صرخة الموت
خاص ألف
2013-09-01
حطّم جنود أرخيلاوس قناديل الحياة، أطفؤوا منارات الهدى، نزعوا كل أجراس الحدائق، كسّروا كل المطارق الخشبية، ربطوا العدل بسلاسل ذهبية، أخلوا سبيل الموت..
نوحٌ وبكاءٌ وعويل، تلحقها ضحكات ساخرة من أفواه ما فتئت تضحك لتزيد أسى المنكوب.. نيران ودخان وغبار في كل مكان، تحول النور إلى ظلام، فرت طيور السنونو من أصوات طرقات الدروع والسيوف، هاجرت من دون رجعة..
لا ربيع، لا خريف، لا شتاء.. صيفٌ طويل حارق لا ينتهي، جفت كل الينابيع، جفت كل السواقي.
سأل ح .ع سوباتروس القريب منه: أثمن الحياة غالٍ إلى هذه الدرجة؟
نظر سوباتروس إليه ومسح العرق الممزوج بالغبار والدخان عن وجهه، وقال: الحياة ما هي بخار يظهر ليختفي بعد لحظات، ولو كان لك رأي أو خيار ربما لرفضت الحياة، لكنك تفتح عينيك لتجد نفسك وراء الباب الذي يُغلق بعدها. ليس أمامك مخرج سوى الباب الوحيد الذي أمامك وانتظار الموت. وانتظار الموت!
ردد ح .ع الكلمات بتعجب. عيون جاحظة تتأمل المحرقة، قلوب هلعة تنتظر رحمة الجلاد، اصطكاك أسنان الأطفال ليس برداً بل حنيناً إلى أيام الشتاء.
حاول الكثير منهم الاختباء تحت تنانير وفساتين أمهاتهم وجدّاتهم عسى أن ينسوا بشاعة المكان داخل العتمة، حيث العمى في كل مكان، والولوج إلى بساتين الزقوم لالتهام ما فيها من ثمار، لربما استطاعوا اللحاق بالسنونو في هجرتهم الأخيرة، لكن ضحّت الأرض بنفسها لتطهر نفوس البشر، ابتلعت كل سمومهم من نياشين زائفة، عنجهية ما كانت سوى سراب، تقيأت حمماً وصهرت كل تلك الأوسمة الذهبية ليحرقوا مجدداً كل شيء.
فيزوف مازال ثائراَ، وبومبي كالعنقاء لا زالت تنبض بالحياة. لن ينتهي الصراع هنا. إنها جولة ستلحقها جولات وجولات. السيوف ما كانت تصدأ حتى تجدد، والسهام ما كانت تتوه حتى تعود اشتياقاً للقلوب.
سكت سوباتروس وأحنى برأسه. أرجل ثقيلة تطحن التراب لتشكل هالة من كراهية، تُضفي على ملامحهم أمارات الظلام، ضاع ميزان الحقيقة خلف أسوار الدخان، ساد اللامنطق على سطح لوح الشطرنج، هرب الفرسان تاركين الميدان للعبيد. عطش في كل مكان، شفاه غدت صوان، أفواه تتمنى قطرة ماء قبل أن تُذبح بسكين تعشق تمايل حور العين.
لمح ح.ع من بين الجموع فتاة صغيرة لها جديلة طويلة، ترتدي كنزة حمراء ممزقة أو بالأحرى قطع قماش جُمعت لتصبح كنزة خيطت بخيوط عريضة، تنورة لا لون لها، رُبطت من خصرها وشُدت حتى لا تسقط كورقة خريفية. كانت تنتظر أيلول لتحقق حلمها الكبير - كراسة وألوان جديدة - لتُجبر الرمال على إنجاب الخضار وحتى تزرع شجرة الحب على تلة قريتها التي هرمت، لترسم ألعابها ودماها على ورق.
حاول ح.ع أن يحبس دموعه دون فائدة. لا خجل اليوم، انتهى وتمزق كما تمزقت كنزة الفتاة الصغيرة، مات كما ماتت قبلها الرحمة، الشفقة وقبل هذا وذاك الحقيقة. بكى بصمت، نزلت الدموع على وجنتيه، شقت لطريقها مجراً وأزاحت ما أمامها من غبار. لا انتصار اليوم سوى للدموع، الجلاد ما ذاق يوماً طعم الدموع، لم يسق يوماً وردة، لم ير نوراً، شُكِّل على هيئة ثور هائج، حياته مرهونة للظلام.
اقترب سوباتروس من عجوز كان يضحك رغم الأسى، لم يمهل العجوز سوباتروس أن يفتح فمه، وقال: أعلم أنك أتيت لتقول لي لماذا تضحك وهنا ميدان الدموع. عشتُ وحيداً سنوات طويلة لا زوجة ولا أطفال ليحملوا عني ثِقل الشيخوخة. كثيراً ما كنت أتخيل أنني ميت والديدان تنهش لحمي. اليوم، لن أموت وحيداً كما عشت.
سحابة غبارٍ حملتها ريح شرقية، حاول الحب أن يقاوم جبروت الموت، أن يتوسل رفقاَ بالصغار. النسور السوداء ظلت تحوم في السماء منتشية برائحة العرق الممزوج بالخوف، لا تنافر، لا تناحر، فموسم الحنظل وافر لا ينتهي. أذرع تلوح للسماء، أطفال ودعوا الطفولة لاستقبال الموت، وأمهات يتوسلن ويتمنين الموت قبل الصغار.
وقف أرخيلاوس فوق تلة يراقب معركته الكبرى، مناجل تقطف أزهار الليلك، أرجل الفرسان تدعس عشب الربيع، لكن المرء لا يموت طعناً في الرداء، فالجذور غاصت في التراب.
رفع سوباتروس رأسه من بين الرؤوس المحنية لينظر إلى عيني الجلاد ويقول: أمهلني لحظة حتى أُّقبّل السيف.
سرت رجفة في جسد الجلاد وهو يضرب عنق سوباتروس .
Karzan Mirani
2013-10-05
اتمنى لك النجاح والتوفيق استاذ : عنتر فعلا انها مقالة رائعة جداً سلمت يداك
08-أيار-2021
20-شباط-2014 | |
30-كانون الثاني-2014 | |
16-كانون الثاني-2014 | |
06-كانون الثاني-2014 | |
28-تشرين الثاني-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |