قلة هي الأفلام التي تأخذ لقب (فيلم الشعب ) والتي تحوز على ضجة فكرية وجدلية لدي الكثيرين والتي تستخدم الكاميرا كشيفرة خطابية تخلق التواصل بين مختلف شرائح الجمهور الاجتماعية والسياسية والدينية ، إضافة إلى مقدرتها على أطلاق صرختها الرمزية التي تترك في الأذهان والمسامع مسؤولية إدانة العنف واضعة ثقل الدم المهدور والتطرف عبئا في رقبة من يمارسه

هذا ما استطاع فيلم آلام المسيح (the passion of the christ ) للمثل والمخرج الأمريكي ميل جيبسون ، الذي خلع ثوب التمثيل ووقف خلف كاميرته ليعرض رؤيته الخاصة في فيلمه هذا ، رغبة منه بنقل عقيدته ورسالته الفكرية الى العالم ، حيث عمد إلى أنشاء شركة إنتاج للأفلام الدينية ووضع ميزانية خاصة من جيبه تجاوزت ال 250 مليون دولار واستشار كثيرا من رجال الدين للمضي في تصوير فيلم الام المسيح وايضا خلال كل مرحلة من مراحل تصويره ، حيث كان الفيلم أول فيلم ديني بتاريخ السينما فعلا ، وحقق إيرادات مادية عالية جدا وحظي بشهرة واسعة لدى عوام الجمهور والشعب .

يتناول الفيلم الذي استغرق عرضه أكثر من ساعتين وخمس دقائق الأحداث التي حصلت في الاثني عشرة ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح إلى اللحظة الأخيرة التي تصور صلبه وعذاباته وآلامه ، مستوحيا الفيلم من العهد الجديد ،حيث يصور هول الجريمة الفظيعة التي ارتكبها اليهود بكثير من الدموية والوحشية ،

صور الفيلم مشاهد قاسية جدا بدءا من طريقة الاعتقال التي لحقت بالسيد المسيح والسخرية منه والضرب والشتم انتقالا لطريقة ربطه بالشجرة وتصوير عملية الجلد والدماء وصولا إلى أكثر المشاهد قساوة وهو مشهد دق المسامير في يديه ورجليه ، حيث كان هذا المشهد كغيره ينتزع الصراخ والبكاء من عيون المشاهدين وضمائرهم ، وكان حجم التأثر لديهم كبيرا جدا أمام الإدانة الواضحة لهذه الجريمة النكراء وإدانة فاعليها .

إضافة الى أن الجملة الأخيرة التي وضعها المخرج في الفيلم وضعت وحملت دم المسيح في رقبة اليهود ، الأمر الذي أثار تحفظ الكثيرين، وجاءت ردود الأفعال أكبر من التوقعات ، حيث كان للفيلم تأثير فكري أكثر من كونه نقطة تحول دينية لدى الكثيرين .

لقي الفيلم ترحيبا كبيرا لدى البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس مضمونا وشكلا واعتبروه مكسبا لهم لأنه يحمل صيغية تبشيرية وإدانة واضحة لكل من ساهم في صلب المسيح ، أما اليهود رفضوا هذه التهمة الموجهة إليهم بشكل صريح وعلني واعتبروها ضربة قاسية توجه بحق نفوذهم ، حيث أصدروا وثيقة من الفاتيكان الكاثوليكي تبرؤهم من دم المسيح ،

تعرض هذا الفيلم لكثير من المناوشات والمشاحنات ، ولم يقتصر الأمر على الفيلم وحسب بل تجاوزه لينال صانعه ميل جيبسون ، الذي بدور ه أكد على ثبات موقفه وقناعاته الثابتة برفضه جريمة اليهود ضد السيد المسيح ، حيث استطاع وبكل جرأة وحرفية واقتدار توظيف كل العناصر المتاحة ليقدم للجمهور حالة من الإشباع الذهني والمعرفي والديني ، وخلق حالة تحريضية ضد الحركة الصهيونية التي بدأت تاريخيا دمويتها عبر صلب يسوع الناصري ،الأمر الذي جعل كل الاتهامات والضغوطات موجهة عليه من كل جنب وصوب، وذلك لمعاداته للسامية حيث اتهم بالعنصرية الفكرية الموجهة ضد اليهود ذاتهم .

طالت هذه الضغوطات الحياة المهنية والأسرية لجيبسون ، حيث توقف عن العمل لسنوات عديدة ، بسبب رفض اليهود صناع السينما العمل الى جانبه كممثل وكمخرج ، توقف مسلسله ولكنه عاد للعمل عودة متواضعة بفيلم اسمه حافة الظلام ، الا انه على الرغم من كل شيء قاوم هذه الاتهامات ، وأكد أن الاحتجاجات والادعاءات اليهودية ليست في محلها ، كون أن الام المسيح وعذاباته يتحملها اليهود في البداية وكل من ساهم من المسيحين المخطئين بعذاباته وصلبه .

وعلى الرغم من كل ذلك عرض الفيلم في دور السينما وحقق أرباحا تقدر ب 612 مليون دولار امريكي ، كان الفيلم ناطقا باللغة اللاتينية والآرامية الأمر الذي زاد من أهميته لأن الأرامية لغة السيد المسيح ،

رشح الفيلم لحوالي 33 جائزة سينمائية وفاز بسبع عشرة منها ، وشملت الترشيحات 3 من جوائز الاوسكار

وبذلك أدخل جيبسون قائمة المنبوذين وبقي فيلم (آلام المسيح ) الفيلم الديني الذي استطاع وبامتياز توضيح صورة الصراع العقائدي والايديولوجي الذي كان منذ الازل ، وذلك بما حمله من رمزيات على المستوى الروحي والمستوى الديني و السياسي ، فهو بالنهاية إدانة عامة للعنف بكل أشكاله ودعوة لمحاربته ووسائله والداعين إليه، ودعوة تبشيرية للسلام .