سبع محاولات للبقاء على قيد الحياة
2008-07-11
(الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )
النبي محمد بن عبد الله
(الموت يقظة )
علي بن أبي طالب
لم أكن قد متّ بعد .
كنتُ ممدداً في تابوت فخم : هادئاً ، مطمئناً ، كالنفس الراجعة إلى ربها . جميع من حولي كانوا يتحركون بانفعال . عرفتُ أنهم يتصرفون على أنيّ ميْتْ . استغربت ذ لك ، حاولت النهوض، ترددتْ. بعد قليل أعجبتني اللعبة / أجل لعبة الموت / اكتشفت أن الموت لعبةٌ مسليةٌ . جميع من حولك بلهاء لا يعرفون كيف يتصرفون / هذا في البداية طبعاً/ لكن شيئاً فشيئاً يهدؤون ، ويبدؤون بالتصرف كلٌ حسب علاقته بالميت ...الذي هو /أنا / .
أنا ، قبل أن أموت كنت أظن الموت مرعباً . لكن عندما متّ / كما يعتقدون / رأيت أني أكتشف أشياءً قضيت سنواتي السبعين في محاولة معرفتها دون جدوى ، ويبدو أن الحياة لم تزدني سوى حماقة . سبعون عاماً لم أتمكن خلالها من الحكم على من أعرفهم :
ـ ما هي حقيقة علاقتي مع زوجتي (وفاء) ؟ .
ـ كيف تنظر إليّ ابنتي (صفاء ) ؟.
ـ ما هو شعور صديقي الصدوق الوفي (ممدوح ) تجاهي؟
- زملائي في العمل ؟ معارفي في الحي؟...
سبعون عاماً ، ومن يعش سبعين حولاً ، ولا يعرف ما يدور حوله يستحق الموتَ رجماً بـ / الصرامي العتيقة / لا أن يستلقي معززاً في صندوق ٍ خشبي ٍ يبدو غالي الثمن .
كان الجميع منشغلين عني . في البداية حاولت أن ألفت انتباههم ، لكنني تقصدتُ الصمت بعد قليل ، ومتابعة ما يجري ، وخاصةً عندما جاء ( الصديق الصدوق الوفي ممدوح ) متباهياً بألفين وخمسمائة ورقة نعي ٍ ، بين يديه ، دليل حبه الشديد .
ـ ألفان و خمسمائة ورقة ، ستملأ شوارع وأزقة وزواريب المدينة ،كما ستعلق على الحافلات الذاهبة إلى القرى ، وربما المدن البعيدة . ...
كان يقول ذلك لزوجتي العزيزة التي ارتدت الأسود سريعاً كي تعبر عن حزنها ، وكان يكرر لابنتي المراهقة :
ـ الله يرحم البابا ... كان صديقي الوحيد ..
ويبدو أن ابنتي المراهقة لم تكن تهتم كثيراً بما كان يقوله ، كانت شاردة لا يوقظها إلا رنين الهاتف ، فتبدأ بالثرثرة مع شخص ٍ ما ، وقد سمعتها تقول :
ـ خلصنا منه ياه ..
في البداية لم يخطر ببالي أبداً أنها تقصدني ، كانت تحبني كثيرا ً ، لكن عندما أراها( عمو ممدوح الوفي ) أوراق النعي بدت مسرورة ً وهي تقرأ اسمي البارز بسواد مهيب ... / حينها تأكدت أنها تقصدني / علما ً بأنني لم أكن قد مت ّ بعد .
اسمي (أمين المحمود ) . عملتُ في صحيفة ـ الجمهورية ـ أكثر من خمسين عاما ً . كنت مثال الموظف الملتزم بعمله ، والمحترم من زملائه . بدأتُ عملي في العشرين من عمري ، واستمريت ثلاثين عاما ً : أعيش في مقر الصحيفة ، أكتب فيها ، أنا وحيد ٌ لا أهل لي ولا عائلة .... بعد أن تجاوزت الخمسين بقليل تعرفت إلى ( صديقي الصدوق الوفي ممدوح ) وإلى قريبته (وفاء) التي صارت حرمي المصون ، عشنا حياة ً سعيدة ً ، رزقنا بابنتي الوحيدة ( صفاء ) ....
( صفاء ) ما تزال تثرثر على الهاتف... وتضحك ...
( وفاء ) تبحث في أدراج مكتبي ، لا بد أنها تبحث عن وصيتي ، إذ يجب أن تتلفها فورا ً ، وإلا سترث ( صفاء المدللة ) كل شيء ، وهذا ما ستخسره ( وفاء المخلصة ) ...
الحق ليس عليها ، بل على الأحمق الذي هو أنا. سبعون عاما ً لم تعلمني كيف أكون حريصا ً . أنا غبي فعلا ً ، لماذا لم أضع الوصية عند ( المحامي إبراهيم ) ؟ لماذا لم أتركها في مكتبي في الصحيفة ؟ لماذا ؟ لكن ما الفائدة ؟ ستعثر عليها الآن ، ولن تنفذ ما جاء فيها ، ماذا يهمني أنا ، حينها سأكون في القبر ...
عندما تذكرت كلمة قبر تمنيت لو أني عشت في عصر ٍ غير هذا العصر ، في ـ أوغاريت ـ مثلا ً ، كان الناس يعمرون قبورا ً جميلة ً وواسعة ً . وما أزال أذكر محاضرة ً لأحد المعماريين ، وهو يشرح فيها طريقة بناء القبر الأوغاريتي وميزاته. حينها تمنيت أن أموت كي أدفن في قبر ٍ كهذا ..
لا أعرف إذا كنتم مستعجلين أم لا ؟ وإذا كنتم ترغبون في سماع قصتي إلى آخرها ؟ بالنسبة لي أنا غير مستعجل ٍ ، أمامي الليل بطوله قبل أن يصطحبني الأصدقاء والأحباب إلى القبر الذي سيجهزونه لي . طبعا ً هو ليس كالقبر الأوغاريتي . أجدادي الأوغاريتيون / عفوا ً ، لا أعتقد أني منهم ، فأنا من الغباء بحيث لا يحق لي الانتماء إليهم / كانوا يعتقدون أن الحياة تمر بسبع مراحل :
ـ الحمل ـ الولادة ـ الطفولة ـ الشباب ـ الرجولة ـ الكهولة ـ الموت .
لهذا عقدوا سقف قبرهم بسبعة أحجار : كل حجر ٍ يدل على مرحلة ، حتى يصل الإنسان في نهاية المراحل السبع إلى هذا القبر ، كما وضعوا سبع درجات للوصول إليه .
القبر الخاص بي لن يكون أوغاريتيا ً ، سيكون كما حددت البلدية ُ مواصفاته
/ 190، 120، 80 سم / وقد أنذرت البلدية ُ كل الأموات وذويهم بالتنفيذ الدقيق منعا ً للاختناقات المرورية ...
لماذا أتذكر القبر ؟ والدرجات السبع ؟ والمراحل السبع ؟ يبدو لأني أثناء رحلتي إلى القبر فكرت سبع مرات بأن أبقى على قيد الحياة ، وفي كل مرة كان شيء ما يحدث ، ويجعلني أؤجل المحاولة . أما في المرة السابعة فقد قررت ... ماذا قررت ؟ كونوا صبورين قليلا ً . سأقول لكم . لكن دعونا نبدأ بالمحاولة الأولى ....
المحاولة الأولى
لم أكن قد مت ّ بعد .
تأكدت من ذلك . قررت أن أفاجئ / وفاء المخلصة، صفاء المدللة ، ممدوح الوفي ، والألفين وخمسمائة ورقة نعي ، وبعض الجيران .../ لكن الدخول المفاجئ لزميلي العزيز جداً ( عزيز الملعبجي ) ، رئيس فرع اتحاد الصحفيين في المحافظة ، باغتني ، ومنعني من المحاولة . ترى كيف سمع بالخبر ؟ وهل كان ينتظر خبراً كهذا ؟ .
دخل واثقاً من نفسه ، يحمل بيده برقية من رئيس الاتحاد ، تبادل القبل الحزينة والحارة مع (وفاء المخلصة ) و (صفاء المدللة ) و (ممدوح الوفي ) ، تحدث عن حزنه الشديد :
ـ كان بعده شاباً ...
كان خداه الموردان يهتزان مع محاولاته الفاشلة في البكاء . اعتذر عن عدم حضور رئيس الاتحاد الذي توعك بالصدفة ، فتح البرقية التي وصلته بالفاكس ، وبدأ القراءة :
" كنتم من أخلص العاملين ، كانت ثقتنا بكم لا تتزعزع ، ومحبتنا نبراساً للدرب الطويل بيننا . جسور المودة التي لا تنقطع ستبقى بيننا إلى الأبد . ندعو الله العزيز الكريم القادر الرحمن الرحيم أن يغمركم بواسع عطفه ومغفرته . لفقيدكم العزيز الرائع كل الرحمة ... "
لم أعد أستطيع سماعَ ما يقوله هذا المحب على لسان ذاك المنافق .. منذ شهر ٍ واحد ٍ فقط رفض أن يمدد خدمتي ، وكان يستعجل في تسريحي ، وأعتقد من جهتي بأنه غير متوعك ٍ ، بل أن لعبة (بوكر ) حامية منعته من المجيء فكلف (عزيزا ً) بهذه المهمة الصعبة .
كان (عزيز) يمط حنكه ، ينفخ دخان سيجارته بتصنع ، محاولاً أن يبكي أحياناً، وأن يلاطف ( صفاء المدللة ) أحيانا ً أخرى ، حينها كنت أموت ... لكنني استيقظت ،لا أعرف متى ، ( عزيز ) لم يكن في البيت ، الجيران غادروا ...
المحاولة الثانية
لم أكن قد متّ بعد .
استيقظت ْ :
اتسع المكان .. ُوضعت فيه مجموعة من الكراسي ، وأريكة على الحائط ، طاولة صغيرة عليها جهاز هاتف ، وعلبة محارم ورقية . ( صفاء المدللة ) تستلقي على الأريكة ، تدير ظهرها لي ، تتحدث همسا ً في الهاتف ، السكون الذي يملأ المكان ساعدني على التقاط بعض ٍ من كلماتها :
ـ بعرف دبّر حالي ، الرجال ـ غشيمين ـ ...
هذه ـ الغشيمين ـ ملأت أذنيّ برنينها . أكيد تقصدني أنا، لكن من هو الآخر الذي تتحدث معه ؟
فكرت أن أرفع رأسي ، خفت أن تراني :
ـ ثلاثة آلاف ليرة وبس ... بيرجع كل شيء تماـ ـ ـ ـ ـ م .
شّددتْ على كلمة تمام ، و مطّتها بشكل ٍ مثير .
إذاً هناك علاقة جنسية بين ( صفاء المدللة ) ابنة السبعة عشر ربيعاً، ورجلٍ أدفع حياتي ثمناً لمعرفته ، لكن أية حياة ؟ بالنسبة لهم ذهبت ، و لا أدري إذا كانت كذلك بالنسبة لي ؟ تابعت همسها :
ـ ماما ما فاضية ، وبابا ميت ، ميت ، ليش مفكر كان يعرف شو عم يصير بالبيت ؟ لا حبـيـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ي ، ومطّت كلمة حبيبي أكثر من سابقتها . مما جعلني أشعر وكأن قضيباً حامياً دخل في ... جـيـبـي .
ـ قلت لك خود راحتك ، قلت بعدك صغيرة . شفت شو إنك غشـيـ ـ ـ ـ م . شدّدت على الأحرف ، ومطتها ، فتحت ُ عيني قليلا ً : كانت تضع يدها بين ساقيها ، وكبرتْ عشرَ سنين ٍ في عشر ِ دقائق .
ـ واحد مثلك بيحبل .
أغمضت ُ عيني ّ ، لم أعد أعرف ابنتي ، مع ذلك قررت أن أبقى على قيد الحياة لأتابع ما يحصل . وضعت ْ سماعة الهاتف ، خرجت ْ مسرعة ً ، خبطت ْ الباب ، تعبت سهوت ُ قليلا ً .
المحاولة الثالثة
لم أكن قد متّ بعد .
صوت رقاص الساعة يتزامن مع صوت دقات قلبي ، حاولت أن أهدئها حينما فُتح الباب بهدوء :
( وفاء المخلصة ) و( ممدوح الوفي ) يشبكان أيديهما . كانت ترتدي غلالة ً رقيقة ً شفافة ً مفتوحة ً ، فوق ثيابها الداخلية السوداء ، وكان يرتدي بيجامتي الصيفية البيضاء ، وكان الشبق يرتدي وجهيهما . . . .
يا للعار هنا ؟ وفي هذا الوقت ؟ حاولت أن أنهض ، لم أعد أستطيع الحراك ، هل مت ّ فعلا ً ؟ ربما تعرضت للشلل ؟ شدّها إلى الأريكة ، انبطحت فوقه ، فكّرت ْ : ربما كانت (صفاء المدللة ) ابنته لا ابنتي /
ـ ارتحنا ، قالت له .
ـ الحمد لله، أجاب .
ـ و (صفاء) ؟
ـ يجب أن نزوجها من (موفق) .
ـ ماذا تقول ؟
ـ أعتقد أن الأمور استوت .
ـ لا مانع لدي ّ ، أضافت ( وفاء المخلصة ) ، وهكذا لا تأخذ شيئا ً من التركة .
ـ لن تحتاجها ، (موفق) يصرف عليها منذ عامين .
( موفق ) كمان ، صاحب " السوبر ماركت " !هذه المرة لم أعد أستطيع الاحتمال ، سأ ـ ـ ـ / لكنني قررت أن أتابع ، لا أدري إلى أين ستقودني هذه " الميتة " ؟ .
كان ( ممدوح الوفي ) قد لف ّ ( وفاء المخلصة ) وسقطا من الأريكة إلى الأرض ، لم أعد أرى شيئا ً ، لكن فحيحهما كان يملأ المكان . كنت على وشك أن أموت !!! جرس الهاتف أنقذني . رد ّ (الوفي ) :
ـ أهلين( موفق ) . كل شيء تمام ، نام واطمئن .
قامت تودعه إلى الباب ، شيّعته بقبلة ٍ لم أحصل على مثلها طيلة حياتي . الآن فقط ، وبعد عشرين سنة زواج ،عرفت لماذا كانت تتهرب من تقبيلي . إذا ً :
كانت تحبه ، وكان يحبها ، ويحب ابنتها (موفق ) . وأنا خارج هذه اللعبة كلها .
الآن فقط أدركت أني يجب أن أموت ،وأن أ ُ لعن في كل مكان ، وأن أداس بـ " الصرامي الحمر العتيقة " لكن كيف سيعرف الآخرون ما حدث ؟ تشجع يا ولد ، ابق على قيد الحياة ، هذا موضوع ٌ مهم ٌ للكتابة ، ستفجر قنبلة ً بكتابة ما حدث لك . ابق كما أنت لتعرف أكثر .. يبدو أن الموت نبّهكْ ، أيقظك ْ ... كي تخرج من العتمة إلى النور ...
أطفئ النور . الظلام يلف المكان . وأنا أفكر بما سأفعله في الغد .
المحاولة الرابعة
لم أكن قد متّ بعد .
لكن يبدو هذه المرة أني نمت طويلا ً وعميقاً . لم أشعر إلا وجسدي يتراقص يمينا ً ويسارا ً ، مع هبوط المشيعين درج بيتنا ، وهم يحملونني على أيديهم ، لم أهدأ إلا عندما وضعوني على ظهر السيارة ... سار الجميع ، وعبارات الرحمة على ( أمين المحمود ) تدّق أذني ّ من كل مكان . لم أكن أعرف من الذي يطلق هذه العبارات لأتأكد إذا كان صادقا ً أم لا ؟ لم أجرؤ على فتح عيني ّ ولو مواربة ً ، ربما ينتبه أحد ٌ ما وتكشف اللعبة ، أجل لعبة الموت . يا لهول هذه اللعبة التي فتحت عيني ّ أخيرا ً ، وجعلتني أرى . كم أنت عادل ٌ يا إلهي ، تجعلني أرى في آخر لحظة ... شكرا ً لك يا رب ّ .
كان كلام الرب ّ يُقرأ عندما وضعوني قرب القبر ، قلت في نفسي :
ـ لم يعد أمامك الكثير يا أمين . انهض . لكنني خفت ْ . لنؤجلها قليلا ً .
بدأت الكلمات ، وصار الجميع يمدحونني ، يمدحون السبعين بالصلاح والتقوى، أعمالي النبيلة ،أخلاقي الحميدة ، إيماني ، كدت أنفجر من الضحك ، لأول مرة أعرف أني ّ مؤمن وتقي ، لكن (خالد ) كان الوحيد الذي تحدث عني دون مبالغة ، قال ( خالد ) في كلمته*1 :
" أيها السادة لا أحب أن أكون متجهما ً عندما أذكر ( أمين المحمود ) . أعرف أن المتحدثين قد انتقوا اللحظات المؤثرة ، وتحدثوا عنها ، وسيتحدثون عن الصفات الرائعة التي يتمتع بها ، لذلك اسمحوا لي أن أتحدث عن الفنان الذي كان يلتقط الصورة بشكل يصعب على الإنسان العادي أن يلتقطها : كنا ندخل سوق الخضار في اللاذقية ، ونسمع العديد من اللهجات ، وكان ( أمين ) يسمع بائعا ً للخضار يصيح :
ـ بامي .. ويمطها : با ... مي ... * 2
كان يردد الكلمة وراء البائع ويقول لي :
ـ اسمع هذه اللهجة ما بتجنن ؟
أما عندما كان يسأل عن شيء ما ، ويتلقى الجواب ( ما فا*3 ) كان يتكركر ، ويضحك ، ويهز جسده كله :
ـ ما فا ، قال ، ما فا ...
تعالت الضحكات ، ويبدو أن ( خالدا ً ) قرر ألا يتابع لهجته اللاذقانية هذه ، فقد تحولت المناسبة الحزينة إلى كوميديا ، وصار الجميع يضحكون ، وأنا منهم بالطبع .
1 - من كلمة لي في رثاء الأديب الصديق (خالد شريقي) كانون الأول 1997
2- بامياء . 3- لا يوجد
ـ يخرب ذوقك يا ( خالد ) . هلق وقت هالحكي ؟ .
ضحكت كثيرا ً ، خشيت أن يُفتضح أمري ، لكن صوت ( الشيخ مكارم ) الجهوري ، أسكتني ، فتابعت ما يقوله هذا المحب ، حيث يكثر المحبون في مناسبات كهذه .
المحاولة الخامسة
لم أكن قد مت ّ بعد .
تقدم ( الشيخ مكارم ) ، بدأ بالبسملة ، قرأ الفاتحة ، بدأ يعدد مناقبي ، ثم تابع :
ـ يا أمين يا ابن حامد المحمود ، إذا جاءك الملاكان الطاهران قل لهما : إني مسلم ابن مسلم ، وقد كنت أصلي وأزكي ، وأصوم رمضان ،وأعطي للأرملة واليتيم ، وأساعد الفقير والمحتاج ، وكنت أنوي الحج إلى بيت الله الحرام ... قلت في سري :
ـ الله يجزيك الخير يا شيخ مكارم ، لقد بيّضتها معي في آخرتي ...
كان (الشيخ مكارم ) يحاذر المرور بقربي ، وينعتني بالشيوعي ، الزنديق ، الملحد ، الرأسمالي ، البرجوازي ... فقط لأني كنت أنادي بمساواة المرأة بالرجل ، وأن يتجه المجتمع إلى العلم . ترى لو سمع آرائي المتطرفة الأخرى في المجتمع ، ماذا كان فعل ؟ !
المهم : تابع وصف أخلاقي الحميدة ، ومساعدتي لأبناء الحي ، والجنة مثواي ، وقد حسبت للوهلة الأولى أنه يشتمني في سره ، لكن معرفتي باستقامة (الشيخ مكارم ) ، جعلتني أطرد هذه الفكرة من رأسي الذي تشوش /
ترى كم محاولة حاولت حتى الآن ؟ آه إنها خمسة ، إذا ً إلى السادسة ، وإلى (صديقي الشاعر أبو أوس )
المحاولة السادسة
لم أكن قد مت ّ بعد .
استطعت أن أخمن وقفة (أبو أوس ) ، وكنت دائم التندر عليه في تلك الوقفة المسرحية ، واستطعت معرفة لون بذته ، وربطة العنق ، ونوع العطر الذي لا ينساه في هذه المناسبات ، ولم أستطع تخمين القافية التي رتبها في رثائي ، لكن ما إن بدأ بالشطر الأول حتى قلت :
ـ أكلتها يا أمين يا محمود ، يا ابن حامد المحمود , عندما دوّى صوته :
ما كنت أعرف قسوة الدهر
حتى فقدت أمينا ً المحمودا
وتذكرت يوم وفاة جارنا ( أحمد المسعود ) ، وكان ( أبو أوس ) وقتها يرتدي بذة ً رمادية ً جميلة ً ، غمزني حينها قبل أن يبدأ قصيدته :
وأصعب يوم ٍ مرّ في العمر
يوم فقـدنا أحـمد المسعودا
وأذكر أنه يومها تندّر على المرحوم ( أحمد المسعود ) الذي كان وجيها ً معروفا ً بكلمات ٍ مثل :
عودا، بليدا ، منكودا ، فرّيدا ...
ولم تقبل أسرة (المسعود) إلا بدعوة المعزّين إلى غداء مهم ، فيه أنواع السمك التي يحب صديقنا الشاعرـ البحبشة ـ عنها . وبعد أن بلع أكثر من كيلو غرام من السمك سأل :
وهل بعد الفرّيدة من مزيدا
ترى من سيطعمك السمك الفرّيد هذه المرة ؟ ( ممدوح الوفي ) اللئيم ؟ أم (وفاء المخلصة ) البخيلة ؟ أعتقد أنه لن ينال شيئا ً مهما تعب في قافيته المكرورة هذه المرة ...
المحاولة السابعة
لم أكن قد مت ّ بعد ..
هل أخرج إليهم قبل أن ينهوا نفاقهم ؟ لا , أعتقد أني كرهت الحياة ، وصار الموت أفضل .
لم أكن قد مت ّ بعد ، وكانت أمامي فرصة أخيرة للبقاء على قيد الحياة ، حينها قال مقدم الحفل العريف متأثرا ً :
ـ كلمة آل الفقيد ، تلقيها المخلصة لوالدها ولعائلتها ، الشابة المصون البريئة ، التي صارت يتيمة ً تجوز عليها الصدقة .. إنها الآنسة صفاء ، ابنة المرحوم أمين الـ.....
لم أعد أستطيع سماع شيء ،، وفي لحظةِ شجاعة ٍ تصل حدّ الجنون قررت . تركت وصيتي على الغطاء الداخلي للتابوت :
ـ رحمة ً بروحي الماتزال ترفرف فوقكم ، اقبروني دون تأخير .
وفي غفلة ٍ عن الجميع ، أغلقت غطاء التابوت ، تعالت الأصوات معبرة ً عن الدهشة والاستغراب .
ضحكت ُ في سري كثيرا ً... وتركتهم... يعيشون .
15/6/2001
08-أيار-2021
31-أيار-2011 | |
25-أيار-2011 | |
26-شباط-2011 | |
02-كانون الثاني-2011 | |
13-أيلول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |