برد آب
خاص ألف
2013-09-18
حرقوا ثيابهم وقدموها قرباناً للشتاء، نزعوا الستائر عن النوافذ بعد أن غزاه العث، وجوه شاحبة، أجساد هزيلة ملتفة حول مدفأة الخشب التي غدت كمطحنة قريتنا القديمة تطحن كل شيء، صمت غريب يغطي المكان بعد صخب هائل صم الآذان، لا صوت إلا النيران المشتعلة داخل المدفأة، زاد ضوء النار ملامحهم كآبة، تجاعيد وجوههم نحتها الخوف والحرمان لا السنين.
ترك النوم ديارهم خوفاً من أجيج النيران، انتباه دائم وترقب لهمس العناكب، كل البيوت باتت متشابهة حتى الوجوه تشابهت بفعل الظلم، عيون العذارى أعمتها رماد السجائر العفنة، سدوا منابع الدمع فيها، أحرقوا أحلامهن الصيفية في ابتسامة الخفاء، جعلوا النضارة تذبل والحنين يتبدد. مضى الشتاء وأتى الربيع جريحاً، زهور نيسان يبست قبل أن تفتح، دوالي العنب أجهضت، لم يتغير شيء في المكان، فلا يزال الصمت سيداً والدموع حبيسة.
خرج العجوز من بيته لتفقد قرية النمل القريبة، تبخر كل شيء، غادر النمل المكان، توجس العجوز شراً. ففي كل صيفٍ كان يجلس ساعات طويلة يراقب النملات وهن يعملن، انتفض من مكانه مذعوراً وكأنه رأى جنياً، غادر المكان مسرعاً عائداً إلى منزله من التراب الترابي الضيق. توقف عند شجرة الزيتون التي زادته خوفاً، عاد بذاكرته سنوات طويلة إلى أيام الطفولة، أدار عقارب الساعة سريعاً إلى عام 1950 حين كان في السابعة من عمره، كانت دائماً تتمايل مع نسمات الرياح كراقصة شرقية يهيجها الطبال وهي تتغنج كمراهقة تعد هفوات العشاق.
بدت كعجوز شمطاء يغطيها السواد، توخزها نسمات الربيع، تقيدها الوحدة لم تعد قبلة العشاق كما كانت.. آه.. أيتها الشجرة يبدو أن كلينا لم يعودا يتحملان المزيد، سرنا في الدرب طويلاً، سحقنا الزمن بحجر رحاه، أذاب الحلو وبقي المر في سفل الكأس، وتاهت ألوان البنفسج مع الأيام.
أتى هاديس حاملاً سمفونية الموت، رمى القيثارة بعيداً، فالآذان صمت، رمى المنجل، فالأطراف بُترت والرقاب حُزت. التقى أبولونيوس في منتصف الطريق وهو يغادر هارباً من الحقيقة تاركاً جنونها لاهثاً وراء ثوب الوهم عسى أن يجد السلام. نهر الحقيقة غدا ضحلاً في شهر آب، شفاه جنود ليونوس خلفت طحالباً وسموماً ولعابهم أفرز جراثيم نشرت الوباء في كل مكان.
قبل غروب الشمس، ظهرت في الأفق غيوم اصطبغت باللون الأحمر، هبت رياح زمهرير والناس عرايا، أغلقوا الأبواب والنوافذ أمام هذيان الرياح، تسلل الموت دون حس، هذه المرة تزين بأبهى حُلة مرتدياً ثياب العطار.
خرج هائماً على وجهه متحدياً جنون الحياة والموت غير عابئ بالغيوم التي تزداد احمراراً، وصل إلى حقل الزيتون ليراها تعرت، جلس وأسند ظهره إلى شجرة الزيتون القديمة، فسمع عويلاً ونواحاً لم يعلم إن كان المصدر الشجر أم الحجر أم البشر، شعر بارتجافة في أطرافه، وفي لحظة تذكر كل ما مر معه في حياته؛ سرقة عنقود العنب في إحدى ليالي الصيف، وعشقه الأول، ومحاولاته المتكررة في ملاحقة الجنيات أيام شبابه، ولحظات الحزن الكثيرة التي مر فيها. لقد أراد أن تكون النهاية هناك كما كانت البداية، همجية الزمن قلبت موازين الحضارة، أفرزت قيماً جديدة، فقد أعمى البُعد بصائرهم عن مآسي حلبة الصراع التي غاب عنها العدل، وعافى زبد البحر محيطه، وفضل بساتين المشمش والزيتون، برد الشمال عشق البيوت الهرمة والفودكا أحرقت جسد الصغار والعجائز، ليتقيؤوا كل عطفهم وشقتهم النتنة.
غادر هاديس تاركاً السمفونية فارغة ليدع الصمت سيداً كما كان.
08-أيار-2021
20-شباط-2014 | |
30-كانون الثاني-2014 | |
16-كانون الثاني-2014 | |
06-كانون الثاني-2014 | |
28-تشرين الثاني-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |