Alef Logo
ضفـاف
              

رحلتي من الشك إلى الشك / ج 6

حربي محسن عبدالله

خاص ألف

2013-04-16

في مقهى الروضة تعرفت على (آدم حاتم) أو "سعدون حاتم محجوب" وهو الشاعر الذي توفي في عمر مبكر لم يتجاوز السابع والثلاثين, نحيل قليل الطعام كثير الشراب, شاعرٌ صعلوك هرب من العراق بجواز سفر مصري وانتقل إلى فرنسا وعاش مع عبثيين من أمثاله في جنوب فرنسا على قطاف التفاح ثم ذهب إلى لبنان مع التنظيمات الفلسطينية بعد رحلة قصيرة إلى اليمن الجنوبي أيام الحكم الشيوعي, ثم إلى الشام حيث التقينا. كان من العبثيين المخلصين للصعلكة حتى إنه رفض فرصة زواج من امرأة من عائلة ثرية جداً إخلاصاً لذكرى شاعر الصعاليك في العراق (الحصيري). عندما قلت له: لماذا ترفض الزواج من امرأة بينك وبينها كل هذا الحب الذي تنثره في قصائدك عنها. قال: عندما أتذكر الصعاليك من أمثال (الحصيري) أخجل من أقارب وأصدقاء حبيبتي الذين لا يعرفون معنى "الدادائية"!!!
كيف لي أن أجلس مع منْ يتحدث عن مشاريع بالملايين في أوروبا واليابان وأنا لا املك ثمن زجاجة من (مشروب الجن الوطني) الذي لا يكلف سوى بضعة ليرات؟ ما الذي يربطني بالتجارة والتجار وأنا الصعلوك الذي يضع (الحصيري) قدوة له في الشعر وفي الحياة على حد سواء؟
خرج آدم من الدنيا لا يملك غير ثيابه وديوان شعر جمعه له الشاعر محمد مظلوم وهو ديوان (لا أحد) الذي صدر بعد وفاته. كان آدم ينوي أن يسمي عنوان الديوان, كما أبلغني, (ذئاب تقود نيزكاً) وهو عنوان لأحدى قصائده.
*****
في منطقة العفيف التي تتربع عند قدم "جبل قاسيون" كان ثمة نادي للصحفيين. في هذا النادي المتباعد الأركان تجد ثلة من المثقفين وأخرى من المتسكعين. صبايا بريئات يبحثن عن فرصة للشهرة في عالم صاحبة الجلالة, انجذبن لحياة التسكع, وأخريات أدمنّ التطفل على موائد الزبائن الجدد. وخليط من المتمرسين بالأحاديث والثرثرة التي ليس لها نهاية, والتفاصيل التي تتفتح عن تفاصيل وشروح للمتن في هامش أكبر من المتن. ثمة متصيدون للفرص ومحبون للظهور و"الرفعة ولو على الخازوق" كما يقول المثل الشامي. ومتصابون يتصيدون الصغيرات الطامحات لكل شيء, من وجبة الطعام مع المشروب إلى تعبئة رصيد الموبايل إلى أي فرصة عمل بأجور جيدة وإن كانت الضريبة تحرش فاضح أو فراش وثير. كان هناك حوارات ثقافية يديرها منْ يدفع حساب الجميع. تجد في النادي أيضاً شعراء ينتظرون فرصة تناسب طموحاتهم الفنطازية فيسترقون السمع لما يدور في خلد السكارى, وفي جنبات العاهرات اللواتي يزرن النادي باعتباره مكان عام وبالتالي لهن الحق باصطياد الزبائن فيه بل ولهن الحق بحجز موائد خاصة في الزاوية التي تروق لهن. في النادي أدباء يحولون الجلسات إلى مباريات لاستعراض المواهب التي دفنتها العادات السيئة والعدوانية والسكر المتواصل والأحاديث الشفوية التي تحيل نادي الصحفيين إلى (مضيف بدو) يسجل نقاط انتصارات في الهواء في فضاء البطولات الكلامية, تلك البطولات التي تطوى مشاهدها على مخدة النسيان ما أن يذهب الجميع إلى بيوتهم.
في نادي الصحفيين في هذه الساحة من الدخان والنساء كانت لي فسحة من النبيذ في ليالي الشتاء أخذتني إلى رائحة الياسمين التي تعبق في شوارع دمشق. وعرفتني على فتاة الأنفاس العطرة. بالمناسبة أول ما يجذبني للمرأة رائحة نفسها. أقترب من المرأة فإذا وجدت نفساً زكياً استبشرت خيراً. وانتقلت للمطلب الثاني وهو الصوت. فإن لم يكن صوتها خفيضاً أو لا يحمل بحة "قليل الكلام" فلن تجذبني وإن كانت رائعة الجمال وفاتنة التقاطيع. حدث مرة أن دخلت إلى نادي الصحفيين وانزويت في أحد الأركان وطلبت قنينة نبيذ وبدأت في احتساء دم المسيح وعيني على طاولة كبيرة ممتدة يجلس حولها مجموعة من الشباب والصبايا أعرف الكثيرين منهم. كانت لدي رغبة في الجلوس وحيداً أتامل ذات الأنفاس العطرة الجالسة مع صبايا أخريات إلى الطاولة الكبيرة, وتذكرت هذا الوجه الذي حدّقت به طويلاً في وقت سابق في سهرة في بيت أحد الأصدقاء. إنها هي, هي نفسها التي لم تزح عينيها عني. تصاعد دم المسيح إلى وجنتي عندما فاجئتني سيدة العطر الزكي بقيامها من كرسيها والتوجه نحوي, لم أنزل عيني عنها حتى دنت نحوي وطلبت الأذن بالجلوس معي. جلسنا سوية نتحدث وكأننا نعرف بعضنا من عالم الأرواح. استأذنت بالرجوع إلى أصدقائها معتذرة بأنها قدمت إلي بلا دعوة. قلت لها أفضل شيء قمت به هو تشريفك لي. ثم توطدت علاقتي بهذه الكائن الذي يفيض جمالاً شاركتها أحلامي وشاركتني بحضورها وغنجها وتعذيبها لي بالانتظارات الطويلة, ذهبنا إلى البحر وجلسنا على صخور جزيرة (أرواد) التي شكوت لها أحزاني وشاركتني نشوتي. بل أخذتها إلى السيدة زينب لأراها وهي تضع العباءة العراقية. استمتعنا بمنظر الثلج في بلودان, شربنا النبيذ معاً هناك, نامت على كتفي في طريق العودة. كانت حلماً جميلاً مرّ سريعاً. أخذتها الحياة مني بسرعة وكأن الأقدار غصّت بأحلامي فأيقظتني بالهجر.
*****
إلى من غادرتني بلا أمل
وحيداً أبحث عن حلولٍ للخريف
فكان التشردْ
على المشارفِ أرى بؤس الوهاد
فأنحني التقط بقايا روحي
حاسر القلب للعاصفة
*****
ثمة مصحفٌ أهدي الى كفري
من شفاهٍ سوداء
ومعاول تحفر في القلب أضرحة
للكافرين بلا شواهد
فصار رفيق رأسي بلا موعظة
أنا من يبحث عن الحمائم في صالاتِ
الدخان والضجيج
ألفُّ اليأسَ على مغزلِ العمرِ
وأحيا
بالأمل
******
سألتني عن آخر أحلامي
ولم تنتظر الإجابة
تركتني نهباً للهواجس
وأوهام اليقظة
وقالت عِِشْ كما تشاء
وبالحرية التي تتمنى
فأنا لا أريد لك القيود
فقيدت نفسي بذكراها
****
حوّلتْ أيامي الى رقم مجهول
في معادلة ظالمة وتكهنت بالنتائج المرّة
متباهية بقراءتها لأسرار الغيب
جعلت من ذكرياتنا قميصاً داخلياً
ترتديه في الأيام الرطبة
مبللة ساعات اللقاء الحميمة
بعرق الضجر
ولتمنح القميص صياغات لغوية بليغة
خالية من الأخطاء النحوية
ضحكت من صبري عليها
وبين النحو الجاف ومعادلات الجبر الجغرافي
ضاعت نتائج الانتظار
فقد رحلتْ بقمصان أخرى أكثر دفئا وتركت للعذاب
مساحة
عذبة
وللعتاب الطويل
صمت مشبوه
*******
لازلت يا حبيبتي
ذاك المتسكع
في دروب النبيذ
أملأ رأسي بالأحلام
بين الخمري والذهبي
كعادتي يلفني الحزن لتقلب الفصول
ويحيط بقلبي ذاك الصمت المتثاقل
وكعادتي أيضاً أهيمُ بالمطر
وبذاك الوجه الذي احتضنته بيديّ
حينها
يتحول كل شيء إلى حبّات مطر
عندما تلوح أطيافك
وأتذكر تلك الخصلات
****
سحرٌ يبلل شعرها بالرذاذ
وجنةٌ مخمليةٌ قبلتْ عنقي
ولاذت بالنبيذ الأحمر
فأشرقتْ شمس شتاء حنون
كان الليلك سحراً يلوّن
جبال بلودان
فاكتملت صورة الأمل
عندما مسّدت بكفي حرير الكتفين
*****
كلما أتتني الحياة بكأس أو بجرعة
من أخضرها
اصفرّت سماء العشق بالخريف
فماذا لو توحّدت النايات
بالنشيج ؟
هل ثمة باب لم تدخله تلك الريح المجنونة ؟
صافقة وراءها أحلام الغريق
جاعلة من شجر الحب الأخضر ناراً
ودخان
لترسم للمستقبل آهات الماضي
وتقول أدركتني اللعنات
****
هناك حيث تستريح الريح من رحلتها
سأطأ بخدي الصخور
وسيكون آذانا آخر
لن أحظى بسماعه
*****
لطيبة أبو النور وتحمله الثقلاء من المعارف, الذين يحتاجون قلب أم, قصص وحكايات. كان يتحمل ازعاجات السكارى ومعارك السياسيين واعتداءات المقربين على حريته الشخصية كما كان يتحمل الضيوف الثقلاء الذين يتصرفون وكأن البيت بيتهم ونحن مفروضين عليهم ويتحمل الإفلاس وإلحاح صاحب البيت على الإيجار. ويتجاوز تلك المطالب اللجوجة بأن يغني ونحن في طريقنا إلى أحد المعارف لنستدين منه الآجار, مردداً (يالنومي يالنومي, راس الشهر) رغم إن شفتيه وهو يستدين تتحول إلى لون الخشب الجاف, كان أبو النور منسجماً مع الكون ومع نفسه ومع الناس وكأنه البوذا وهو في حالة (النيرفانا), محبّاً لكل ما في الكون من من كائنات بشراً كانت أو وحجر.
***
((بينما تتسع دائرة الحب بالحب وترتكز على الحديث القدسي " كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أعرف فخلقتُ الخلق". فيتلقف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الأندلسي, المعنى ويحط ّ الرحال في الشام ويبني منظومة عشقه الإلهي في وحدة الوجود في دائرة الحب الأسمى ليعلن "إن دين الحب ديني وإيماني" الحب الذي يشيّد أساساته بمقولة "ارحموا منْ في الأرض يرحمكم منْ في السماء". وإن المحبة هي سبب الخلق, أو ما يروى عن رسول المحبة السيد المسيح في مقولة بحق الأطفال الذين أصبحوا أهدافاً عسكرية سواء في تلعفر أو في قندهار يقول فيها " لا يدخل ملكوت الرب من لا يعرف أن يضحك كما يضحك الأطفال". بينما تتسع دائرة الحب بحب الخالق لخلقه, تضيق حلقة التكفير بأهل التكفير وترسم محيطها الجهنمي بالمتفجرات لتنتحر كأي عقرب حاصرتها النيران. نقرأ في التاريخ أن عالماُ مسلماً كان يضيق بالاعتدال ويميل بطبعه إلى التطرف - كما درجت التسمية في حاضرنا الدامي- وكان من أهل الشام, غادر الغوطة التي قال عنها خالد بن الوليد إنها "جنة الله على الأرض" إلى الصحراء وفضّل رفقة الرمال وعقاربها على ياسمين الشام وقرنفلها ونسيمها العليل, ومن يومها وهو لا يرى من الأمور إلا عسيرها فنقلها إلى تلامذته ومريديه ممن لا يطيقون صبراً على الاعتدال والتسامح ولا يرون في الدين إلا النواهي ولا يحفظون من الآيات إلا الزواجر ووصف الجحيم. ويغضّون البصر والفؤاد عن المبشرات بالخير والنعم الخالدات. يميلون إلى التنفير ويصعّرون خداً بحق التبشير أولئك الذين أخذوا من الدين قشرته دون لبابه ومن الإيمان شكله دون مضمونه. أولئك الذين يمثّلون المدّ الصحراوي, أعني تلك النظرة الأحادية للأمور وهو الزوايا الضيقة وهو اللون الواحد المتوحد والرافض لأي مسقط للضوء سوى أشعة الشمس الصحراوية اللاهبة. هو الناكر والمنكر لأية قوة خيرة في الكون سوى قوة قيمه وأعرافه الخاصة التي أجدبت من فرط الملل والتكرار والرسوخ البليد, الرافضة لكل جديد. التي توقفت عند حدود الرمال وما أن اخضوضر عشبٌ حتى وقفت مبهوتة أمام الفتنة وكأن الخالق الكريم المبدع لم يخلق النعيم على الأرض إلا للكافرين ونسوا " كلوا من طيبات ما رزقناكم". أتساءل هنا عن سورة الضحى وهل يقرأها التكفيريون داخل حلقة بؤسهم. هل يا ترى توقفوا أمام عباراتها وتدبروا تلك الصور الرائعة التي ترسمها بهذا القسم الذي يجعلنا نطيل النظر بمحتواه ونتخيل الضحى وأول الفجر وأول صوت مغرّد لطائر يشدو مع هبوب النسيم ثمّ يأخذنا بقَسمه الثاني إلى الليل وسكونه وهدأته ونجومه وقمره. ألا تتوسع دائرة الحب بهذه الصور التي ترسمها آيات هذه السورة؟ لا أظن إن هناك إنسان يقرأ هذه الآيات ويعيش هذه الصور ولا يتسع صدره لقبول الآخر. وإن اختلف معه في الفكر والمعتقد. لكن نفوس منْ يفضّلون صحراء الشدة والتشدد على الضحى والليل إذا سجى, ومنْ يرفضون نعم الله على عباده لابد أن يميلون إلى حلقة التكفير دون دائرة الحب وإلى السيف قبل الكلمة الطيبة. والسبب صعوبة الكلمة الطيبة على من تربى على الشدة, فيظن إنه باختياره للسيف قد أختار الطريق الصواب وتنكب جادة الحق واضعا نفسه في زاوية لا يمكنه الخلاص منها سوى بالسيف. وتضيق الحلقة أكثر فأكثر فيدمن الداخل في محيطها العبوس وكأنه وكيل حصري لنشر اليأس والبؤس والكآبة والإحباط. فهو لا يطيق من يعتني بهندامه وكأن حسن المظهر جريمة تستوجب القصاص فيسعى جاهداً أن يدمّر ملاعب الصبا وملتقيات المودة بين الناس زارعاً الرعب في قلوب الفتيان والفتيات وكأنه لا يطيق استمرار الحياة بعده. وإلا كيف يجرأ كائن آدمي على قصف مدارس للفتيات بالغازات السامّة. وأي جنة تنتظر مجرم ينحر عشرات الطلاب وينتحر ظناً منه إنه حارب أعداء الله. هل تضيق حلقة التكفير أكثر وتتجاوز حتى أعقد ما تفكر به العقول الإجرامية المريضة؟. بالتأكيد فالحلقة الجهنمية لا يمكن لها إلا أن تضيق لكي يتطاحن أخوة الأمس وأعداء اليوم بنفس الشعارات والتسميات التي كانوا يقذفون بها مخالفيهم. تضيق حلقة التكفير بأهلها فيوسعون قائمة الممنوع ويطيلوا المعاناة عليهم وعلى غيرهم في طريق الاستبداد والتحجر. وتتسع دائرة الحب وتبحث عن شركاء جدد لينظمّوا إلى قافلة الحرية. حرية الضمير والمعتقد والرأي والبحث عن فسحة للتلاقي بين البشر على أرضية المساواة والتكريم الذي خصّ به الخالق عباد الرحمن وليس عبيد الضلال الذين يفسدون في الأرض ويظنون أنهم يحسنون صنعاً عندما يضعون أنفسهم قيّمين على الناس إلى يوم يبعثون. في معادلة بمنتهى الغرابة نجد فيها التدخل السافر في ما يؤمن الآخرين واجب شرعي. بينما الآية التي تخاطب النبي تقول " إنما أنت بشير ونذير". ويكتفي الحق بالقول ولا يطالب أحداً بكشف حساب عما في ضميره "لست عليهم بمسيطر" و " إنك لا تهدي منْ أحببتْ والله يهدي منْ يشاء". ثمّ تضيق حلقة التكفير في محاولة للولوج إلى وجدان الناس فلا يكتفوا بالشكل الخارجي الذي يفرضوه على الآخرين. بل ينتهي الأمر بهم إلى فرض صورة نمطية تجعل الزي الأفغاني وكأنه واجب شرعي وليس فلكلورا يخص شعباً بعينه. ثم فرض إطالة الذقن مثالا آخر على مدى الزيف في توحيد الأشكال الخارجية وإطالة النظر في الأمور الثانوية التي لا تشكل في منظومة القيم الإنسانية شيئاً. ولكي تكتمل الحلقة الجهنمية يوصي فقهاء القتل برفض أي جديد تحت طائلة البدع والضلال فبينما يستخدم زعماءهم أرقى أنواع التكنولوجيا لتصنيع المتفجرات والرسائل الملغومة وتحويل الأموال والمتاجرة بالألماس في السوق السوداء لتمويل عملياتهم, يقوم صغارهم بتحطيم أجهزة التلفاز والحاسوب وصولا إلى تحطيم تماثيل بوذا الأثرية. بوذا الذي نادى من دائرة الحب قائلا: "يا هذا لا تقرع الناقوس لقد أفزعت الحمائم"))..
******
((البوذية :هل هي ديانة أم طريقة للحياة ؟ يقول البوذا: "لا أعرف شيئا عن أسرار الرب لكني أعرف أشياء عن بؤس البشر". بهذه الكلمات يلخّص البوذا غايته ويذهب مباشرة الى الهدف من البوذية. فمعرفة الكثير عن البؤس الذي يعيشه البشر. والطريق الحافل بالآلام والمرارة الذي يسلكونه, وبفيض التوق إلى الإشباع الذي يَسمُ النفس البشرية, أعني التوق الى إشباع الغرائز والاستمتاع باللذات التي لا تنتهي والتي ينطبق عليها ما تقوله الحكمة المتوارثة- إنما مثل الدنيا كالماء المالح كلما شربت منه ازددت عطشا – ثم الوصول الحتمي الى المعاناة التي تسببها حالة عدم الإشباع والظمأ الدائم بالإضافة الى آلام العجز والخوف والمرض وخشية الموت وكل أسباب الشعور بالتيه والفقدان والاغتراب.
كل ذلك كان يدعو البوذا الى التأمل من أجل الوصول الى الخلاص وتجاوز كل العقبات التي تعترض الطريق الى السعادة والكمال للوصول الى ما تسميه البوذية التنوير –النيرفانا-.
ثمة كتاب باللغة الانجليزية جلبه لي صديق من تايلند قمت بترجمته, وهو أحد ثلاثة كتب عن البوذية للكاتب الأميركي (جيرالد روسكو) الذي عاش في تايلند لردح من الزمن مؤمنا ومتأثرا بنمط بوذية تايلند المختلفة عن أنماط البوذية الأخرى المنتشرة في الهند وجنوب شرق آسيا والصين وغيرها. فهناك تفسيرات متعددة في البلدان المختلفة. درس جيرالد روسكو البوذية باعتبارها طريقة للحياة لا تشترط أي تنازل عن أي إيمان سابق أو عقيدة أو دين يؤمن به المرء, بل تؤكد على احترام كل الأديان,يقول البوذا-لا تزدري دينا لا تؤمن به-. تكتفي البوذية باستعداد المرء للالتزام بقواعد معينة لها علاقة بالتأمل والنظرة المحبة للحياة باعتبارها قيمة مقدسة. وممارسة الرياضة الروحية التي تهدف الى التركيز العقلي وتنمية الملكات التي ترقى بالإنسان فكريا وروحيا. وتدعو للتعامل المتسامح بين البشر والكائنات الأخرى والحفاظ على الحياة بكل أنماطها. إنها دعوة للحياة وسط هذا العنف المنتشر كالنار في الهشيم في زوايا العالم الأربع, وهي دعوة للعودة الى الذات وإعادة تربيتها لما يجلب لها السعادة والرضا وسط القلق وأمراض العصر المستشرية بشكل يدعو حقيقة الى إعادة النظر بأسلوب الحياة العصرية الذي يجلب مع تطوره العظيم وحسناته - التي لا يمكن لعاقل أن يتنكر لها- سيئات كبرى. كما يؤكد البوذا على أن الطريق إلى الكمال يمر عبر التربية والتجربة الشخصية وليس هناك من مستحيل أمام الإنسان, قائلاً: ( إن الكمال و القداسة من المهارات التي يمكن اكتسابها).
أخيرا تؤكد العقيدة البوذية على مجموعة من الأمور التي تأخذ طابع التعهد الشخصي, يفرضه المرء على نفسه ويلتزم به قائلا: سأسلك بنفسي و بجميع أعمالي وأفكاري طريق الاستقامة و الأخلاق. سأتعامل مع جميع الناس ومع جميع الكائنات ذوات الإحساس بالتفاهم و التعاطف و الرحمة والمحبة. سأمتنع عن الغضب, سأكف عن البخل سأربي و أرعى الهدوء الفكري. سأتأمل و سأكون مدركا وواعيا لجميع أفعالي وأفكاري وسأنبذ الغرور, سأقاوم جميع نزعات النفس. سوف لن أكون آسفا على الماضي أو قلقا من المستقبل. سأطور سماحة الخلق و الحلم و سوف لن أسمح لنفسي بالابتهاج و التهليل بالحظ الطيب أو اليأس و التشاؤم من الحظ السيئ. سوف أناضل و أسعى من أجل تحسين مهارتي و مقدرتي لكي أتبع الطريق إلى التنوير .فقد تعلمت بأن البوذية ليست جازمة ولا طقوسية ولا تميل الى التأمل الميتافيزيقي. كما أنها ليست ردة نحو النبؤة والخرافة وأقوال العرّافين. بل هي ديمقراطية بلا تحيّز أو تعصب أعمى, إنها العلاج, إنها طريقة للحياة. وتعلّمت أيضا إن البوذية ديانة عجيبة لا تؤمن بصلاة الى إله وتتجاهل السؤال القائل. هل هناك إله؟ .كما أنها لا تميل الى الطقوس الاحتفالية, لكنها بدلا عن ذلك تدعو المرء لأن يعتمد على نفسه ويجد الحقيقة داخلها.
(انظر داخل نفسك) هذا ما قاله البوذا)).
****

كانت النقاشات والحوارات بل وحتى الجدل العقيم من المفردات اليومية للعراقيين المغتربين. ومع صعود نجم الإسلاميين وتجربة إيران وثورتها, وتجربة العراقيين في إيران وانعكاسات تأسيس الأحزاب والحركات الإسلامية التي تبنت بشكل أو بآخر منهج "ولاية الفقيه" أو حكم الفقيه بصورة أدق, برزت ظاهرة جديدة في تلك الفترة وهي صراعات من نوع جديد واصطفافات تشكلت بدوافع منها الوطني ومنها الطائفي, كان سببها الرئيسي الحرب العراقية الإيرانية, ودخول النظام العراقي على الخط لتأجيج الخلافات في ساحة المعارضة فتحولت الصراعات الفكرية بجدلها ونقاشاتها إلى عداءات وتخوين كل طرف للطرف الآخر. وبدأت تتشكل محاور سياسية وثقافية لدعم وإسناد هذا الطرف أو ذاك. في الوقت نفسه وعلى الصعيد الفكري في العالم العربي برز نجم مفكرين عرب أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وحسين مروة ومهدي عامل وفراس السواح وكمال الصليبي. شهدت الساحة الفكرية حراكاً ونشاطاً ونقاشات موسعة وكانت حديث الجميع. فمن ينسى الجدل الواسع الذي أثاره كتاب (التوراة جاءت من جزيرة العرب) للصليبي أو كتاب فراس السواح (مغامرة العقل الأولى) أو كتاب (النزعات المادية) لحسين مروة. أو كتب أبو زيد والجابري التي تدعو لإعادة قراءة التاريخ والتراث العربي الإسلامي. في النهاية تحول اهتمامي بعيداً عما يجري في ساحة المعارضة. وغادرت (وجع الراس) نحو التاريخ والتراث ثم نحو الأساطير.
****
((لو ترك القطا لنام, كان هذا المثل يرد كثيرا على ألسنة مراجع الشيعة وعلماؤهم في النجف وقم منذ أن ذكره الشيخ الأنصاري صاحب كتاب (المكاسب) وهو من أهم كتب الفقه ومصدراً لا يستغني عنه الطالب في الحوزة العلمية. يراد بترداد هذا المثل معنى يفهمه الشيعة إبان زمن التقية ويعني أن ليس هناك من إمكانية لإقامة العدل إلا على يد الإمام المهدي المنتظر. وكانوا يرددون أيضا (خير الأعمال انتظار الفرج) الذي يأتي على يد الإمام المعصوم. والعصمة هنا ليست هي الملكة المانعة من الوقوع في الخطأ فحسب, بل يعرّفونها بالشكل التالي: العصمة هي لطف إلهي خصّ الله بها من اصطفاه من عباده. ومن هنا يدعّم التشكيك بكل محاولة لإقامة العدل قبل المهدي على أساس إن شرط المعصومية غير متوفر . لكن ولاية الفقيه, الأطروحة التي كتب لها النجاح في السيطرة على مقاليد الأمور في إيران قلبت الموازين السابقة وحوّلت أصحاب الحل والعقد (على المستوى الفقهي التشريعي) إلى جنود متطوعين لخدمتها. فكان التحول البراغماتي للكثير من مراجع الشيعة في النجف وقم وطلابهم نحو نهج ولاية الفقيه والإيمان بالإسلام السياسي بنسخته الشيعية المعدّلة التي فرّخت العديد من التنظيمات والحركات و الأحزاب, وإن كان هناك من الرموز الكبيرة التي بقيت على عهد الشيخ الأنصاري كالإمام أبو القاسم الخوئي الراحل وخلفه السيد السيستاني. الإسلام السياسي الشيعي في العراق الذي انتقل للسلطة بعد إسقاط نظام صدام على يد الولايات المتحدة تأثر بكل من ولاية الفقيه وكتابات المرجع محمد باقر الصدر في دعوته الشهيرة للعمل على إسقاط نظام صدام وإقامة حكم بديل. فقد أصدر فتوى كانت أحد أسباب إعدامه من قبل النظام, جاء فيها ( على كل مسلم في العراق وعلى كل عراقي خارج العراق أن يعمل ما بوسعه ولو كلفه ذلك حياته, على إدامة الجهاد والنضال من أجل إزاحة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وإقامة حكم فذ شريف يقوم على أساس الإسلام). وهكذا دخل الإسلام السياسي الشيعي في العراق معركة السلطة. وتفاصيل هذه المعركة معروفة لكل متابع للشأن العراقي. فقد تحّولت الحياة في العراق إلى مهرجان متواصل من الاحتفالات الدينية, المتضرر الأكبر فيها هو القطاع الخاص وصغار الكسبة والبائعين المتعيشين من أرباح سلعهم البسيطة يوما بيوم, وذلك بإحياء مناسبات وخلق أخرى ومدّ أيامها لتتواصل أيام بلياليها في موكب عاشورائي يهدف إلى ترسيخ السلطة بيد حفنة من الأحزاب والشخصيات, في توزيع لكعكة الغنائم على حساب العراق شعباً ومستقبلاً, وتطبيقا لما قاله الإمام الخميني في كلمة مشهورة تجدها بالخط العريض على أسيجة الأبنية الحكومية وجدران الجوامع والحسينيات في إيران وهي: ( كل ما لدينا جاء من عاشوراء) أي كل الخير التي أتت به السلطة هو بفضل عاشوراء وطقوسها. فقد ركزت أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة في العراق على إحياء المناسبات الدينية ووظفت واردات الدولة من أجل هذا الهدف وفتحت الباب على مصراعيه للغلو وإثارة التطرف باستعداء أطراف أخرى لا تقل عنها في الرغبة بإذكاء نار الفتنة الطائفية. فتّم إعادة إحياء ألقاب وتسميات قد دفنت منذ قرون, كالناصبية والرافضة والمرتدين وإلى آخر ما تفتق عن ذهنية الطائفية وزعماؤها. وبذلك فُتح الباب على مصراعيه لطلب كل طرف من أخوته في العقيدة -على امتداد عالم التعصب الذي بات يمتلك قنوات عديدة لدعمه أقلها شأنا القنوات الفضائية- مدّ يد العون بالعدة والعدد, وشبكات تجنيد المتطوعين لكلا الطرفين وخلايا نائمة وأخرى مستيقظة. فهل يمكن للإسلام السياسي بعد ذلك وبكل تياراته وتنظيماته الحزبية وبشقيه الشيعي والسني, أن يكون إلا طائفيا ؟ وهل يمكن لمن أصبح زعيما سياسيا بفضل طائفته أو طائفيته أن يكون صاحب مشروع وطني ديمقراطي ؟
ها نحن أمة تعيش على أمجاد الماضي بامتياز, دون الالتفات إلى أي محاولة لإعادة قراءة التراث العربي الإسلامي بل ولدينا اختلافات كبيرة في تعريف التراث. وكل منْ حاول بجهده الشخصي مقاربة هذا الموضوع اصطدم بجدران صلبة وأسوار عالية, تبدأ عند تعريف العصمة ولا تقف عند خلافة الإنسان على الأرض. قد يعترض البعض من الإسلاميين على الطائفية وينأون بأنفسهم عن وحولها ولكن هل لدى هؤلاء عملا ناجزا يبحث في أصل المشكلة وكيفية الخروج على نصوص ترسخت في الأذهان لفرط تكرارها؟ دون التورط في البحث عن أسبابها وملابساتها والظروف التي أوجدتها. بل وأصبحت هي سبب الصيد الوفير و( كل ما أمطرت به سماء الطائفية من خيرات وألقاب ونفوذ وسلطة على زعماء الطوائف وأمراء الحروب) فكيف يتخلى الطائفي عن طائفيته وهي من أوصلت خطاباته وسيرة حياته إلى الفضائيات بل وأصبح ينافس نجوم المسلسلات الرمضانية في الظهور واللقاء مع جمهور المعجبين. قد يحيلك آخرون لأسماء لامعة في الفكر السياسي الإسلامي من سيد قطب وحسن البنا إلى محمد باقر الصدر, ولكن سؤالي هنا هو هل كان لدى هؤلاء مشروعا يتجاوز الطائفية ؟ قد تجد شذرات من التسامح والدعوة للوحدة هنا وهناك في كتاباتهم تشبه إلى حد كبير ما نسمعه في مؤتمرات التقريب بين المذاهب والحوار الإسلامي- الإسلامي وإذا استعرنا مصطلحات من قاموس نصر حامد أبو زيد نقول إنها دعوات توفيقية تلفيقية تلوينية لأزمة فكر لا يستطيع أن يخرج رأسه من الزاوية التي حشر نفسه فيها. ويصر على مكابرته ويتاجر بأوهام وحدة الأمة الإسلامية التي تنخرها الطائفية والتزمت, وتمزقها الفتاوى المتناقضة التي تصل حد التكفير وإباحة سفك الدماء بين مشيخة وأخرى قد تكون من نفس الطائفة. إن منْ يرفع شعار "الإسلام هو الحل" يواجه بالسؤال التالي عن أي إسلام يتحدث؟ إسلام الرافضة أم إسلام الناصبية؟ إسلام الزرقاوي أم إسلام جيش المهدي؟ والمذابح التي جرت بالعراق وساهم فيها طرفي الإسلام السياسي وأذكتها أطراف إقليمية ودولية, كل حسب مصالحه وطموحاته وأهدافه هل تقنع أي عاقل بأن الإسلام هو الحل؟ الإسلام دين والإيمان بالدين قضية شخصية بمنتهى الخصوصية ما أن يتحول من كونه قضية شخصية إلى مؤسسة عبر الإسلام السياسي ورموزه, حتى يدخل مجبرا في حلبة الصراع. هذا الصراع الذي يباح فيه استعمال كل الأسلحة لإلغاء الآخر المختلف هو صراع قذر, وليس هناك من سلاح برداء أبيض وليس هناك من يد طاهرة تحمل سلاحا لا تلوثها قذارة هذا الصراع.
ثمة أبيات للشاعر محمد مهدي الجواهري يقول فيها:
وإن لي فيــــــما أفاخره أماًً ً وجدتُ على الإسلام لي وأبـا
لكن بي جنفٌ عن فهم فلســـفةٍ تقضي بأن البرايا قسّمت رتبا
وإن من حكمةٍ أن يجتني الرطبــا فردٌ بجهد ألوفٍ تعلك الكربـا

فهل ستبقى الألوف تعلك الكرب وتقتل بعضها بعضا بينما يستمتع الأفراد من حاملي راية الإسلام السياسي بالرطب ؟ )).

نهاية الجزء السادس
إعداد : ألف / خاص ألف /
يتبع ...

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

منْ يُخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ بقلم:

21-تشرين الثاني-2013

الحقائق ثوابت أم متغيرات؟

16-تشرين الثاني-2013

عندما يتحول اللونُ إلى إله "كهوف هايدراهوداهوس"

05-تشرين الثاني-2013

أخطاء إملائية

26-تشرين الأول-2013

هل أصبح الكذب ملح الحياة؟

15-تشرين الأول-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow