شجرة العائلة الفصل الرابع 2
خاص ألف
2015-04-23
2
نسير على عجلة من أمرنا، كمن يسعى إلى هدف منشود، ولا نعرف بأنّنا نسير على غير هدى، أو نراوح في المكان، أو ربما هو حلم يقظة ليس إلا.
نأمل الكثير، نحصل على القليل، نظنّ أنّ الزمن لم يحن بعد، بينما الزمن تجاوزنا، أصبحنا خلفه، ولا نستطيع اللحاق به.
لا نبحث عن السّعادة بل عن كفاف العيش. نبيع ونشتري من الحياة ما تسمح لنا به الظروف. البعض يبيع جسده، والآخر فكره، أو نستكين قرب طريق نمدّ يدنا إلى المارّة. بعضهم يركلنا، والبعض يصيبنا بسهم من السّخرية.
في رحلة الحياة تعلّمت شيئاً واحداً: أن الحياة تحتاج لمن يغالبها فيغلبها، وعندما يودّعها تنحني إجلالاً له.
-لم أفهم ما قلت يا شمسة ، لكنّني أشعر أنّه كلام يخترق روحي. هل يمكنك تفسير ما قلتِ؟
-لا يحتاج الكلام إلى تفسير . أشعر أنّ عليّ أن أعيد التّفكير في القيم التي أحملها. لقد حملت أفكاراً جامدة تحتاج إلى تجديد، مفهوم القيم عندي مغلوط، ومفهوم الحياة لم أتعلّمه.
كنت مع عبير في مكتبها، جرى حديث ودّي بيننا. قلت لها كيف أنظر لها أجابت بهدوء شديد:
-كان هذا في الماضي يا عزيزتي، محوت الماضي، وهؤلاء الذين دفعوا لي ثمن لحظات أعطيتهم إياها حذفتهم من حياتي. إنّني اليوم عبير صاحبة النّفوذ والجّاه، يسعون إليّ ليس من أجل تلك الأمور ، بل من أجل شراء المصلحة.
-هل تعتبرين ذلك جيداً يا عبير؟ لا أستطيع أن أكون مثلك. حاولت أن أتغيّر ولم أستطع.
-ولا أنا أستطيع أن أكون مثلك. واقعي غير واقعك.
أنت لا تعرفين عنّي شيئاً يا شمسة، تعتقدين أنّني سيئة ، لست مضطرة لأشرح لك، كنت مثلك متمسكّة بقناعاتي، وحتى عندما أبيع جسدي، اعتقدت أن قيمي عاليّة جداً.
لو فتحت قلبي لرأيت امرأة أخرى. تسألين لماذا تخلّيت عن زوجي؟
لم أتخلّ عنه. البارحة قدّمت له هدّية بمناسبة زواجه الثّاني.
هو من تخلى عنّي بطريقة صامتة، واكتفى بأخذ كل ما أربحه من عملي.
-وما هو عملك؟
-ألا ترين أن سؤالك بغير مكانه؟
أبوح لك كي تتعاطفي معي، وأيّاً كان عملي كنت لا أستفيد منه، وعندما رأيت نفسي مغفّلة استيقظت، ولم أعد أعطيه النّقود، فأصبحت لا أراه إلا نادراً. لن تتعاطفي معي، من حقّي أن أعيش، ولن أتمكن من الوصول إلى مبتغاي إلا إذا كنت على ذمة رجل.
لا أعمل بالسّياسة يا شمسة . أعمل على نفسي، استطعت تغيير لقبي، وغداً سأفتتح مدرسة باسمي، ستكون مدرسة عبير، وسيكون للفقراء نصيب مجاني، وبخاصة الفتيات.
أتمنى لو كنت أستطيع أن أستفسر منها أكثر. أرغب أن أضرب رأسي، صدّقتها في كلّ ما قالت. تريد أن تبكي، وأنا التي كنت أحسدها .
. . .
أخاف، يسكنني الخوف، خائف.
شريط الذكريات يمرّ سريعاً، وملك الموت أمامي.
الكثير من الملوك أخافوني أكثر منك. لماذا تهدّدني بين الحين والآخر؟
ما أسهل أن تقبض على روحي!
لا أحتمل الانتظار حتى المرّة المقبلة.
-لا زلت متدرّباً، لا يحقّ لي أن أقبض على روحك، فقط أتعلّم طريقة القبض الآن، وكيف سيكون ذلك القبض؟ حرقاً ، أم ذبحاً أم بطريقة أخرى .
- عد إلى ربّك، دعه يرسل ملك الموت الأصلي، لا أرغب بنسخة مزوّرة.
-الأصليّ مسجون عند ساحرة شرّيرة، استطاع أحدهم أن يوقع به وأزاحه عن الطريق. اختار الله من بيننا آلافاً، نتدرّب الآن، رفاقي يخالفون التعليمات، يفوضون أنفسهم بقبض الرّوح، أمّا أنا فلا أسمح لنفسي. أنا على قدر من الأخلاق.
لحظة من فضلك!
أين سجادة صلاتك؟
لو أقوم الليل، أستخير الله في الطريقة التي أقبض فيها على روحك حتى لا يحسب أنّني رسبت في الامتحان.
هل تعلم أن هناك ملك متدرّب خالف تعليمات الله فرفّعه إلى منصب ما فوق " ملك"؟
-أنت تمزح. كيف تمّ ذلك؟
-ببساطة .اشترى المخبرين!
آسف.
أتتني الأوامر أن أرحل.
. . .
ما بك يا سليم ؟
هل كان كابوساً، كنت أسمع صوت حشرجة، أوقظك، ولا تستيقظ.
-كنت مع ملك الموت.
-وكيف بقيت حيّاً؟
-يتدرّبون، ويدربونني.
أصبحت مستعداً لتلك اللحظة، حساباتي في الدنيا بدت لي صغيرة، كانت من أجل تلك اللحظة. أوصيك يا شمسة أن لا تصرفي ذلك الكنز على بناء قبر. دعيه لك
- ضميري لا يسمح لي أن تخرج دون جنازة لا ئقة.
-ولماذا؟
هل سأعود إلى الحياة؟
كوني ذكية في هذه المرة، وامنحي زينب ربع المال، لطالما ساعدتك.
. . .
أفتقد الكثير من الأشياء، أستبدل الأسماء، وأبقى مستمرّة في الرّكض وراء رغيف.
أصبحت شمسة ملهمتي. لا أستطيع إنجاز الأمور من دونها.
ها هي قادمة.
إلى أين سنذهب الآن؟
-إلى الطاحونة الحمراء. أقرأ الطالع لصاحب المعالي، لم يعد لديّ حمار، ولا كلب.
جلبت بعض القواقع معي.
عندما طلبني بكيت، وضحكت. لماذا يقرأ صاحب المعالي طالعه؟
-كيف عرف أن زينب تقرأ الطّالع؟
- لا يعرف زينب. اسمي في عملي الجديد "ما وراء" باحثة في الباراسيكولوجي
يمكنني إرسال التعليمات إلى الأذهان عبر الموجات الكهرومغناطيسية إلى شخص ما . آمره بعمل ما.
-هل يمكنك فعلاً أن تقومي بذلك العمل؟
-لن أجيب على سؤالك. أرغب ببعض المال كي أغادر.
لم يعد المكان يعني لي كالسّابق.
أراه باهتاً بارداً، لا يتّسع لأحلامي، كلما وصلت إلى مكان أرى فيه نفسي. ينغّص أحدهم عيشي. سأرحل بسرعة عن المكان فليس فيه من المغريات ما يطمئن نفسي.
-وعائلتك؟
-أصبح أولادي كباراً، وزوجي مصاب بمرض النوم والنّسيان. يمكن للجميع الاستغناء عني، مع هذا سيكونون جزءاً من حياتي، ولن أدعهم يخوضون مغامرة غير محسوبة.
جئت أودّعك، أودّع سليم أيضاً.
قد أرحل غداً إلى بقعة بعيدة من الأرض. أبدأ من جديد، أشيّد قصراً، يتّسع لبعض الأمنيات التي أفكّر أن أحقّقها.
-لماذا تبكين؟
توقفي أرجوك. مادام لديك أمنيات قابلة للتّحقيق ارحلي، سأبقى وحيدة في غيابك. لم يعد سليم كما عهدته. أصبح يشعر بالخوف. تأتيه نوبات ذعر، ويطلب مني أن أثبّته في سريره بواسطة حبل كي لا ينهض في الليل عندما يريد الهرب من ملك الموت.
. . .
أراها تبتسم لي. الآن أدركت أنها أفضل نساء الأرض، كم تشبه العذراء، قبلت بي على الرّغم من نقصي. كل ما تبجحت به من الفحولة كان تعويضاً عن النّقص، أو عن العجز. كان من حقها أن ترحل لأسباب شرعيّة، ففي كلّ الشّرائع يجوز للمرأة الطّلاق لهذه الأسباب، لم نختلف على هذا الأمر. اختلفنا على إدارة الحياة. كان لسانها سليطاً، وكانت ردود فعلي باهتة. رغبت أن أجعلها تندم على كلّ حياتها. انتقمت منها لأنني لم أكن رجلاً بما يكفي. سامحتني، وتضحك لي الآن.
-سليم. ما بك؟
هل عاودك الكابوس؟
-كابوس جميل. ليت اللحظة تستمرّ. تمسك يدي. تقودني. لن أخالف رغباتها بعد اليوم.
-سليم. سليم.
تخشب جسده، وأصبح كالثّلج.
ماذا سأفعل؟
سليم. قم للحظة. قل لي ماذا أفعل. لم أتدرّب على ذلك.
أرسل خلف زينب.
بعدها أتصرف.
أنظف المكان، وأقطف وروداً أضعها قرب رأسه. أغطيه بتلك الملاءة التي ورثها، وأحبّها.
. . .
اعذرني يا سليم. لم أكن على مستوى اهتمامك بي.
سامحني.
ليسامحني ذلك العالم الظّالم الذي أعطاني من قسوته
.أسمع صوت نحيب.
يبدو أن زينب وصلت.
ما بكِ يا زينب؟
كفّي عن البكاء. كان سليم رجلاً عجوزاً أخذ نصيبه من الدنيا.
-هل كان هذا نصيبه؟
ولماذا كان نصيبه ذلك القدر من الوحشة؟
أبكي عليكِ يا شمسة، مصيرك هكذا. الموت غريبة عن كل ماضيك، أبكي عليّ، وعلى سليم، على كلّ المخلوقات التي تسير قرب التّهميش، ولا نراها.
كان سليم ميتاً عندما ولدته أمّه، لا يعرف أين يضع مشاعره. خبّأها، أفرج عن قسم منها لك، ورحل الباقي معه.
كيف يمكننا أن نفرج عن مخزون حزننا، وآمالنا الكبيرة، وإحباطنا؟
حبسنا كلماتنا، غربناها في منفى الرّوح نتنفّس الشّجن، نتصنّع الابتسام.
سليم. عد لحظة إلى الحياة، أرغب أن أحضنك. وتموت بين ذراعي.
عرفتك قليلاً، امتلأت أحمالي بهمومك، هي هموم أحملها فوق ظهري، تجعلني أنحني. سأصرخ يا شمسة!
في داخلي صرخات خبأتها كي أنادي بها على المحرومين.
ابكوا على سليم.
ماذا نفعل الآن يا زينب؟
لا أعرف كيف أتصرف وقت الموت، لكن علينا أن نحضّر لدفنه.
نحتاج لرجل.
سنستعين بمروان.
. . .
ثروة سليم لم تكف سوى ثمن قبر.
لو متّ لا تدفنونني في قبر له ثمن.
بقي معي القليل من ثروته.
-نعم يا شمسة، حتى مروان ربح من موضوع الدّفن. قلت له أنّني أنا من يدفع، ولو عرف أن معك " ثروة سليم" لكانت التكاليف تفوقها.
أتدرين أنّني دائمة البكاء، هو عندي فرض يشبه العبادة أقوم به قبل كلّ عمل، وهو شرط لنجاح عملي. حيث تغسلني الدّموع.
عندما أبكي أسخر من نفسي، لا شيء يستحق البكاء. بكيت في العيد لأنني لم أكن أملك حذاء، وكانت صديقتي في المدرسة قد اشترى لها والدها ثوباً بلون الزهر، سرّحت أمّها شعرها ، وضعت لها في ضفائرها شرائط ملوّنة، كانت تشبه الأزهار، عندما رأيتها اختبأت في مكان لا يراني به أحد كي لا أرافقها، هربت إلى شجرة بعيدة في البستان، وجلست تحتها ألعب بالحجارة، وأبكي، وقربي كلب صغير يموء كالقطط.
هل تسخر مني أيّها الجرو؟
قل لي كيف يموتون؟
لم أنس ثوب العيد. كبرت وكبر عقلي، أصبحت أفكّر بثوب الزفاف، ولم يكن لي ثوب زفاف. لا يهم. سيأتي حبيبي يضمّني بين يديه، ويركض بي كالأفلام. لكنه نسي نفسه في تلك الليلة ولم يأت.
أبكي يا شمسة معي. ابكي على سليم. على ثوب العيد، وعلى ليلة زفافي. أضيفي لي ما شئت من ألحان النّدب والبكاء. تعالي ندّق على صدورنا، نشق ثيابنا، ونلطم خدودنا علّ الألم ينقذنا من الجنون
. ..
تدور أحاديثنا حول الألم. حول البكاء والشّجن. كأنّ لحظات الوداع تداهمنا.
في يوم مضى من تاريخ مجهول. رغبت أن أتمتّع بطفولة ابني، أداعبه، يكبر أمامي مثل شتلة في بستان، حضّرت له الكثير من الأحلام، ولم ألحق به. كبر في غمضة عين، عندما كان يكبر كنت أسير على درب الآلام ، اعتقدت أنّه متوّقف أمام باب المدرسّة، وسأذهب أمسك بيده، ونقفز فرحاً معاً، ركضت لأحضنه لم أجده.
أصبح ابني شاباً في غفلة منّي، ولا زلت آمل أن ألقاه.
لو تدرين يا زينب كم في قلبي من الآهات. أرغب أن أبكيها عندما كان سليم مسجى أمامنا.
يمكننا البكاء على ذكراه.
تعالي نغني عن الألم، ننوح، نركض خلف بعضنا. نصرخ: آه من الأيام.
-امسحي دمعك يا شمسة. للموت حرمتة، علينا أن نقف أمام ذكرى سليم، نطرق رؤوسنا احتراماً للذكرى.
أعيدي دمعك، نحتاجه في مناسبة أخرى.
. . .
في انتظاري مجهول، استيقظ مبكّراً معي.
لا شيء في ذهني.
تبدو خطواتي مرسومة بدّقة. شمسة. المغارة. الخبز. الماء.
نسيت أغلب كلمات لغتي، بقي في داخلي بعض المفردات.
الوقت لن يرحمني. عليّ الإسراع.
من أجل ماذا أسرع؟
كنت راكضة أو مهرولة على الدّوام.
أسرع للقاء شمسة.
-ليس لدي وقت كثير يا شمسة. دقائق فقط أودّعك فيها.
لو سارت الأمور على ما يرام قد أعود لأرحل ثانية بعد أن أعلمك عن الأماكن الصّالحة للعيش.
-لحظة من فضلك. إلى أين ترحلين؟ دعيني أرافقك ثمّ أعود.
- لم يعد لديّ وقت. وداعاً. قد أبرك فيما بعد.
وقد لا نلتقي.
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |