كان يقول لنفسه: "ما بعد العتمة إلا نور"، حيث يجتاز نفقاً مظلماً.
- لا. قالها وتوقف فجأة في مكانه.
- ما بعد العتمة إلا نور. أعادها مرة أخرى.
- أخشى أن يكون هذا الكلام الذي سمعناه طويلاً مجرد وهم أو ترهات كان يرددها الساسة والمتنفعون لحثنا على الرضوخ والمضي قدماً داخل العتمة دونما إرادة.
صرخ الرجل بأعلى صوته: لا... كفى.
كان لصدى "اللاء" شهاب طويل بطول الظلمة، انتفضت مخلوقات العتمة، اندست مذعورة إلى جحورها، التفت حوله مرتاباً ومرتعباً، لم يكن النفق قبيحاً كما توقعه. صحيح أن بيوت العناكب الواهنة كانت تغطي سقفه وجدرانه، إلا أن الألوان الزاهية كانت ما تزال بادية بشكل واضح؛ تيجان أباطرة روما، أساور ملوك إيران، صولجانات آلهة أثينا.. ظهرت جلية في جدرانه. لم يكن حلماً، تيقن من هذا، لأن أحلامه القليلة كانت عبارة عن ألعاب طفولية، بل جل ما كان يراه كوابيس، أزقة ضيقة، أصوات أرجل في ليالٍ شتوية، ضحكات جنونية أو فراغ، خلاء لا محدود تحرسه عيون سحرية، أفواه عطشة للموت.
خرج من النفق، نظر إلى السماء، لم يجد كما هو مألوف اللون اللازوردي، بل قبة يطغى عليها السواد. أين ذهبت الشمس؟ ولم ابتعدت كل هذا البعد؟ أهو فرار من مجهول! وضع باطن يده على جبينه ومسح عرقه، نظر إلى نفسه، كان يرتدي نفس الملابس التي رافقته منذ سنوات؛ البنطال الأسود بعيوبه الكثيرة، قميصه الأزرق وقبته التي اهترأت منذ سنوات، حذاءه الذي ما عاد يحتمل مسامير، مدينة ليست كباقي المدن، هادئة لا حس فيها ولا صوت. كان المنظر رهيباً يوم ليس كباقي الأيام، بقي في مكانه يتأمل الأبنية القريبة ببطء عسى أن يلمح ما يدل على حياة.
سار في شوارعها، أحس نبضات قلبها، عرفها، انتفض من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، ولكن أين هم البشر؟ هل مر من هنا وباء حمل معه البشر؟ أحس بالطمأنينة قليلاً حين لمح بعض الأشخاص من بعيد، ولكن هذه الفرحة لم تكتمل.
نساء شبه عاريات يتمايلن من لهيب ضربات، يصرخن بصوت من دون صدى، ورجال بظهور محنية تكسو أجسادهم أثمال بالية، ووجوههم عليها آثار جراح قديمة، ولكنه عرف أنها لم تندمل إلى الأن، وأن تحت الجلد قيح ودم يسيل.
حاول الحديث مع كل مَن مر بالقرب منه دون فائدة، تركهم ومضى إلى حيث لا يعلم، مر أمام مقبرة سمع فيها أصوات هيستيرية، تسمر في مكانه هلعاً، أمر غريب، كان يعلم أن لا صوت للمقابر، ولكن لماذا لا يهرب؟ لماذا لن يفر مما هو قادم؟ انتبه إلى أن جميع القبور مهجورة.
ظل يردد ويقول: أهي القيامة قامت؟ أهي القيامة قامت؟ أهي القيامة قامت؟
يرددها وهو يتحرك في مكانه بشكل هوسي، صرخ بأعلى صوته، نظر إلى السماء، الشمس لا تمضي إلى مغيب، إنما تبتعد إلى أعلى، النهار بدأ يكسوه الغمام، زهور آذار لبست دروعها واستعدت للقتال بسيف أخيل لتحرر بساتين العالم.
سيطر الظلام، لم يعد يرى شيئاً، حرك يديه أمامه بشكل جنوني ليتلمس طريقه، سار بخطى حذرة، لمح من بعيد شعاعاً غريباً اخترق العتمة والغمام أنار مساحات سوداء.
قضى الرجل مقطع الأوصال، شيء ما انفجر في المكان الذي ينام فيه، ليس مهماً أهو برميل متفجر أم قذيفة مدفع أم علبة شوكولاتة.. تناثرت مجموعة الأحلام الصغيرة تلك وتشتّت كما عاش مشتتاً خائفاً من كل شيء، خائفاً من شراء حذاء جديد أو ملابس جديدة، خائفاً من النظر إلى الأفق، لأن القانون يقول إما أن تنام عارياً أو تنام جائعاً.
ليس حلماً بل حقيقة!