يحدث في قرية ابن هاني
خاص ألف
2011-01-02
أخيرا ً أجبر البحارة الكنعانيون على مغادرة مرافئهم
وتم سجنهم في علب ٍ كرتونية ٍ اسمنتية ٍ أنيقة
أبدعتها لهم شركة الديار القطرية
بعيدا ً عن مراكبهم وبحرهم الأبيض المتوسط
ذكرني ذلك بمقدمة كتابي (اللاذقية حضارة المتوسط الأولى ) الصادر عن دار المنارة في اللاذقية عام 1988 وبالمقدمة التي كتبتها نيابة ً عن اللاذقية
بعنوان "من ذاكرة اللاذقية "
ورغبت أن يشاركني أهل اللاذقية هذه المقدمة :
كنت قرية ً صغيرةً أحتضن الصيادين الكنعانيين،أغامر معهم في رحلاتهم حول العالم.
أحن إلى أمي أوغاريت كثيراً، أمد لساني إلى صوان ما قبل التاريخ الأخرس وأقول: أمي علمت الإنسانية أول حرف وأول تنويط موسيقي. ترك لي الرومان والإغريق هدايا عظيمة ، واعتنوا بي،واهتموا بما أرتدي من أزياء ، قبل أن أستقبل(عبادة بن الصامت الأنصاري) ليقودني إلى حياة أسرتي المحيطة بي .
في إحدى المرات قال عني رحالةٌ ظريف:
( إنها قرية ٌ كبيرةٌ تينها طيب) . ضحكت لهذا الكلام كثيراً، كان الرجال يغازلونني دائماً، بعضهم يرتدي الطرابيش (العثمانية ) وآخرون البذات الفرنسية، لكن الذين أحببتهم دائماً كانوا يرتدون السراويل الواسعة السوداء، سواعدهم مفتولة، بحارة ٌ وصناع ، تجارٌ وبناؤون، وكانت النساء يخطرن في كل مكان دون أن أراهن والسبب اختلاط جلابيبهن السود بسواد الليل.
أيام الشتاء كان الرجال ينقلون العرجون من معمل على شاطئ البحر. كنت أراقبهم بعد المغرب، حيث تتجمع أسرهم حول المنقل، والنار تتراقص بين جمر عرجونه، كانت النساء يحملن الفوانيس لتنير الدرب إلى السهرات، والحراس الليليون يملأون فوانيس الشوارع بالكاز الذي يحضرونه من (الكاز خانة).
كنت أرقب النسوة، يتجمعن حول (الأراكيل) ودلاء القهوة في الصباح، يثرثرن بكل الأخبار، حتى بشؤون الحرب الثانية. لكن بعد قليل ينهضن جميعاً، كل واحدة ٍ إلى مطبخها، يحضرن المجدرة مع بعض الأسماك واللحوم، بإضافة الفتوش والتبولة.
أما الرجال فقد كنت أغتاظ لرؤيتهم، وهم يمضون نهارهم، وربما ليلهم في المقاهي العديدة في المدينة : في مقهى السوركة ، مقهى كشاشة الحمام، مقهى السّماكة... بعضهم يستمع إلى الكاراكوزي،وهو يحرك شخوصه التي صنعها بإتقان، والبعض الآخر الذي يتحمس أكثر كنت أراه في الشيخ ضاهر أو سوق بيت الداية ، أو القلعة ، يستمع إلى الحكواتي حيث ينقسم الناس إلى فريقين كانا يصطدمان في أحيان كثيرة.
أيام العطل والأعياد ، خاصةً في الربيع والصيف كان منظر الناس يحزنني وهم يغادرون، ويبتعدون عني في مشاويرهم إلى : القلعة، الطابيات ، عين أم ابراهيم ، تلة الفاروس ،برك البيض ومغارة الحرامية . وما أزال حتى الآن أعتقد أن الحرامية وهذا سر بيننا كانوا الشبان والصبايا يسرقون القبلات بعيداً عن الناس .
" ساحة الشهداء" تسكن قلبي لكن الناس يصرون على أن اسمها "ساحة الشيخ ضاهر" ومع أن أسماء مشهورة بهذا الاسم عبرت اللاذقية كالملك (الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي ) و (الظاهر بيبرس) لكنني أعتقد أن (الشيخ ضاهر) هذا هو وليٌ صالحٌ بني له ضريحٌ وجامع بنفس الاسم منذ حوالي مائتي عام .
صدقوني ،بكيت مرتين : الأولى عندما مات أبو علي البطرني ودفن على شاطئي ، والثانية عندما دفنت (صخرة البطرني ) التي كتبت حولها الأغاني . أما عندما ردم (ميناء الزجاج ) فقد استعصت الدمعة كثيراً ولم أستطع البكاء ، لكن قلبي انشطر حزناً على أحبتي البحارة وهم يغادرون خارج الزمن .
كان يحلو لبعضهم حتى منذ سنين قريبة أن يسميني قرية ً كبيرة ، يزين جيدها كورنيش البحر ، لكن الشيب بدأ يغزو شعري ،وبدأت أشعر بالزمن .
كتب عني صديق من أصدقائي يقول : "شوارعها فسيحة ٌ طويلة ٌ نظيفة ،الناس يمشون إلى جوانب السيارات ويتركون الأرصفة، أما تجار سوق الصفن فقد كانوا ممتعين حقاً همهم الجلوس ومغازلة أشعة الشمس الدافئة والبيع ليس مهماً ".
يمتد بي العمر ،الكتل الاسمنتية تضرب كل أجزاء جسدي ، تمتد إلى رأسي لتنظر من مختلف التلال إلى البحر بسخرية ، مع ذلك أفرح وأنا أرقب وردة بخور مريم اللاذقانية المولد والنشأة (السيكلامة) تشب بين صخور (أوغاريت) بوجهها الطفولي وقامتها المديدة ، بحذائها الرائع الخضرة ، وثوبها الزهري والبنفسجي ، تستيقظ مع الشمس كل صباح وتقول لي أسعدت صباحاً ، تغازل عصافير الدوري قليلاً قبل أن تعانق الشمس في رحلة تنتهي خلف المتوسط.
تفلت مني دمعة ٌ كبيرة ٌ ، أكبر من البحر، أماكن السيران تغتالها الحجارة والكتل الاسمنتية ... يحمل الكاراكوزي عدته ويهرب راجعاً إلى التاريخ ... ينتحر الحكواتي أو يقتله أحد المتعصبين لأبي زيد ٍ أو دياب .. تكسر الجارة (أراكيلها) وترمي بها إلى البحر ... الآلات الضخمة تغتال البحر وتسد منافذ الكورنيش ... أشعر أني كبرت .. أشعر أني أصبحت بلا ملامح ... مدينة ً كبيرة ً تحتاج إلى التجميل وأن كان لا ينفع العجائز..
08-أيار-2021
31-أيار-2011 | |
25-أيار-2011 | |
26-شباط-2011 | |
02-كانون الثاني-2011 | |
13-أيلول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |