شجرة العائلة / الفصل الخامس
خاص ألف
2015-05-09
الفصل الخامس
1
أجيد الكتابة، ولا أجيد الرّبح.
تتعامل عبير معي كمغفّلة، وأنا أقبل ذلك.
تحدّثني وقت تشاء، ولا تردّ عليّ عندما تشاء.
أرسلت لي كتاباً يتحدّث عن البعد الآخر.
سمعت عنه من خلال برامج الواقع الأمريكيّة بالنّسخة العربيّة، وباعتبار أنّها ترغب في دخول التّاريخ، فقد تغيّرت، وبعد عمليات شدّ الوجه، بدت أكبر من عمرها بعشر سنوات.
ستناقش على محطة فضائية رحلة سميث إلى البعد الأخر.
قرأت الكتاب. هو ممتع. كتبت لها ملّخصاً عمّا يجب أن تقول. تابعتها على التلفاز. متألّقة، صاحبة رأيّ، ولها جمهور عريض من المعجبين بأدبها.
هل أغار؟
أقسم أنّني لا أغار، وإن رأيتني أضرب نفسي بالحذاء، فلأنني ولدت في هذا البعد من الكون.
. . .
لا زلت أعيش محاصرة بين الهزيمة، والخوف، ولا أعرف إلى أين تتّجه رحلتي. هل يستحقّ الأمر كل هذا العناء؟
لولم يكن يستحقّ لما تأهبت له، يجب أن يستحقّ.
في هذه البلاد الغريبة أفتح عيني وأرى البشر يبحثون بين القمامة عن طعام.
رجال هاربون من شبابهم لا أفهم لغتهم.
هو الفقر يجتمع هنا قرب حاوية قمامة.
يجثو الأمل على ركبتيه.
وتتعثّر بالحرّية.
حريّة أن تموت جوعاً، أو أن تغادر إلى المجهول.
لم أبحث عن الحرّيّة. اعتقدّت أنّني حرّة، لم أتقيّد يوماً بعادات أو طقوس، وكانت شمسة تحتّج على طريقة أدائي المخالفة لنظام البيئة.
حتى عندما اخترت الرّحيل كان قراري، ولم يتدّخل به أحد.
عندما يتحدّثون عن وقوف الرجل عائقاً أمام حريتهن أستغرب.
عندما تستشيرين زوجك في موضوع ما، فأنت تطلبن منه أن يقول لا يشكل غير مباشر.
...
في فراغات وحدتي أدور.
أراقب الغروب، وأنسى أن الشمس تشرق كلّ يوم.
الحياة لا تستمر. هو تعبير للمجاملة.
في تلك السّنوات الخمسين التي مرت كنت أبحث عن نفسي، وجدتني جاثية أمام بوابة الحيرة.
أفتقد سليم. زينب، ومروان.
لم يعد مروان متجبّراً كما كان، فقط يرغب أن أكرّس كل وقتي له بحجة أنّه يعاني من المرض الذي لا يعرف ما هو، أدرك مرضه. هو خائف من المجهول، ويرغب أن أبقى قربه كي يأخذني المجهول بدلاً منه. اعتاد على مبادلتي المواقف، يسحب من قلبي الفرح، والأمان..
بدأت أزمة منتصف العمر مع مروان منذ زواجنا، واستمرّت في تفاقم، هو اليوم يعاني من أزمة آخر العمر، لم يعد لديه ما يفعله.
لستُ متزوّجة، ولستُ عازبة.
لا يحضر كزوج إلا عندما يقرّر التّنمر ، فيرمح بسيفة من على صهوة حصانه،
وتأتي كلماته اللاذعة على غير موعد، أقرر التّخلي عن الحديث معه، والانصراف إلى نفسي، وقبل أن أدرك ذاتي أرى مصيبة حلّت معه، وعليّ أن أنقذه منها.
كيف يمكن له أن يتلوّن هكذا؟
البارحة تحدّث معي بمنتهى الرّقة، قال لي:
أتفاءل بوجودك. أنت ملهمة على الدّوام، لولاك كنت كالكلاب الشّاردّة، كدت أبكي عليه.
قلت له: حبيبي لا أرغب في اعتذار. يكفي أن نكمل حياتنا معاً على الحلوّ والمرّ.
ثم عاد مثل السّابق لم يمض دقائق على هذا حتى استطاع أن يسلبني أكثر ما عندي من المال.
يسخر من غبائي.
هو محق. أصدّق النّاس، وأغلبهم كاذبون.
. . .
بينما نمشي على الطريق الصحيح، نضيع عن سابق إصرار.
نقف على المفترق، نرغب أن نعرف وجهاً نأنس له.
طريقك يا زينب مجهول.
لا أعرف كيف وصلت إلى هنا.
هل سألتقي بأولادي ثانية؟
بالطبّع. سوف لن أموت في هذه الأرض الجرداء,
ما نفع الذكريات؟
في هذا المكان البارد لا أتذكّر سوى أولادي وشمسة.
أشمّ رائحة شواء.
عندما كنت جائعة في يوم مضى . ذهبت لزيارة أخي الذي أحبّ، همس في أذني أن لا أكثر من الزّيارات، احتبست كلماته في جرحي.
عندما ذهبت لزيارة صديقتي، ولم يكن لديّ حذاء. شممت رائحة طرد.
غادرت، ولا أعرف إكمال الكلام.
أكاد أموت من الجوع.
عندما أجد طعاماً سأكون بحال أفضل، وسأنجح.
أشعر بشخص ما يمسك بيدي، ويسير بي.
-إلى أين تأخذني ؟
-إلى برّ الأمان!
-أين يقع هذا البر؟ أرى نفسي في خضمّ أمواج البحر، في قارب صيد ، ولا يمكن أن أصدّق أنّ البرّ يقع في البحر.
اخترت بعض حكاياتي، وكلّما استمعت إلى حكايّة منها أشعر بالغباء. لا شيء لديّ أعتزّ به، فقدّت الكثير من ذاتي على طريق مجهولة المعالم، مرّة أمرّ بأرض جرداء، وأخرى في محيط تتقاذف قاربي الأمواج.
. . .
كبرت في غيابك عشرين عاماً يا زينب.
لم أعد أرى الطّاحونة الحمراء، ولن أنجح لو قلّدّتكِ ، لهجتي، ونبرة صوتي وثقافتي فيها بعض المسامير و الأخشاب.
لماذا يرحلون ويتركونني هنا؟
يبدو أن حلم أمريكا لم يعد صالحاً.
وما الضير؟
يمكنني أن أقرأ أطروحتي أمام نفسي.
عندما يصبح مروان ثملاً.
سأجلبه ليكون جمهوري،
وأشتري له زوادة من الخمر ليوم غد.
سيحبّني، يصفق لي.
أجمع أوراقي الأن. أطمرها مؤقتاً في حفرة هناك.
لا أحب ديدان الأرض الرّطبة.
يلتف الذكر والأنثى على بعضيهما بشكل مقرف.
لا تأكلوا أوراقي.
أغمض عيني كي لا أراهم.
انتهت مراسم الدّفن.
كأنني أبحث عن شيء أضعته!
لم أجد ما أبحث عنه
لو أوقفت هذا الدوران حول نفسي.
أحتاج لأحد ما يذكرني بالحرف الأول من الشيء الذي أبحث عنه.
لو خرجت الأن في رحلة أهيم فيها ثمّ عدت مع الشّروق!
الهواء بارد، الأشجار لم تستيقظ بعد.
أبحث أين أنا؟
لا بشر هنا!
قد أكون انتقلت دون أن أدري إلى الآخرة.
لا أرى السّراط المستقيم.
شكرا لك يا رب!
في رحلتي ما قبل الصباحية كنت أمشي في حلمي، صحوت للتوّ.
سأقوم بالبحث في الموسوعات. وبحسب ترتيب الأبجديّة.
حرف ال"ع" عبير.
سيدة أعمال تجيد كتابة الشّعر.
والدها الأمير قحبان. كان مولعاً بركوب الخيل، والرماية.
والدتها سارية من قبائل بني سايب.
إنّها صورة عبير.
يقولون عنها الموسوعة " الحرّة"
منذ اليوم كلما سمعت اسماً سأعرّفه بعكسه، فالوسيم هو القبيح، والأديب هو بلا أدب. ..
. . .
في ذلك المكان الذي وصلت إليه الوجوه مختلفة، ليس فيها ملامح الرّياء.
أتيح لي أن أبتعد قليلاً عن التّفكير بالحياة، الموت حدّث عاديّ ، أفتح عينيّ أرى كلّ شيء حقيقيّ.
يمرّون من أمامي .
اعتقدت أن ذلك الرجل الغريب يسلّم علي.
عندما قال "هللو" قفز قلبي من الفرح، يوجد هنا من يعرفني.
ابتسمت له، ابتسم ومضى في طريقه.
فهمتّ القصّة يتحدّث بهاتفه مع أحد، أو مع لا أحد.
قرب مزبلة الحيّ رجال بربطات عنق.
وفي الطرف الأخر من المزبلة رجال ونساء أتوا مع كلابهم يمارسون طقوس الإدمان.
الكلاب تحميهم من أنفسهم.
ولدت من جديد. أمضي يومي في الحدائق والطّرقات.
الفقر يرقص هنا، كما كان يرقص هناك.
هذا المكان هو الأسوأ.
عندما أنظر إلى البحر والجبل، أعتقد أن الله يسكن فوق قمة ذلك الجبل.
وعلى طرف الجبل كاتدرائية. وهناك متحف يقول كل ما فيه:
هنا كانت الحضارة.
لماذا يشبهونني في الفقر؟
يشبهونني في السّحنة، وفي طريقة الاختباء.
اعتدت على تغيير أمكنتي.
أغادر إلى الطرف الآخر من المدينة.
لو أستطيع أن أقيم في تلك الحديقة. فيها ماء وبيت خلاء.
فقط مسافة خمسة دقائق على الأقدام تفصلني عن المزبلة.
ما أنظف هذا المكان!
لا يوجد مزبلة. من أين لي أن آكل، ولا يسمحون بالتّسول هنا.
لو اكتفيت بشرب الماء، وتنظيف نفسي من الفقر.
قد أستطيع الاختباء هنا ريثما أجد طريقاً آخر للخلاص.
الشّرطة في الحيّ تشبه الملائكة. هم في خدمة السّكان.
أحتاج لعمليّة نقع في وعاء لعدّة أيام حتى أنظف من العوالق التي ألمّت بي حيث يسكنني عدا الفقر آلاف من الموبقات. أغلبها على وزنه
. . .
أفتقد تلك الأيّام المرّة عندما كنا نبيع أنا وزينب "الزّهروم"
أفتقد سليم. عندما كان يصفني بالغبيّة. أنتفض، أقف أمام المرآة، أكتشف أنّه على صواب.
أفتقد مروان. انسحب من العالم. في الصّباح يرغب أن يكون لطيفاً معي، يستجدي شفقتي، ويغطّ في سكر جديد.
هؤلاء هم كلّ عالمي الذي كان.
لم يبق أمامي سوى عبير، لكنّها لم تعد تردّ على هاتفي. أرسلت لي رسالة بأنّ طروفها صعبة.
دفنت أوراقي في أرض رطبة، وهم الأن غطاء للدّود. أكاد أجنّ.
أرغب أن أتحدّث مع إنسان.
أين أنت يا مروان؟
-أنا هنا. قادم.
-وتمسح شفتيك؟ عد إلى شرب المنون. أرغب أن أحدّث إنسان!
لا زال لباس التّسول عندي. ألبسه ، وأجلس على حافة شارع مكتظ.
لم يعد يلزمني المال.
ابني غادر المكان، ولا أحد أعيله، و يمكنني الأكل مما تأكل منه العصافير. البارحة أتيت بحشائش من البريّة، طبختها. لم يكن لديّ وقود، ولا زيت، ولا ملح. فركتها بيدي، صنعت منها كرات خضراء, أعجب مروان بها، وعندما أثنى عليّ قلت له: يمكن التّعود على الحشيش. لم يفهم ما قلت كان بالكاد يمشي، أمسكته من يده، ووضعته على السّرير، لم يستيقظ منذ البارحة، لكنّه لم يمت. رأيته يتنفس قبل قليل.
. . .
في تلك الرّحلة مُسِحت ذاكرتي، لا أسماء فيها ولا أماكن. يقبع في زاويتها كتلة متجلّدة من المشاعر. أين كلّ تلك الأفكار التي كانت تدفعني للاستمرار؟
الشّعور بالاستسلام، وعدم جدوى الحديث عن أيّ شيء.
التّصحر، الرغبة في شيء واحد هو الطّعام.
يشيخ الشّباب، وهم في العشرين. عالقون في هذا المكان.
أنظر في اتجاه الخندق المحفور بتأنّ. يقال أنّ خلف الخندق تقع الجنان.
سؤال واحد أرغب أن أبوح به: هل كان الأمر يستحق؟
تمسك بيدي غول أنثى تقودني إلى السّجن.
تشبه في سحنتها امرأة رأيتها يوماً، أو ربما تخيلتها تأكل طفلاً.
رائحة بول تنطلق من قريب، وشاب يقرع الباب بقوة ليفتحوا له، والرائحة نشّمها معاً ، الذّل الذي كدسته على مدى عمر يحضرني، يتخشّب جسدي.
ألوذ بظّلي، تتملّكني شهوة الموت. نعم تلك الشّهوة التي كانت تتمسّك بي في كلّ مفاصل حياتي، وكانت تلفظني.
...
كم هو بعيد ذلك الزمن!
كان الطّموح يستفزّني، أنهضّ من غزّ نومي ، وأكتب في تلك الورقة التي تضخّمت ، وزادت مئات المرّات، ثمّ نامت في تلك الأرض الرّطبة في قبر حفرته لها بيديّ.
عندما كان يحلّ المساء أحاول أن أهرب من السّعادة التي يقدّمها لي مروان، وهو يعبّر عن تحضّره ، فلو بقيت حتّى وقت العشاء، لحلّت الكارثة مع طقوسه اليوميّة التي حوّلته من كائن بشري، إلى إنسان لا هو بالحيّ، ولا هو بالميّت.
لذت بالنّوم دهراً. كنت أستيقظ عندما ينامون، أجلس أحدّث أوهامي. أسميتها أحلاماً.
حقّقت الكثير من الأشياء التي رغبت بها، بدت لي سخيفة ، كانت أقلّ مما أرغب، ولا أعرف ما أرغب به.
لحظات كأنّها الحلم مرّت عندما كنت أذهب مع زينب. اشتفت لحمارها" سعد"
صبغته التي ابتكرتها لتصنع حياة لم تكن موجودة، وصادقته احتجاجاً على صداقة البشر. ليتني أستطيع ارتداء ثوباً قرويّاً مثل ثوبها يخفي معالم الأيّام.
كانت بعض تلك الليالي باهتة، والبعض مملوء بالأمل. ذلك الوهم الذي يجعلك تعتقد أنّك ستسلّم أوراقك في الصّباح، ويتغيّر كلّ شيء، تنال ما تبحث عنه، وعندما تبدأ في لملمة الأوراق معلناً بدء الصّباح. تنظر إلى المعالم، وترى أنّك لم تكن تعرف عن ماذا تبحث.
كنت أبحث على مدار حياتي عن لا شيء، وعندما يكون مروان حاضراً في حكايتي تتبعثر أوقاتها. وتختلط الخاتمة مع المقدّمة.
-تعالي يا شمسة!
لا تتركيني وحيداً، دعي التّفكير، وتفرّغي لي.
إن كنت تريدين اعتذاراً ،فأنا مستعدّ.
-إنّي قادمة. لا أريد اعتذاراً عن شيء، أرغب عن تكفّ عن إشراكي في قتل الزّمن.
لو كنت أستطيع الانتقام منه لفعلت.
أحزن عليه ، عندما سألته: هل كنت سعيداً عندما كنت تغادر إلى عالمك. أجاب: لم أعرف السّعادة يوماً، ولو لم تكوني زوجتي، لهمت على وجهي، ومتّ على ناصيّة الطريق.
قال ذلك إرضاء لي كي يأخذ ما تبقى في من حياة، لكنّه قال الحقيقة دون أن يعنيها
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |