شجرة العائلة الفصل الثاني 2
ناديا خلوف
خاص ألف
2015-03-02
الخطوات تسير خلفي، ترصد حركاتي.
يزداد عددها، تقترب أكثر وأكثر.
من هؤلاء؟
أعداء لا أعرفهم، يبتكرون للعداء أسباب، يبيحون سفك دمي، ولا أعرف من هم، أشّم رائحتهم فقط.
لا تنظري خلفك. إلى الأمام.
يحاولون القبض عليّ.
رجل أحدهم تدوس على بعضي.
أركض، يركضون.
أتوقّف، يتوقفون.
عرفتهم من رائحتهم.
تربيّت مع الكلاب، ثمّ الذّئاب، أصبحت حاسّة الشّم عندي قويّة.
في مجتمع الكلاب. الحياة ليس فيها عناء.
زاد احترامي لهم يوم فداني أحدهم.
كلب أمي فداني عندما حاول أحدهم رفع ثوبي عنّي، أصابه في مقتل، دفنته، كتبت على قبره اسمه، أسميته شهيد الشّرف. انتزعوه في ليلة ظلماء من قبره، قالوا أنه نجس، ودفنه حرام. وضعت له علماً مكان الجثمان، علماً أبيض، كان مسالماً أجبروه على العضّ، وعلى الموت.
تعوّدت أن أطعم الديب كلّما جاع.
أدخلته إلى عالمي حيث نعيش معاً نحن والذئاب والكلاب.
لا أخافهم.
مخلوقات في منتهى الرّقة.
وفي مرّة رأيت الذّئب ينزف.
ما بك أيّها العزيز؟
جرحت بمخلب الإنسان
رأيت الكلب يضع يده على رأسه:
وأنا أصابني بحافره، بينما كنت أحاول أن أحميه.
. . .
-أشعر أنّ النّهاية اقتربت، في كلّ ليلة يأتي رسول إلي يطلب منّي أن أجهّز نفسي للرّحيل. خبأت بعض المال لأوقات الشّدة وضعته هنا في الحديقة، لا أحد يعرف به سوى أنا وأنت، أخرجيه. خبئيه عندك، لا تتصرفي به، ربما أصبت بمرض. انفقي عليّ منه، وإن رحلت هو لك.
- بعد عمر طويل يا سليم. لا أرغب بذلك. أخشى أن لا أستطيع مقاومة رنين المال.
- افعلي ما أقول. أخشى أن يفوتني الزّمن.
خبأت هنا الكثير من الأشياء.
كنت أحفظه في كلّ مرّة لا أستعمله مهما اضطررت.
خبّأته للحاجّة، أتت الحاجة، لم أصرف منه.
قاسيت الكثير، بقيت مصمّماً على الاحتفاظ بهذه الثّروة الصّغيرة.
وتلك الثياب هنا. اشتريتها من أجل مناسبة ما.
لم ألبسها إلا عندما قستها.
مضى العمر وهي في الخزانة.
كانت زوجتي تطلب مني ان أشتري لها طوقاً وإسواراً ذهبياً.
تحجّجت بضيق ذات اليد.
ماذا يجري لو كنت اشتريت لها، أو ذهبنا معاً في رحلة.
كنت خائفاّ من المستقبل.
رحل المستقبل، ولم أره.
. . .
نحتاج لمن نعترف له عن أمر مرّ بنا.
نحتاج لمن يقول لنا: كفى. الماضي مضى، ولن يعود،
ونحتاج لمن يلهمنا. نقلّده ويستقيم أمرنا.
لو فعلت كلّ هذه الأشياء ماذا سيجري لي؟
هنا تسكن المزابل، والقبور.
يقولون أنّها بلاد الحياة.
أنتظر الحلم
عندما أذهب إلى أمريكا وأقرأ ورقتي في الجامعة
أنحني أمام الرّئيس:
لا تُعِدني إلى هناك.
أعمل في غسل الصّحون إن شئت،
وفي تنظيف الشّوارع.
أختبئ في الليل، أمارس طقوسي بحرّية.
لا أخاف من الجوع.
. هاتفي يرنّ:
أهلاً زينب.
. . ,
أطرح فكرّة.
هجرة
إلى بلاد ليس فيها حمير.
أرهقني تحضير أكسير الحياة. صدّقت نفسي، تذوّقت طعمه. كيف يشربه النّاس؟
أرغب في عمل يطعمني الخبز دون أن أضطّر إلى التّسويق الخفيّ.
-ما رأيك يا شمسة في أن نهاجر معاً؟
-مرعب ما تقولين، وأين نترك أزواجنا، أولادنا، حياتنا، ذكرياتنا؟ الفكرة تراودني، عندما أذهب إلى أمريكا سأطلب من الرّئيس أن يبقيني علّ أمريكا تعجبني.
-تضعين أمام نفسك حلولاً وهميّة. لن تذهبي إلى أمريكا، وعلى فرض أنّك ذهبت، لماذا يحتفظون بك؟
يمكن أن يحتفظوا بابن الضّبع، هو يملك النّقود، ويعيدونك على أسرع وسيلة. كفّي عن أحلام اليقظة يا شمسة. فكرتي مختلفة. العديد من أبناء قريتنا هاجروا بقوا في الملاجئ سنوات طويلة، ثم تمكنّوا من الاستقرار. في الملجأ: تأكلين ، تشربين، تتعلّمين ما لم تتعلّمينه من الكذب، صديق زوجي له عشرة أعوام. تمكّن من المجيء منذ أيّام فقط، أولاده أصبحوا شباباً، جلب لهم بعض النّقود. زوجته رفضت الذّهاب معه دون أولادها، وأولادها فوق سنّ الرشد.
لو هاجرنا معاً يمكننا ابتكار قصّة أننا مهددين بالموت، ونلمّ شمل عائلاتنا.
ثمّ إن أمريكا ليست لنا، يوجد فيها حلم يحتاج لبذل الجهد والوقت. نذهب إلى دولة تمنحنا الطّعام والشّراب، ونبقى في بيوتنا لا نركض وراء لقمة العيش، نترك أولادنا لهم، ويتعهدون بتربيتهم.
-أنت مثلي يا زينب تمارسين أحلام اليقظة. دعينا نفكّر في يومنا. لا مكان لنا في هذا العالم. علينا أن نملك ثروة لا تنضب حتى نمارس حياتنا، ولو فعلاً حدث ما نتمنّاه سنعيش الفقر، لأنّنا سنعمل في أماكن ، وشركات هؤلاء الذين يفتح لهم المهجر ذراعيه من أجل المال، ونندم على السّاعة التي وصلنا بها. نكون عبيداً مرّة أخرى عند أبناء" الوطن" الذين يستعبدوننا الأن.
. . .
الطريق مغلق أمامنا.
لو كان لديّ زوج يضمّني إليه لما شعرت بوحشة الحياة.
أحياناً أشعر أن يدي تلفظ يده، والتّيار لدّي معاكس.
أحاول تبسيط الأمر، أعطيه العذر
وأخشى عليه منّي
كلما سألت نفسي: لماذا لا يجيد الأزواج لغة الدفء؟ عندما أرى ماذا تفعل ذكور الكلاب، والعجول أرى أنني أشبه بقرة المحروسة عشيقته- أعني زوجي، وصاحبة البقرة-
امرأة أكلّها الفقر، بقرتها في نظرها تساوي أكثر من البشر.
يجيد مروان الغزل مع البقرة من أجل صاحبتها ،سمعته يقول: بقرة ذكيّة لو كان لديّ امرأة مثل صاحبتها لدخلت الجنّة، وفي ذلك اليوم جلب لنا الكثير من الحليب.
يحدّث البقرة كما يحدّث ابنة جارتنا بكلّ ودّ.
يأتي إلى المنزل وهو يحمل سطل الحليب، يعتزّ بيومه. استطاع من خلال جهده تحصيل بعض الغذاء. ليس أصعب على الرّجل من أن لا يستطيع إقناع زوجته بأنّه قادر على فعل كلّ الأشياء التي ترغب بها، الأمر ليس صعباً عل الرّجل بل هو من أسهل الأمور، لكنّ ظنّ المرأة به يعطيه هذا التّوصيف.
. . .
أرغب في النّوم ولا أستطيع. يأخذني على حين غرّه مثل هبّة نسيم، لا أدري متى أنام ومتى أستيقظ.
من فضلك يا شمسه. أغلقي النّور قبل أن تذهبي.
أخجل أن أقول أمراً آخر.
قل يا سليم. ماذا تريد؟
هناك فوق الخزانة ملاءة قديمة، احتفظت بها بعد موت أمّي. كانت تصنّع تلك الأشياء من الثّياب القديمة، وعندما رحلت لم يكن لديها شيء نرثه. أتيت بملاءتي.
-هل تقصد هذه؟
أصبحوا يصنّعون أقمشة تشبهها.
إليك الملاءة. ماذا تريد أن أعمل بها؟
-لفيّني بها كأنّني طفل رضيع. عندما يكبّل أحد يديّ . أستسلم للنّوم.
اجلبي ذلك الحبل. تعاملي معي كما كنت تتعاملين مع طفلك الرضيع.
وبعد أن تحكمي وثاقي.
أطفئي النور، واقفلي الباب، ولا تنسي أن تأتي في الصّباح كي تعيدي كلّ شيء كما كان.
-أضع الهاتف على رقمي. إن أردت شيئاً فقط اضغط على الرّقم.
-هل يمكن أت تقرئين لي قصّة قبل النّوم.
في خزانتي قصّة أقرأها أحياناً . اجلبيها.
"لماذا تكرّر حياتك"
العنوان غريب.
كتب هذه القصّة شابّ اسمه " غريب" قبل أن يقتل نفسه بعام واحد. لم ينشر القصّة. كتبها على عدّة نسخ. أعطاني نسخة منها.
-تبدو مثيرة.
الإهداء:
إلى من تضيق عليه الدّنيا ، يفكّر في الموت.
إلى الذين يعودون إلى بيوت يلفّها الصّقيع، يحاولون أن يغيّروا الحياة، يلفظهم أقرب النّاس لهم، تتكرّر لديهم قصّة الحزن، ولا يستطيعون خلق شيء.
الفصل الأوّل
قد لا أنهي ما أكتبه. قرّرت الموت، لا أعرف طريقاً إليه، قد لا أقدم عليه، وقد أموت في الغد.
بحثت عن عائلة تتفهّم ألمي. عن حبّ يمسك بيدي، عن عمل أهرب إليه من نفسي، لا شيء. الحياة تعني بالنّسبة لي لا شيء. أكرّرها كلّ يوم .
أساوي لا شيء في هذا العالم.
ولا شيء في ميزان نفسي.
أصابني هذا الكلام بالغمّ يا سليم.
أوه لقد نام. آخذ ذلك الدّفتر معي ، أفكاره تشبه أفكاري. أحاول أن أستفيد منها في ورقة البحث.
أبكي عليك أيّها الغريب. كأنّك كتبت جزءاً من حكايتي، وعشت على نبضات روحي.
كيف يقولون أنّ الأجيال السّابقة كانت سعيدة؟
عندما يختارونك لتمثيل دور المجنون، عليك أن تقبل، أو تغادر المكان، وربما هكذا هي الحياة. هذا ما حدث. العالم يكرّر نفسه، وليس الغريب وحده يكرّر ذاته.
إنّني مثلك أيّها الغريب. فكرت في مرّات كثيرة أن أفعل ما فعلت، خفت من الألم. خفت على من هم حولي، مع أنّني لم أشعر بخوفهم علي. شعرت أنّهم يريدون الخلاص منّي بطريقة مشرّفة لهم، ولو كان الموت بحادث سير.
هذه المرّة الثّالثة التي أعيد فيها قراءة ما كتب الغريب.
.. .
الغريب يستحقّ أن أبدأ فيه ورقة البحث التي ستفتح لي طريق الحلم الأمريكي.
أكتب عنه بضعة سطور:
عد أيّها الغريب إلى الحياة!
نتبادل معاً أطراف الحديث حول الجريمة:
البارحة رأيت جثّة تتكوّم أمامي. لم أنقذ صاحبها، كنت أستطيع، خفت أن أتّهم بالجريمة. رأيت المجرم، أعرفه هو من حرّاس الضبع، لكنّني أغمضت عينيّ كي لا أتأثر بالقصة، ويبدأ هاجس الضمير يلاحقني، فقد قتل أحدهم بالسّيف لآنّ هاجس الضمير اعتراه، حكم عليه قاض، وقف على الحكم شهود عدل.
من أين أتى سليم بهذه القصّة.
لو كان الغريب يملك المال لم يمت
هو سرّ يعيش فينا.
يمكننا ضمّه إلى قائمة الرّسل المصلوبين.
وجعل كتابه سفراً من أسفار الدّين.
.. .
لا تسمع، لا ترى، ولا تبتسم.
لدى زينب أفكار غريبة.
يوم أمس ذهبنا معاً في رحلة تسويقيّة إلى إمارة صغيرة أهداها الضّبع لابنه.
ذكّرتها بحديث جرى بيننا.
ضحكتْ: لا أتذكّر شيئاً من الأحاديث، عندما يتحدثون إلي يكون ذهني مشغول، يبدو أنّك تحدّثت معي في تلك اللحظة، إنّني مخلوقة بأذنين من طين.
في جميع الأحوال عليك أن لا تسمعي صوت أحد، الأصوات متشابهة، وكذلك الأفكار، وباعتبار أنّنا بشر، فلو سمعت، أو نظرت إلى أحدهم، وربما حتى لو ابتسمت سيعتقد نفسه فريد عصره، ويبدأ معك لعبة النّفخ.
لذا اعتمدت شعاري هذا، وبذلك وفرّت على نفسي نصائح النّاجحين، فأنا بطبعي أكنّ عدم الاحترام لأغلب البشر، ومجال اهتمامي هو حظيرتي، وحميري. أنصت لهم جيداً. يلفتون نظري، ويرغمونني على احترامهم.
. . .
أفكار زينب، ورواية الغريب يمكنني أن أستعملها عند تّقديم ورقتي.
أقف أمام المنّصة، ولا أنظر في العيون كما يفعل المحاضرون المبدعون:
لا تسألوا عن شيء، فأنا لا أسمع، ولا أرى ولا أبتسم
تصفيق
أنحني للجمهور.
ما أغباني! أقدّم ورقة بحث، وليس مسرحيّة، لا أحد يصفق إلا في النهاية ربما.
ليس في الأمر مشكلة.
جئت من بلادي على ظهر سفينة من خيال، يرافقني حمير صديقتي، آمنت بحكمتهم. يكفي أن زينب قالت هذا.
أيها المجتمعون هنا: من أنتم؟
هل تعرفون كيف يموت الغرباء؟
جلبت معي رواية أقرأها لكم. مكتوب فيها بضع كلمات. كتبها نبيّ قتل نفسه لا أحبّ الأدب. ولا أعرف لماذا أتيت.
أعيدوني إلى الوطن كي أصيح من فوق مزابله، وأنحني أمام السّياف.
أيها المغادرون إلى وطني ليتني أرحل معكم.
أفتقد كلّ الأشياء: المقبرة، والخبز ، وينابيع الدّم .
حنين. حنين، وقلبي يأكله الزّمان، أعيش بلا قلب.
-لماذا تنوحين يا زوجتي؟
- من؟ مروان؟
الحمد لله أنّك أتيت.
كنت متأكّدة أنّك لن تتركني في غربتي وحيدة.
-عن ماذا تتحدّثين؟
يبدو أنّ في الأمر سرّ، وأنا لست في أمريكا.
عزيزي. أعطني ذلك الحذاء.
أضربني به على رأسي لو سمحت.
-هل جننت؟
أعطني إيّاه. ما دمت لم تعد ترغب في ضربي يمكنني فعل ذلك.
لا أرغب بالعيش معك يا مروان
ولا مع غيرك، لم أعد أرغب بالحياة.
. . .
البارحة أرسلت خاطرة لصحيفة محليّة أعلنت عن جائزة.
أتاني الرّد: لا تصلح للنّشر
قرأتها مرّات عديدة: جميلة تستحقّ الجائزة
فاز بالجائزة خميس بن جاسر عبد الله الجاسر العليان المحمدي الحسيني مناصفة مع طبنجة بنت محمود الحنبلي الهاشمي
هي قصيدة مشتركة. يقول فيها الشّاعر
أنا عنترة، وهذا السيف بيدي
وتقول: أنا عبلة يا سيدي.
لم يكن عنترة سيداً، ولكن طبنجة قبلت ان تقول له سيدي، وسينسى التّاريخ عبلة، ويسجل لطبنجة أسطورة جديدة، كل شيء في الحياة يجري هكذا.
. . .
أرغب في النّوم عندما ينام البشر
وفي المجون عندما تتوق نفسي.
في النّدب، أجدّته منذ هزت أمي سريري بيدها اليمنى.
أرغب في الحبّ مع حيوان مفترس يعلّمني طريق البداية، والنهاية .
وأرغب أن أدبّ على أربع. أغادر الدّيار، وأسهر مع غول من الحكايات.
كل هذه الأشياء تهون عليّ. فقط لا تقل كلمة وطن.
عندما أسمع تلك الكلمة أتذكر قصّة ذهب مع الرّيح، وأبكي على البطل.
مذعورة من الأفكار.
لا أعرف كيف أنهي الليل، ولا كيف أبدأ النّهار