الصعاليك
2007-12-10
ملعون هذا القيظ ، قالها وانتفض واقفًا يبلله العرق ، نظر حوله نظرات تائهة .. شاردة ، فوقع بصره على مفرش بال ملقى في زاوية الغرفة ، انقض عليه .. التقطه واندفع خارجًا . نظرت إليه بعين يملؤها الخوف و بدون أن تنبس ببنت بكلمة !.
أزاح مزلاج الباب الخلفي المؤدي إلى الحوش بعصبية تسببت في قرص إصبعه ، فانهالت الشتائم من فمه بلا تمييز، ثم ركله بقدمه فأحدث ضجيجا دفعها لأن تطل من نافذة الغرفة ، ثم تعود لتستلقي مكانها مرة أخرى .
توقف تحت الكرمة ، داعبته النسائم .. أغرته بأن يستلقي تحتها .. تريث للحظة مطرقًا .. رفع رأسه .. نظر صوب شجرة التين الواقعة على الطرف الآخر من الحوش وانطلق كالسهم نحوها . ألقى المفرش تحتها ورمى بجسده فوقه كأنما يخشى أن يسبقه إلى المكان أحد .. أسند رأسه على
جذعها وراح يحدق في الأفق البعيد .. يمسح بعينيه كروم العنب التي تكسو التلال من حوله بخضرة باهية، تطربه وشوشات العصافير فوق أوراقها ، سيمفونية تداعب حواسه فتهدأ سريرته .
يرتد بصره مرة أخرى نحو أوراق الشجرة من فوقه وقد تمايلت بدلال إثر مغازلة بريئة داعبتها بها نسمة عابرة؛ لينطلق الشذا بفعلها سحراً يسرى في العروق .. تراخت جفونه يثقلها النعاس فتمضي لحظات لم يدر كم هي ؟، ولا استطاع أن يميز أحلماً كانت أم حقيقة ؟ كل الحواس فيه أصبحت عيونًا تحدق في الغبار الآتي من بعيد، وكلما اقترب اتضحت معالمه بشكل أدق ، عندها فغر فاهه مذعورًا، وهمس متسائلا : من أين أتى هؤلاء الفرسان ؟.. وماذا يبغون ؟ .. يا إلهي ما هذا الذي أرى ؟! لقد اجتازت خيلهم حاجز التين الشوكي الذي يحيط بالحوش وكأنه ليس قائمًا .. أي خيل هذه؟ .. حتماً سيدهمونني إن ظلوا على اندفاعهم هذا .
تحفز محاولاً الهرب ؛ غير أنه عجز عن فعل ذلك ،قوة " ما " جمدته في مكانه .. راح ينظر إلى الخيول التي وقفت على مقربة منه، والفرسان الخمسة الذين ترجلوا من على ظهورها يتضاحكون، ربتوا عليها بحنو ،ثم أطلقوها ترعى في المكان .
ظل يحدق فيهم مصعوقاً يلح عليه السؤال مرة أخرى : أي قوم هؤلاء ؟ وماذا يريدون ؟.. إنهم لا يشبهوننا في شيء.. ملابسهم غريبة علينا .. وجوههم ليست مألوفة لي.. لغتهم بالكاد أفهمها .. من أي العصور أتوا ؟؟ يا إلهي! إنهم يقبلون نحوي .. لعلهم يقصدونني بالفعل ..هم يقصدونني وإلا لماذا تحلقوا حولي هكذا ؟. لا ، إنهم لا يرونني .. لا يشعرون بي وإلا ما اتخذوا مجلسهم عندي.. تبًا من هذا الذي يحشر نفسه بجواري ؟ .. لابد أنه سيدهم، فها هم يلتفون حوله ولا يكفون عن التزلف إليه والتقرب منه .. لكن لماذا هذا الفارس الوحيد من بينهم يضع لثامًا على وجهه ؟
ـ اكشفي عن وجهك يا عنان ، فلا غريب بيننا ، "قال السيد" ، ففغر فاه مفجوعاً بقول الرجل وقد تأكدت ظنونه بأنهم لا يرونه، إلاّ أن صدمته كانت أشد حين أشرق وجه المرأة كالشمس وتناثرت الكلمات من فمها تموج غنجاً ودلالا: أمرك يا مولاي .
ـ أين الخمر يا خليع ؟ قال السيد .
ـ لبيك يا سيد شعراء هذا الزمان ، وقفز قاصداً أحد الخيول، ثم عاد يحمل زجاجة وعددًا من الكؤوس .
ـ هه .. هه .. سمعت يا وراق ، وتقول لي إن (خلف الأحمر) يشيع في مجالس بغداد أنه أستاذي ، وأنه من اختار لي اسم "أبي نواس" .
ـ إنها الغيرة يا مولاي ، فمنذ أن أصبحت شاعر البلاط والنار تتأجج في صدورهم .
ـ حسناً يا وراق ، سترى كيف أجعلها تتأجج بهم عما قريب.
ـ أبو نواس !!
همس مرتبكاً .
ـ لا عليك منهم ، فهم لا يستحقون مجرد التفكير بهم .. أسمعينا شيئًا يا عنان ، وأنت يا خليع در علينا بالكؤوس .
ـ صدقت يا بن رزين .. أسمعينا يا عنان .
ـ أمرك يا سيدي : مهلاً فديتك مهـلاً
عنان أحرى وأولى
بأن تنالـوا لديها
أشهى نعيم وأحلى
سرى شدوها خمرًا في عروقه فأسكره وتباينت كلماتها بين غنج وهمس فغشته سحرًا ، أشعل الحواس بداخله .. صهرها، فأحالها رغبة جعلت نفسه تسول له في غفلة منه، أن ينقض عليها ويختطفها من بينهم ، فأنكر الأمر حرصًا على اللحظة التي يعيشها، لكنها لم تطل ، إذ توقفت عن الغناء فجأة ، وراحت تنظر إلى الجهة التي ينظرون نحوها .. نظر بدوره إلى تلك الجهة ، فإذا بعدد من الفرسان يقتادون رجلا مكبلاً بالسلاسل وبجواره غلام لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره ، مروا على مقربة منهم، فألقت عنان الغطاء على وجهها . عندها وقف أبو نواس ، وصاح : إلى أين أيها الجند ؟
ـ إلى صاحب الشرطة يا مولاي .
ـ وما خطبكم ؟
ـ لقد ضبطنا هذا الرجل يفعل الفاحشة بهذا الغلام في إحدى البنايات المهجورة خلف السوق .
ـ يا بن اللعينة ! أين وجدت هذا الغلام ؟ همس الخليع ، فألجمته وكزة أبي نواس :
ـ صه .. لا تفضحنا أمام الجند …
ـ أقسم بالله أنني برئ من هذه التهمة يا سيدي ، فمنذ أن اشتريت هذا الغلام وأحدهم يطاردني ويلح علي في شرائه ويبدو أنه كاد لي هذه التهمة .
ـ اخرس يا حقير .. أتشكك في صدق الجند الذين ضبطوك متلبساً ؟
صاح الخليع دون سابق إنذار ، الأمر الذي لفت إليه نظر الحضور.
ـ إنه الرجل يا مولاي .. أقسم بالله إنه هو ..
وأشار بيده إلى الخليع .
ـ خسئت يا نذل . رد الخليع بفزع .
ـ لا تدعي البراءة فالرجل أصدق منك ، همس أبو نواس في أذنه بصوت خافت .
ـ صدقني يا مولاي ، لم أفعلها .. صحيح أن الغلام مغر .. لكنني…
ـ لكن ، ماذا يا خليع .. أتريد أن تغرر بي أيضًا ، أم تخشى أن أعاقبك على إيثارك الغلام لنفسك من دون علمي.
ـ حاشا لله يا مولاي .. حاشا لله ..
ـ كفى .. ودعني أعالج الأمر، مع "الفضل بن ربيع" حين أراه اليوم ، لكن الأهم من ذلك ألا يضيع هذا الغلام منا.
ـ انظر يا مولاي ، قال الوراق مشيرًا بيده نحو الجهة التي أتى منها الجند .
ـ أي فارس هذا الأتي من وسط تلك السحابة كأنه جيش زاحف؟! تساءل أبو نواس مستغربًا
ـ أترك الرجل يا قائد الجند .
قال الفارس بلهجة آمره وقد اعتلى بفرسه ربوة وبدا التحفز واضحًا في عينيه .
ـ ومن أنت يا هذا ؟ قال قائد الجند مستفسراً !
ـ نعم من أنت ؟. قال أبو نواس معقبًا بصوت لا يخلو من الارتباك.
ـ من أنا يا أبا نواس ؟.
قالها الفارس بشيء من الاستخفاف، ثم تابع بنفس اللهجة: - يبدو أن حلو الأيام قد أنساك مرها ، وجعلك لا تذكر من ماضيك شيئًا، أو لعلهم صحبة السوء من حولك ، يسبحون بحمدك صباح مساء ، فحسبت أنك سيد هذا الزمان ، ولا تدري يا مغفل بأنهم حين يتركون مجلسك ينهشون لحمك ، كما تنهش الجوارح الكلب الفطيس …
ـ هل الفارس لقمان الحكيم ،جاء ليعظني ويحذرني من سوء العاقبة .
ـ أنا عروة بن الورد يا أبا النواس ، سمعت بي أم لم تسمع.
ـ أمير الصعاليك !! همسوا بصوت خافت .
ـ وماذا تريد ؟. سأل أبو نواس محاولا استظهار بعضاً من شجاعته .
ـ أن يطلق الجند سراح الرجل والغلام .
ـ أنت واهم ، قال أبو نواس باستخفاف .
ـ سترى من الواهم يا أبا نواس .
ثم استل سيفه ، فانشقت الأرض عن فرسان صاحوا جميعًا لدى رؤيتهم : الصعاليك !!
رعد صوت عروة في المكان فهاجت الخيل مذعورة .. سقط الفرسان من على ظهورها .. حاولوا اللحاق بها .. قفز أبو نواس محاولا اعتلاء صهوة جواده ، فسقط لسرعة اندفاعه.. تعثرت رجله بالركاب .. علقت به .. فجره خلفه يكنس الأرض مخلفًا سحابة من الغبار .
أحس أن اللحظة مواتية للهروب ، فلم يتردد . انطلق يسابق الريح قاصدًا البيت ، لم يفكر حتى في الالتفاف خلفه.. أعاقه باب الحوش مرة أخرى .. عالجه بأيد ترتجف وولج إلى الداخل .. ندت عنه التفاته قبل أن يغلق الباب خلفه ، فلم ير شيئًا مما كان ، جال ببصره في المكان عله يجد أثرًا لما حدث بلا جدوى .. وقع بصره على المفرش ، فهم بالرجوع لجلبه. غير أنه عاد وأقسم بألا يرجع للجلوس تحت تلك الشجرة مرة أخرى .
08-أيار-2021
12-أيار-2009 | |
23-كانون الأول-2008 | |
09-تموز-2008 | |
15-حزيران-2008 | |
07-حزيران-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |