بعيدا عن السياسة، وروحي عربية وقلبي سوري، الشعب الأوروبي ليس عنصريًا ومن تجربتي فقط: جئت إلى هذه البلاد مع أسرتي لا أملك أحلامًا، وحلمي الوحيد هو سقف بعيد عن القصف وغير قابل للسقوط في أي لحظة بسبب صاروخ أحمق أو طيارة عمياء .
منذ اليوم الأول جاء بعض الأشخاص لمساعدتنا، "المساعدة ليست مادية " لأن الحكومة تتكفل بتقديم المال لكل لاجىء منذ لحظة وصوله. جاؤوا لمساعدتنا في الوصول إلى المدارس، الأسواق، دورات تعليم اللغة، المشافي ...آلخ، ومنذ اللحظة الاولى كنت ولا زلت أشعر بامتنان شديد لكل من قال لنا "أهلا بكم "، لأساعد نفسي على لملمة أنقاض روحي التي نجت بما تبقى منها، ولا زلت أجتهد كل لحظة في بناء ما تهدم مني وما بعثرته هذه السنوات المرعبة .
ما حدث معي هو ذاته ما حدث مع كل لاجىء أتى إلى هذه البلاد وربما أكثر. في كل مدينة هناك من يحضر لمساعدة اللاجئين عند وصولهم ومعظمهم من المتطوعين أو أخصائيين رسميين في حال الحاجة إلى مساعدة نفسية أو طبية وكثيرة هي العائلات السورية التي وصلت إلى هنا مع كثير من المشاكل الجسدية والنفسية، وبأقصى سرعة تتم رعايتهم الخاصة، وبمنتهى الدقة والاحترافية العالية، وبكل محبة ولطف.
أولئك المتطوعون الذين يأتون للبيوت للمساعدة، يتناولون معنا طعامنا ويجلسون على موائدنا ويعبرون عن شكرهم وإعجابهم بكرم الضيافة وبطعامنا المميز ويحترمون عاداتنا وتقاليدنا ولا يتجاوزن حدودهم أبدا أبدا، ولا يتعدون على ديننا بكلمة أو إساءة، ولا حتى تلميح، ولا يطلب أحد منهم من أي لاجىء تغيير دينه أو يتدخل في عقيدته رغم ذهابهم المتكرر إلى الكنائس، وهذه اللقاءات تكون فقط من أجل التعريف بالآخر، ومن أجل إيجاد صيغة إنسانية مشتركة للتعايش بين سكان البلاد واللاجئين الجدد.
للأمانة، حضرت لقاءات قليلة جدًا، ولكنها عبارة عن جلسات روحية أقرب إلى أن تكون دينية بالنسبة لي حظيت بعناق كل من قابلتهم في الكنيسة ... حدث أن كنت مريضة جدًا وزارتني إحدى المؤمنات من الكنيسة، وطلبت مني الاذن أن أسمح لها أن تصلي من أجلي .. كانت تخشى أنها تتعدى على خصوصيتي، وبدون تردد أجبتها بأن تباركني بصلاتها، وأقسم أنها كانت تصلي وتبكي وهي تضع يدها على مكان الألم . للأسف معظم اللاجئين السوريين ممن خبرتهم عن قرب، ومعظمهم في المدارس لأنني لا أملك أصدقاء سوريين، كانوا من الجاحدين والحاقدين، وكانوا ممن ينعتوهم بالكفر والالحاد و ع قولتهم "خنازير والعياذ بالله".
هؤلاء الكفرة، هم من يدفع آجارات بيوتنا ويتكفلون بمعظم العائلات إلى أن تتمكن من العمل، وهم من يدفع لتعليمنا إلا في حالات خاصة .. هؤلاء الكفرة ندخل إلى مشافيهم وعياداتهم وننتظر الدور كأي مواطن دون سؤال عن دين أو جنس أو لون، ولا يدخل أحد قبلك ولا ندفع للسكرتيرة "سكرة " للاستعجال بالدخول .. هؤلاء الكفرة يقابلونا بابتسامة عريضة ولا أستطيع أن أخفي فرحي وإعجابي عند رؤية أشخاص يعبرون الشارع من الجيش الألماني "رجال ونساء". أجمل ما أراه بالنسبة لي رجال الجيش وما لهم في نفسي من أثر عميق.
لا تطلب منَّا هذه البلاد أكثر من احترامها واحترام عاداتها وطقوسها، الالتزام أولا وأخيرا بالقانون الذي يحمي الجميع، ولم يتم تفصيله لإقصائنا ولا في أي مجال من المجالات .. القانون هو الرب في هذه البلاد، ولن يسيء لك أي إنسان مهما كانت مشاعره تجاهك لأنه تحت سلطة القانون الذي لا يفرّق بين لاجىء أو مواطن الذي لا ذنب له بما نحمل في كثير من الأحيان من مشاعر بالدونية ولنا أسبابنا وأعذارنا المفهومة وغير المفهومة.
هناك من يكرهنا بالتأكيد ويرفض وجودنا رفضا تاما وينظر لنا بفوقية وعنصرية شديدة، ولكن هؤلاء حالات فردية لا يعبّرون إلا عن أنفسهم وليسوا قاعدة بل هم الاستثناء .
وإلى أن يعرفونا جيدا ويتقبلوا وجودنا، لا بد أن نثبت أننا جئنا لهذه البلاد بحثا عن الحياة وهربًا من الموت، وأن لدينا ما يكفي من الإنسانية والنزاهة والرغبة في التعايش والمواطنة على أساس الأخوة الإنسانية، وأننا بحاجة للوقت الكفيل بطرد مخاوفنا ومخاوفهم، وبحاجة للوقت للدراسة ومن ثم الكفاءة التي تؤهلنا للانخراط في العمل، وأننا لا نريد العيش على مساعداتهم كما يعتقد الكثيرون بأننا لا نرغب بالعمل، والجدير بالذكر أن هذه المساعدات التي يتلقاها اللاجىء هي سبب رئيسي في اشكالية عدم تقبل البعض لنا أحيانا، وليس الدين .. ولأننا نحن القادمون الجدد الذين اقتحموا حياتهم وفُرضوا عليهم، لابد من بذل الكثير من الجهد واثبات حسن النية والسلوك والتركيز عل الإيجابيات فقط وعدم اعتبار ما يحدث من تجارب يومية لنا هو موقف شخصي منا، بل مرده اختلاف الثقافات، وردود الأفعال التي لا نتوقعها من شعب يختلف عنا في تاريخه وإرثه الثقافي وتفصلنا مساحة شاسعة في الحاضر عنهم كعرب من الألف الى الياء .
في أي وقت وأي مكان ومهما جار الزمان على أحدنا، لأن كلمة لاجىء موقعها موقع رصاصة في القلب، أعود لما كانت أمي تقوله دائما :"عز نفسك تجدها " لن يذل من يحافظ على كرامته.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...