وابيعها هي غير الكتب المعرفية والروايات التي نقرأها استعارة مأجورة من بائع للكتب من المهجرين العراقيين في منطقة "كوجه مروي", وذلك لعدم تمكننا من شراء تلك الكتب بسبب أسعارها الفلكية بالنسبة لنا, من يخطر بباله إن بيضتين مقليتين وكاسة شاي لها كل هذا القدر من الدلال, حتى الفلافل مرّت عليها أيام شهدت فيها العزة والمجد, فكادت أن تكون من المستحيلات السبعة أو عجائب الدنيا التي لا ننتمي إليها, وقد أصبحت ثمانية بفضلها, أما ترف الحصول على طبخة فيها قطعة لحم أو سمك فذلك ما لم تسعفنا المخيلة بتذكره. لانشغالنا بالحفاظ على عقولنا والانتباه لحركات أجسامنا, من أجل وضع حد للهلوسة التي أصابتنا ونحن ننتظر "جودو" الذي سينقذنا من هذا الجحيم إلى أية بقعة من بقاع العالم خارج هذه الحفرة. كنا نفرش أمامنا خريطة العالم نتشاور في أمر الهروب من إيران للوصول إلى هذه الدولة أو تلك, ونشطب على أسماء تلك الدول التي لا تستقبلنا, فنجد العالم وقد انقسم إلى ثلاثة أقسام, القسم الأول في عداء مع إيران ولن يستقبلنا إذا حاولنا الوصول إليه قادمين من مصنع إيران الثورة الاسلامية للتصدير والشحن, والقسم الثاني دول أخرى تتقاسم أرباح النفط مع البطل القومي الذي ذبح من قومه أضعاف ما فعل بأعدائهم, وتسلمنا لأيدي مخابراته. أما القسم الثالث الذي كان يشكل الحلم فهو دول أخرى تدرك معاناتنا وتظمنا تحت جناح اللجوء, لكن الوصول إليها يحتاج إلى أوراق رسمية ونقود هي الأجنحة التي تمكننا من الطيران إليها. وهكذا ترقص أعيننا على خارطة العالم وبعد أن نستكشفها طولاً وعرضاً, حتى إن البعض منّا كان يقلبها علّه يجد دولة في الاتجاه الثاني خلف الخارطة تكون قريبة يمكن الوصول إليها, نطوي الخارطة من أمامنا لكي لا نشعر بالاختناق من ضيق هذا العالم المترامي الأطراف, لِمَ ضاق العالم علينا لهذه الدرجة؟. لولا فسحة الأمل والتحليق في الخيال الذي ترسمه لنا الكتب والروايات التي نقرأها, ولولا لحظات التيه مع العرق وصوت فيروز وتلاحمنا كأصدقاء مع بعضنا لكان الجنون قد أطبق علينا, (فراقٌ ووجدٌ واشتياقٌ ولوعةٌ تعددت البلوى على واحدٍ فردِ) كما قال صفي الدين الحلي.
ثم شاءت الأقدار وجاد الزمان بلفتة من لفتاته وحصلت على جواز مرور(ليزاباسيه) إلى سورية التي سبقني لها أصدقاء, عشنا في إيران سوية وتقاسمنا الجوع والتشرد ومقاربات الجنون, أربعة سنوات وأربعة أيام هي المدة التي قضيتها في إيران من 1431984 حتى 17 11988 , لازلت محتفظاً بذكرى يوم السابع عشر من كانون الثاني, باعتباره يوم ميلاد جديد لي أو أول يوم من العمر الثاني الذي كُتب لي. وصلت إلى مطار دمشق وكان بانتظاري أصدقائي القدامى.

10
بعد محاولتين فاشلتين بالوصول إلى سوريا, نجحت الثالثة, ساعدني أحد الأصدقاء الذين لم يبخلوا عليّ بشيء مما في أيديهم وفي قلوبهم. كان أسمه مزهر وهو من بغداد من أهالي الكرادة, كلداني يحمل قلباً طاهراً أضاءه إيمانه بالمسيح والحب الذي يغدقه على منْ حوله. كان لديه أحد الأقارب في الولايات المتحدة يقدم له المساعدات المالية, اشترى لي تذكرة سفر إلى سوريا, وقدمني على نفسه وجعل يوم سفري قبل سفره ليطمئن إني وصلت إلى برّ الأمان, إلى سوريا, هذا البلد الذي لم يستقبلنا أحد من البلدان العربية غيره, لقد فشلت المحاولة الأولى ورجعت من مطار مهاباد في طهران خائباً بعد أن وصلت برقية بإلغاء برقيات الدخول لحاملي "جواز المرور" والمحاولة الثانية فشلت هي الأخرى بعد أن أعيد تفعيل تلك البرقيات لكنها أوقفت بمجرد وصولي إلى مطار دمشق ورجعت على نفس الطائرة إلى أرض الخوف والسجون والجنون, فكانت الثالثة هي المنجية من جهنم الأرضية. فدخلت الشام في السابع عشر من كانون الثاني عام 1988. كان حي السيدة زينب هو الملاذ الآمن الأول, بعد غربة اللغة والعادات والتشرد, كان البعض من اصدقائي القدامى الذين سبقوني إلى الشام, يعيشون في ما يشبه (الغيتوات العراقية), فللسيدة زينب طابعاها الخاص وعمائمها وتوجهاتها السياسية وأحزابها الاسلامية ومناصريها والمستفيدين من عطايا الشيوخ ومساعدات وكلاء المراجع الدينية وتحزباتها, ولمنطقة مساكن برزة شيوعيها وأكرادها والموسرين من العراقيين, ولمخيم اليرموك مناضليه السابقين ومستقليه ومن أخذه العمل مع التنظيمات الفلسطينية أو انزلق في دوامة مشاغل الخياطة وعملها الموسمي أو كان له نصيب في الدخول إلى معارك السوق والتجارة والبيع والشراء. فتقلبت مصائر الناس بين من بقيّ وفياً لعزلته في الغيتو العراقي مع كرّ الأيام وكأنه سيعود إلى بلده صباح اليوم التالي بعد سماع نشرة الأخبار الصباحية. وآخرين اندمجوا مع المجتمع السوري بالزواج والمصاهرة والعمل والعلاقات الانسانية التي تتطور يوماً بعد يوماً. فانفتحت آفاق اوسع لمن أراد أن يرى الحياة بمنظار أوسع. كانت سوريا تعيش تحت العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي, فالحصول على علبة السمنة أو الشاي أو السكر, كان يعني الوقوف طويلاً أمام طوابير الجمعيات الاستهلاكية كل شهر على نظام البونات. كنت وأربعة من أصدقائي القدامى نعيش في حي السيدة زينب في الفترة الأولى من حياتي في سورية. عملت في محل للحلويات بأجر زهيد لا يتعدى 300 ليرة سورية في الأسبوع, كان يكفي لسهرة ليلة الخميس في البيت كالمعتاد, وهي الليلة التي نتناول بها البروتين من لحم أو دجاج مع عرق الريان. ثم أعلن إفلاسي يوم الجمعة واقتحم جيوب أصدقائي الخاوية عليّ أجد فيها أجرة الطريق إلى الشام للذهاب إلى المركز الثقافي السوفياتي لكي أحظى بمشاهدة فلم سينمائي مجاناً. أعود بعده للبيت متهيئاً لأسبوع جديد من غسيل الصواني وشطف المحل وانتظار "المعلم" الذي يبدأ دوامه من الساعة الحادية عشرة صباحاً وحتى الثامنة أو التاسعة مساءاً وكأنه يصرّ على أن يسلب مني الليل والنهار. يتوزع أصدقائي بين العمل في مصبغة كما كان أبو النور, وهو الممول الأساسي لنا بالملابس الأنيقة في الصيف والشتاء , تلك الملابس التي تخلى عنها أصحابها أو تناسوها. وصبي جزار كما كان وليد الذي يتحفنا بالعظام بعد أن يخبر صاحب المحل بأنه يربي كلاب تحتاج إلى عظام من الحجوم المقبولة, فكانت قدورنا عامرة بمرق عظام الكلاب. أو من ينتظر فرصة سفر إلى الدول الأوروبية كما هي حال محي الشريفي خريج كلية الاقتصاد الذي يجيد الانكليزية والفرنسية وله إلمام بالفارسية والكردية, لكنه يخلط متعمداً آيات من القرآن مع مثيلتها من الإنجيل, فنستيقظ على قرائته لثلاث آيات من سورة الفاتحة يختمها بأبانا الذي في السموات ليتقدس أسمكك وليأتي ملكوتك, ثم يعزف على أي صحن في المطبخ ليوقظنا من نومنا على فطور البيض والشاي والرقصات البصراوية, فيبدأ يومنا بجنونه وهلوسته. قبل أن يلعن من دخل إلى دورة المياه قبله خصوصاً إذا كان صديقنا جمال الذي كان ينتظر فرصة سفر هو الآخر, فهو من الذين يطيلون مدة بقائهم في المراحيض, وكأنه ينتظر تذكرة السفر في مكتب للخطوط الجوية. وهكذا يتوجه كل واحدٍ منّا إلى عالمه وعمله حتى نلتقي في المساء الذي قد يجلب لنا من الضيوف أصنافاً متعددة. فمنهم خفيف الظل الذي يشاركنا الضحكة والفرحة, بل يتحمل معنا الأخبار المشؤومة عن الأمراض والموت القادمة من الوطن, أمثال رجل يتجاوز السبعين من العمر يدعى أبو لهيب كان من الشيوعيين القدامى فتحت له باب البيت في اليوم الثاني من وصولي إلى الشام فاتحفني بمقولته المشهورة التي لم افهم ماتعنيه: (الله يخلصك من الجنة وليدي) ضحكت وأدخلته, رحب به أبو النور والشباب فسرد لنا واحدة من نوادره قائلاً: (لحقني أحد الشباب المعتوهين وهو ينادي : عمي أبو لهب , ياعمي أبو لهب قلت له عمو أنا مو أبو لهب. أبو لهب ذاك سيد العرب إبن أخوه نبي أنا إبن أخي ثور...) وإلى آخر الأحاديث التي تشبه هذه المقولة. وهناك الثقلاء الذين تجمّدت الحياة ووقفت عندهم الأحداث عند تأميم النفط أو عند الجبهة الوطنية بين البعثيين والشيوعيين وكأن وقائع أحداث عشرات السنين مرّت على مقبرة. يحتدم النقاش بين هؤلاء فيتحول البيت إلى ساحة جدل عراقي قد يتحول في بعض الأحيان إلى صراع بالأيدي او بما تيسّر من أدوات للقتال الخفيف. وينتهي بانصراف أحد المتابرين بالعضلات الفكرية والرصيد البائس من طرق نفش الريش واستعراض البطولات بين مناضلي الداخل والخارج, ونبقى نعض أصابع الندم لاستقبالانا ضيوف على هذا المستوى من السلوك. هذا النمط من الناس يحيلك إلى الأبيض والأسود بكل شيء وهي طريقة لإراحة الذهن من التفكير وتعطيل المخيلة والدعوة للسبات والكسل الفكري بالاتكال على الله وعلى من يفكر بالنيابة عنهم. وغالباً ما تكون صيغة الجمع هي صيغة الخطاب. فلم أسمع من أي طرف من الأطراف التي تخوض في الخلافات وتفتعل المشاجرات منْ يقول: برأيي أنا, أو إن وجهة نظري كذا, على سبيل المثال, بل يتشدق دائما بقول: نحن, وكأنه ناطق رسمي يحمل توكيلاً من الآخرين ويتحدث بإسمهم وهو لا يمثل في أحسن الأحوال إلا نفسه.

*****
((لطالما شغلتني فكرة المقارنة بين عمل سيمفوني لاوركسترا وما يحمله من جمال وتناغم وتكامل وحياة قائمة بذاتها لهذه الوحدة المركّبة المنتجة ولهذا العمل الجماعي الفردي بالوقت نفسه. وبين إجتماع لأفراد (يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا) كما يقول المثل العربي المثير للأسى والكآبة والإحباط – مع الإعتذار بالطبع لعازف الإيقاع في الأعمال السيمفونية – فالمسافة بين الأثنين عظيمة والبون شاسع. فالأول عمل يتبارى به الفرد مع الجماعة ليؤكد ذاته من خلالها بينما في الحالة الثانية نجد الفرد وقد تهشمت ذاته بعصا الاستبداد الجمعي أو هاجس القطيع الى شظايا يجمعها طبل الحشود. وعندها تختفي من الحديث والنقاش والحوار صيغة (أنا ) الفردانية المسؤولة عن أفعالها, الواثقة من موقفها المدافعة عن وجهة نظرها لتحل محلها صيغة القناع أي صيغة (نحن) الدفاعية التي طالما أخفت ورائها ضعف الحجة وهزال المنطق وخواء المعنى والمختبئة تحت عباءة الجمع والمتحدثة باسمه. كما إن الحديث عن الحشود والجموع من جهة والفرقة من جهة اخرى يحيلنا الى مفارقة بمنتهى الغرابة, نجد فيها العمل المتناغم المتكامل الذي أشرنا اليه آنفا نتاج (فرقة وفردانية) بينما الفعل الذي تقوم به الجماعة في الحالة الثانية ليس سوى تجمع قطيعي. فكيف تخلق الفرقة عملاً جماعياً فذاً يحتفظ بخصوصية الأفراد المشاركين فيه ولا تخلق الجماعة سوى حشد تحركه هواجس القطيع بغريزته البهيمية! سواءا كان التجمع لمهرجانات البهجة أو الاستعداد للعدوان وتبريره أو للتسلط أو التفرد الأناني بأبشع صوره لجماعة تظن إنها شعب الله المختار فتفعل ما تشاء. أو الفرقة الناجية التي تحيل الآخرين إلى جهنم وبئس المصير أو الوكيل الحصري والوحيد للحقيقة المطلقة الذي يرفض حق الحياة أصلا لمن لا يشاركه إيمانه وقناعاته , أو بالتعصب الأعمى المزهو بنفسه والمدافع عن مواقف بلا حجة أو دليل سوى إن عددا كبيراً من البشر الكسالى ـ الذين أراحوا انفسهم من التفكير وانقادوا لمن يفكر بالنيابة عنهم وأسلموه رقابهم ـ , آمنوا بها. قد يجرنا الحديث إلى مسارات أخرى ويدفعنا نحو إعادة التفكير بكثير من المسلّمات القطيعية التي استقرت باذهاننا ودخلت من باب الكسل الموارب وكأنها بديهيات أو مقدسات, لايجوز لنا أن نستقرؤها من جديد ونعيد النظر بها أو حتى أن يكون لدينا الجرأة لفعل ذلك. يدفعنا الخوف المتأصل بذواتنا من الجماعة والخوف من اعلان الإختلاف معها فالخروج على الجمع من الكبائر على حد تعبير الخطاب الديني أومن العيوب التي تدعو لخجل من يرتكبها بالتعبير الإجتماعي الجمعي, الذي يخيف الغنم من سطوة الذئب الذي يستهدف القاصية منها, باستبطان نفسي لحالة من القبول المطلق لما تقرّه الجماعة حقا كان أم باطلاً . أو بأحسن الأحوال تشيد بما قاله منذ قرون – ونحمله كشعار تبريري لتقاعسنا عن السير في طريق التنوير والعقلانية وتأكيد الفردانية الخلاقة - الشاعر زهير بن أبي سُلمى عندما قال:
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسمِ
وكفى الله المؤمنين شر القتال, فالخروج على جمع الأمة يورد صاحبه الهلاك ولكي نتجنب الهلاك علينا ان نصانع ونجامل أو نصمت صمت الساكت عن الحق. فهل نحن شياطين أخرسها الحق, لكي نكون بهذا الموقف. المفارقة هنا واضحة فالقطيع يندفع بهاجس لا يختلف كثيرا عما تنقاد به الأغنام لذلك نجد إن أمثال هذه التعابير قد اكتسبت قدسيتها من فرط تكرارها على ألسنة وعاظ السلاطين سواءا كانوا خطباء منبر أم أصحاب أقلام لا تبرى إلا لمقارعة من يرفع صوت الفرد المدافع عن حقه بالحياة والحرية والتعبير. وكأنهم رقباء متطوعين ورعاة غنم ساهرين على مصالح القطيع وهواجسه التي تفتقد الروح)).

11
دارت بي الأيام في سوريا الشام التي أحببت العيش فيها, وبقيت كوابيس إيران وسجونها تلاحقني في أحلامي لمدة تزيد على العام. فأحلام الهروب والفشل والاعتقال بقيت ترافقي وتوقضني في حالة من الخوف بل الرعب الذي غرس في نفسي الرغبة بالطيران خارج حدود الجسد, حتى تعرفت على عالم المرأة ودخلت إلى دنيا جديدة من الحب والعطف والحنان عن طريق سيدة لها رائحة القرنفل وذكراه, حب هذه السيدة الشامية أنساني ما مررتُ به من بؤس وحرمان في الجمهورية الاسلامية فصارت هي الأهل والوطن وتحولت الشام عندي إلى ممر آمن للوصول إلى جنة الأرض في كنف سيدة القرنفل. حتى إن موضوع السفر الذي كان يشغل بال جميع العراقيين لم يعد يشكل عندي شيئاً. فانخرطت بالبحث عن عمل, أي عمل يسد الحاجة, ويبقيني في الشام إلى جانب تلك السيدة. بعد أن غادرت محل الحلويات الذي عملتُ به لفترة من الزمن. لكي أستعيد الليل والنهار دفعة واحدة من "المعلم".

(( هي الشام قلبي وقبلتي
يجلدني حبك كما تجلد الغانيات
عتاة اللصوص وزناة الليل الماجن
وصرعى الموائد الفاجرة
ويمنح للمقامرين الأمان
وللأولياء جوائز الترضية
فكم يخون الياسمين
وكم نداري الفضائح
تلهبنا سياط المديح
فنهرب في القبلات الخائنة
ويحمّر وجه الأماسي
وكل الأماني فراغ لعوب
يلوّن بالريح وجه القمر
ويرسل كوابيسه والضجر
فوق جباه السكارى

************

لاوقت للوطن
أدمنتني الغربة
هناك في وديان الصيف
زرعت اخوتي
ورحلت اقتفي اثر الياسمين
في الدرب الصاعد نحو الرب)).
*****





((من العراق أمي وزهر البرتقال ومن الشام كل ماتبقى)).

كانت تجربة العمل الثانية في منطقة جبلية على طريق حمص الدولي عند مفرق مدينة معلولا الأثرية التي تزخر بالأديرة المحفورة بالجبال والكنائس القديمة. كان العمل "راعي محسّن" بمكان ثابت أو ما يشبه الزريبة, وهي عبارة عن غرفة للنوم في الأعلى يمتدّ أسفلها المعلف التي تشمله الزريبة, أرش فيه التبن مع بعض القمح وأملأ دلاء الماء للبهايم مرة في الصباح وأخرى في المساء. أما ماء الشرب الذي أحتاجه فعليّ النزول إلى الوادي وملأ ما بحوزتي من أواني, لغرض الطبخ أو تحضير الشاي. كأي (بيشمركه) في جبال كردستان. كان عليّ أن أغلي الماء أولاً ثم أصفيه لكي لا يتحول الشاي إلى لون دجلة وقت الربيع. أتجول فوق سطح الزريبة متنقلاً بنظري بين صفحات كتاب أقرئه, جيئة وذهاباً أو أتفرج على السيارات العابرة إلى معلولا.
*****
((في معلولا القرية النائمة في حضن الجبال القريبة من مدينة دمشق والناطقة بالآرامية, ثمة أديرة محفورة في الصخور أو متربعة على القمم. كانت تشكل لي الملاذ الذي الجأ إليه في ساعات الضجر والوحشة وماتجره عليّ من مشاعر الإغتراب والإحساس باللاجدوى. كانت زيارتي لهذه الأديرة متكررة وعلى الأخص أواخر الصيف وتستمر طوال فصل الشتاء, فلدم كرومها طعم لا ينسى ولخلواتها سحر يبدد ماعلق بالروح من هموم الحياة وقلقها, فكانت تلك الزيارات بمثابة حمّام موسيقي يغمرني بسيل من النغمات القادمة من مكان سري للصفاء يزيح عني الكدر, ويسعفني بالأمال والرغبة العارمة بالتجديد, فأردد بيت شعر لا أذكر صاحبه يقول: صفوٌ أتيح فَخُذْ لنفسك قسطها.... فالصفوُ ليس على المدى بمتاحِ.
تعتبر بلدة معلولا الواقعة شمال شرق العاصمة السورية دمشق، من أقدم البلدات التي ما تزال مأهولة بالسكان منذ تشييدها في الألف الأول قبل الميلاد على أيدي الآراميين، وحتى اليوم ما برح أهلها يتحدثون اللغة الآرامية إلى جانب اللغة العربية. ترتفع معلولا 1500م عن سطح البحر، وتقبع وسط جبال القلمون الصخرية الجرداء، ومناخها معتدل الحرارة صيفا وشديد البرودة شتاء، وتحصر الجبال بينها واديا تنتشر فيه الأشجار المثمرة وتنساب فيه الينابيع
الباردة, وتشكل بيوت معلولا المشيّدة على السفوح لوحة جبلية رائعة الجمال وهي تأخذ شكلا متدرجا جعل بيوتها متراكبة بعضها على بعض، وبسبب ضيق الوادي حوَّل أهالي معلولا بعض المغاور القديمة المحفورة في الصخور إلى بيوت حديثة صالحة للسكن. ومعلولا كلمة آرامية تعني المدخل، وجاءت هذه التسمية لوجودها ضمن شِعب جبلي جميل يقطع سلسلة جبال القلمون. في أحدى زيارتي " لدير مار سركيس وباخوس " الذي يعلو القرية, التقيت بالأب المشرف عليه وكان هو المبادر بتعريف نفسه وسألني عن نفسي ومن أي بلد أنحدر وهل هي زيارتي الأولى لمعلولا, وبعد أن جرى التعارف بيننا طلبت منه مقابلة للحديث والحوار بعد أن أكمل تجوالي في الدير. فرحب بالأمر وأبدى إستعداده لذلك. وبعد أن أكملت ما عزمت القيام به وتجولت بين الإيقونات والشموع ورائحة البخور وجموع الزائرين من مختلف الجنسيات والأديان والوجوه, قفلت راجعا إليه فاستقبلني بترحاب وأدخلني أحد الغرف التي كانت معدّة للضيوف. بدأت حديثي معه بالقول: "أرجو أن يتسع صدرك لما أحمله إليك من أسئلة", فأجاب مبتسما سل مابدى لك ولا تشعر بالحرج من أي موضوع تودّ الخوض فيه. بدأت حواري معه بأحدى آيات الكتاب المقدس, العهد الجديد " لوقا 11: 2-4 " التي تقول ما نصه ( وإذا صلّيتم, فلا تكونوا مثل المُرائين, يُحبون الصلاةَ قائمين في المجامع, ومفارقِِ الطرق ليشاهدهم الناس. الحق أولُ لكم: هؤلاء أخذوا أجرهم. أما أنتَ فادخل غرفتك وأغلق بابها وصَلّ لأبيك الذي في السماء لاتراه عين, وأبوك الذي يرى في الخفية هو يكافئك. ولا ترددوا الكلام ترداداً في صلواتكم مثل الوثنيين, يظنون أنّ الله يستجيب لهم لكثرة كلامهم. لا تكونوا مثلهم. لأن الله أباكم يعرف ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه). تسائلت عن الغرض من الكنيسة وسائر المؤسسات الشبيهة إذا كان يحق للمرء أن يمارس طقوسه وعبادته في خلوة لا يعلمها إلا الله بل يوصي بها الكتاب المقدس؟! حتى إنه يدعو لعدم تكرار الكلام والأدعية التي هي ديدن كل صلاة في أماكن العبادة العامة. فأجابني الأب بسؤال عن الدين الذي تنتمي إليه أسرتي فأجبته: إني من عائلة مسلمة. عندها قال لي إن المسلمين يؤمنون بأن القرآن منزل من السماء أما نحن المسيحين فنرى إن الكتاب المقدس كتب في الأرض على أيدي بشر وأخذ فترة طويلة ليكتمل على الصورة الأخيرة التي هو عليها الآن. هذا أولا أما بخصوص ما طرحت من جدوى المؤسسات الدينية كالكنيسة والأديرة وما إلى ذلك فردّي هو التالي: الإنسان روح وجسد والروح تواقة دائما للتحرر والإنعتاق من سجن الجسد, لذلك هي تميل بطبعها نحو التحليق بعوالم لايحدها حد ولايأسرها قيد, ولكن للجسد أنظمته الخاصة وقواننيه, لذلك نحتاج إلى منْ يقوم بهذه المهمة. فالكنيسة بالتالي هي الراعي الذي يشرف على هذه المهمة. كان في إجابته شيء من المنطق ولكني لم أقتنع تماما بما قال لسببين الأول كون الأب هو إبن هذه المؤسسة فهو يدافع عنها وعن مصالحها, والسبب الثاني هو الحالة المطاطية التي أراها في النصوص والآيات في الكتب المقدسة. فمرة تتحول إلى دعوة فيها من حرية الإختيار الشيء الكثير ومرة أجدها وقد أحكمت الطوق على رقاب المريدين والتابعين لتخلق منهم عجينة طيّعة بيد المؤسسات التي تتحدث بإسمها وتتبنى تطبيقها. سألت صديقي عن الأهوال والجرائم التي أقدمت على ارتكابها محاكم التفتيش بإسم الكنيسة والمقدسات. فأجابني بأن تلك الأخطاء!! حدثت فعلا واعترفت الكنيسة بها وقدّمت اعتذارها. سألته من أين تأتي القداسة إذن إذا كانت هذه المؤسسات الدينية ترتكب مثل غيرها من المؤسسات أخطاء فادحة التكاليف وجرائم كالتي أرتكبتها محاكم التفتيش؟ فعاد للحديث عن دنيوية كل هذه المؤسسات. عند هذا الحد شعرت إن الحديث سيدور في حلقة مفرغة, فشكرت للأب استقباله لي وخرجت من غرفة الضيوف يجول برأسي حديث قديم, حدث ذات مرة وقبل ربع قرن أو يزيد على ذلك أن تعرفت على أحد المشايخ الذين يثيرون لدى الآخرين الأسئلة, بما يطرحونه من أفكار جريئة أو بإمتيازهم بسعة الصدر وقبول أراء الآخرين بأريحية. في ذلك الوقت لم تكن مصطلحات التطرف والتشدد مطروحة كما هي عليه اليوم. وفي ذلك الوقت كانت الساحة تزدحم بالأحزاب والتنظيمات السياسية بمختلف توجهاتها وبُناها الفكرية والأيديولوجية. كان هناك مفهومان رائجان هما التقدمية والرجعية, ولم يكن المشايخ يتمتعون بالنفوذ والسلطة كما هم عليه الآن بل على العكس تماما. تقدّمت من الشيخ لأسأله عن الجدوى من العبادات والآيات القرآنية تؤكد على إن (الله غني عن العالمين) وليس بحاجة لعبادتهم وأنه (يرزق من يشاء بغير حساب) وأنه يقول (كلاً نمدُ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وماكان عطاء ربك محضورا) إلخ.. أجاب الشيخ قائلا: قد تكون منتميا لأحد الأحزاب القومية أو الماركسية, والمعروف إن هذه الأحزاب لديها نظام داخلي يحدد ما على الفرد المنتمي لها من واجبات ومنها على سبيل المثال الحضور للمشاركة في إجتماعات ولقاءات الحزب أليس كذلك؟ أجبته بنعم. فبادرني بالسؤال التالي: ماذا يحصل للفرد المنتمي لحزب معين إذا تغيب عن الإجتماعات لثلاث مرات؟ قلت: يتم فصله من الحزب. قال لماذا يُفصل؟ هل بسبب قناعاته وفكره الذي لم يتغير, أم فقط بسبب عدم التزامه بالحضور إلى الإجتماع؟ قلت فقط لأنه لم يواضب في الحضور. عندها قال الشيخ كذلك العبادات فهي بمثابة الإجتماعات الناظمة لمسبحة الإيمان. قلت له إذن قضية الإيمان خاضعة لتقييم المؤسسة وليس العكس. يومها تركت الشيخ ورائي وكانت تدور في رأسي أبيات للمعري يقول فيها:
عجبتُ لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه ببول البــقرْ
وقول اليهود إله يحب سفك الدماء وريح القـتــرْ
وقول النصارى إلـه يضام ويظلم جهرا ولا ينتصرْ
وقوم أتوا من أقاصي البلاد لرمي الجمار ولثم الحـجرْ )).


******
لم أتحمل مهنة الراعي هذه أكثر من شهر, زارني خلالها بعض الأصدقاء ليطمأنوا على أحوالي في تلك المنطقة المعزولة حيث لا كهرباء ولا ماء صالح للشرب. تلك الجبال التي تعج آخر الليل بأصوات الثعالب والمهربين وصرخات رجال الجمارك الذين يلاحقونهم. أحد الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في حي السيدة زينب كان أسمه عبد العظيم البصراوي كان واحد من الزوار الذين أتحفوني بزيارتهم والذي ودعني بأغنية قبل مغادرته الغرفة الوحيدة التي أسكن فيها, كانت الأغنية لفؤاد سالم وهي أغنية (مشكورة تردين الصدك ما قصريتي) لكنه بدل أن يقول مشكورة قال "معلولا تردين الصدك ما قصريتي".
بعدأن أتممت الشهر رجعت إلى اصدقائي الذين انتقلوا هم الأربعة إلى بيت يسكنه عبدالعظيم في السيدة كان يسمى مجازاً (الفيلا). سكنت معهم في أحدى الغرف الأربعة التي تشكل حرف ( L ) بالانكليزية مع فسحة ترابية يقطعها بلواك مصفوف من الباب حتى الغرف نمشي عليه ليجنبنا الانزلاق إلى الأرض الموحلة وقت الشتاء, مع مساحة من الأرض المصبوبة بالأسمنت تواجه خط الغرف الثلاث المقابلة للباب الرأيسي الذي يجانب تواليت وحمام على يساره. باب الفيلا مفتوح على الدوام بوجه البشر والقطط وحتى الكلاب, حدث أن كنت وعبد العظيم البصرواي جالسين صباحاً خارج الغرفة بمواجهة الباب وإذا برجل لا نعرفه يسلم علينا ويدخل إلى التواليت ويقضي حاجته ثم يخرج مودعاً ونحن غير مصدقين إن هناك من يستبيح بيتنا إلى هذه الدرجة من الاستخفاف! صحيح أن بيتنا يقع إلى جوار بيت للنوّر (أي الغجر) لكن هذا لا يعطي لأي أحد الحق بالتجاوزعلينا بهذا الشكل السافر. ( بالمناسبة في أحد الليالي الصاخبة التي كنا نقضيها بالغناء بعد أن تطرب النفوس ويتحول الغناء إلى رقص عراقي إلى وقت متأخر من الليل, يصل حد اقلاق راحة النور فقدموا شكوى إلى مخفر الشرطة فجاءت دوية منهم والرقيب غير مصدّق ما يحدث, قالها وهو يضحك "يخرب بيتكم النور يشتكوا عليكم!!؟؟؟ ولك هدول شغلن رقص وغناء وملّوا منكم... معقول!!!؟).
كان يشاركنا شاب هاديء الطبع أميّل للخجل والمجاملات على حساب راحته في الغرفة التي يقطنها , أسمه جمال يعمل في مهنة الخياطة. كان يشاركنا الاحتفالات شبه اليومية وهو عازف عود , يحضر معه العود ليعزف لنا مفاطع موسيقية أو يرافق منْ تجود حنجرته بأغنية أو موال. سأله عبدالعظيم البصرواي عن العود وكيف يساعده بالتعلم على العزف فقال له جمال تحتاج إلى ستة أشهر لكي تتعلم العزف. فتعجب عبد العظيم وردّ قائلاً " ليش ستة اشهر, يابن الحلال دورة المغاوير 45 يوم, شنو العود أصعب من المغاوير؟!!!

12

موضوع العود يأخذني إلى الحديث عن الموسيقى وعلى الأخص الموسيقى الجادة أعني "الموسيفى الكلاسيكية" فقد تعرفتّ بالصدفة, بعد سنوات من إقامتي في دمشق على صديق سوري من الشام إسمه "ماجد حواصلي" في مطعم شعبي صغير يسمى مطعم " الاسكندرون", يقدم المشاوي مع المشروب, كان من المهتمين بالموسيقى الغربية بمختلف أنواعها من الموسيقى الكلاسيكية والجاز إلى موسيقى البوب والروك والفلامنكو, بل كان مرجعاً لمن أراد الاستفسار عن الحفلات الموسيقية ومن يقود هذه الاوركسترا أو تلك, كان لديه محل لبيع الأقراص المدمجة في قلب مدينة الشام. كان يعتبر بمثابة مركز ثقافي يؤمه المهتمون بالموسيقى الجادة من موسيقيين وعازفين ومستمعين. تبادلنا الحديث عن الكاتب الروائي الألماني "هرمان هسه" وأعارني عدة روايات للكاتب ثم أدخلني إلى عالم الموسيقى من خلال ما كتبه "هسه" فلا تكاد تخلو رواية من رواياته من الحديث عن الموسيقى والسيمفونية والسوناتة والكونشرتو, دخلت إلى هذا العالم كمستمع ثم قاريء يبحث عن معاني المصطلحات الموسيقية فكاتب مهتم بالتعرف على هذا العالم الجديد الذي فتح ليّ جناحيه وأعانني على تحملّ أعباء الغربة ومشاعر الوحدة التي تزوني بين الفينة والأخرى. ولكن هل الاستماع إلى الموسيقى فن؟ سؤال بحثت الإجابة عليه في ماقاله رجال عظماء أدركوا قيمة الموسيقى. يقول وليم شكسبير " ليس ثمّة إنسان غليظ القلب سيء الطبع لا يمكن للموسيقى أن تبدل من طبيعته هذه ولو للحظة, والإنسان إذا خلت نفسه من الموسيقى ولم يهزه تآلف الأنغام الرقيقة فهو قادر على الخيانات والمكائد والمعاصي". ويقول الفيلسوف الصيني لاوتسه "علّموا الناس كيف يستمعون إلى الموسيقى .. وحينئذ سوف لا نحتاج إلى السجون". وقد وجد بحث طبي تناقلته وكالات الأنباء أن إستماع الأطفال الخدج إلى موسيقى موزارت يزيد من أوزان هؤلاء المواليد إذ يساعد الاسترخاء الناجم عن الاستماع لتلك الموسيقى الكلاسيكية إلى خفض استهلاكهم للطاقة فتزداد بذلك أوزانهم. ويقول خبراء إن الكشف قد يساعد في تقليص المدة الزمنية التي يقضيها الخدج، وهم الأطفال الذين يولدون قبل أوانهم، في المستشفى وخفض الرعاية الطبية التي تكلف السلطات الصحية ملايين الدولارت سنويا. وقام الباحثون بتشغيل موسيقى موزارت للخدج لمدة نصف ساعة ومن ثم قياس الطاقة المستهلكة مقارنة بالطاقة التي يستهلكها الرضيع عادة أثناء استرخائه. وبعد الاستماع للموسيقى انخفضت الطاقة المستهلكة ما بين 10 في المائة إلى 13 في المائة، مما ساعدهم في اكتساب وزن بشكل أسرع، علماً أن واحدة من الأولويات الرئيسية للأطباء هي زيادة وزن الأطفال الخدج. كما إن التجربة والتطبيق العملي لتعليم الأطفال الموسيقى في سن مبكرة لها دور فاعل جدا في صقل عملية الاستماع والتلقي اللغوي عند الطفل وتساهم بشكل جلي في تلقيه اللغوي وفق منظومة دقيقة يمكن أن يتمتع بها الطفل لتمييز الأصوات.. ويأتي برنامج الاستماع المبرمج ليثري رصيده اللغوي من خلال الغناء والإنشاد .. والموسيقى والبيئة الغنية التي يمكن أن يوفرها التعليم الموسيقي المبرمج للطفل في سن مبكرة هو حمام لغوي كما هو حمام موسيقي يكتسب منه الطفل الايقاع اللغوي ونقاء الأصوات, إضافة إلى الثروة اللغوية في الغناء والإنشاد.
تقول عالمة النفس الموسيقي إيزابيل بيرتز: الموسيقى ليست ملكة صماء إنها تجمع بين عدد من الوظائف والمكونات, ولكي نفهمها علينا أن نفصل بين مهامها حتى نتمكن من دراسة كل مكون على حدة. إن سماع الموسيقى يعزز إلى حد ما قدرة المخ على التعامل مع العمليات المجردة عقب سماع الموسيقى مباشرة. المنطقة الدماغية المسؤولة عن الإبداع بكل أشكاله عند الإنسان وكمية المادة السنجابية فيه ظاهرة عند كافة المبدعين عازفين ... فنانين .. علماء. والموسيقى هي الفن الوحيد الذي يجمع بين ثلاثة المؤلف – العازف – المتلقي. المتلقي " المستمع " ينحصر دوره بتلقي المعاني والأحاسيس التي سجلها المؤلف ونقلها إليه المؤدي ولكن كل المعطيات في مجال النقد والبحث الموسيقي وحتى علم النفس الموسيقي يمكن أن يعتبر الاستماع فنا قائما بذاته يقتضي تدريبا طويلا كي يصل الإنسان إلى ممارسته على النحو الصحيح وإضافة إلى أن عملية الاستماع الموسيقي تحتاج إلى تربية سمعية وذوقية وثقافة بل ودراية موسيقية إلى حد ما لتتكامل وفق ماهية الفن الموسيقي وعناصره. العناصر الموسيقية هي: الإيقاع ((Rhythm وهو النظام الوزني للأنغام في حركتها المتتالية. يقول أبو النصر الفارابي في كتابه "الموسيقى" – إن الايقاع هو النقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنسب, كما إن أزمنة الإيقاع إذا قدّرت ينبغي أن يكون المقدار لها زمناً واحداً, وهو أقل الأزمنة الحادثة فيما بين بدايات النغم ونهاياته, وهذا الزمن الأقل هو كل زمن بين نغمتين. اللحن (( Melody وهو خط سير مجموعة الأصوات الموسيقية المتتالية أو غير المتتالية وفق الإيقاع الموسيقي ومن خلال رغبة " المؤلف أو الملحن" ليخرج بعمل إبداعي. كما أن اللحن ينظم ضربات الموسيقى تبعا لشدتها أو خفوتها ويضيف إلى الإيقاع عنصراً جديداً, وهو عنصر ارتفاع الأصوات أو انخفاضها ""Pitch .التوافق الصوتي (( Harmony وهو العنصر الأساسي الثالث في الموسيقى العالمية وهذا العنصر غير معروف في موسيقانا الشرقية ولكنه يحتل أهمية كبيرة تتزايد على الدوام في الموسيقا (الكلاسيكية) والموسيقى الغربية بشكل عام. في عام 1984 وضع عالم النفس غادنر هاورد GADNER HAWARD خريطة عريضة للقدرات التي يمتلكها الإنسان وجمعها في سبعة أنواع من الذكاء هي :1-الذكاء اللغوي: وهو القدرة على إستخدام الكلمات شفويا أو تحريريا بفاعلية ويضم هذا الذكاء القدرة على معالجة بناء اللغة وأصواتها ومعانيها, واستخدامها.2-الذكاء المنطقي الرياضي: وهو القدرة على استخدام الأرقام والرموز الرياضية بفاعلية منتجة, وأما العمليات الداعمة لهذا الذكاء فهي التصنيف..والأستنتاج ..والتعميم والحساب واختبار الافتراضات..3-الذكاء المكاني: وهو القدرة على إدراك الفراغ البصري المكاني بدقة, للقيام بتحويلات وتصورات جديدة اعتماداً على تلك الإدراكات ومثال ذلك المهندس المعماري.4-الذكاء الحركي الجسمي: وهو قدرة الفرد على استخدام جسمه للتعبير عن الأفكار والمشاعر ومثال ذلك " راقص الباليه أو الممثل أو الرياضي.5-الذكاء الإجتماعي: وهو القدرة على إدراك الآخرين ومقاصدهم ودوافعهم ومشاعرهم, والتمييز بينها والتكيّف معها, ويضم هذا الذكاء الحساسية لمختلف أشكال لغة وتعبير الجسد والاستجابة بفعالية لهذه الموضوعات.6-الذكاء الشخصي: وهو معرفة الذات والقدرة على التوافق معها ويتضمن فهم الذات وتقديرها وإدارتها. 7-الذكاء الموسيقي: وهو القدرة على إدراك الصيغ الموسيقية " مثل التذوق الموسيقي " وتمييزها مثل " الناقد الموسيقي " أو تحويلها وتوظيفها " مثل المؤلف " أو التعبير عنها مثل " المؤدي أو العازف " ويضم هذا الذكاء الحساسية للايقاع والطبقة ولون النغمة والتمييز بينها.



نهاية الجزء الرابع
إعداد: ألف
يتبع ...

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow