لسع النار والمطر
2009-05-12
أرهف السمع محاولا حصر الخطى، التي تجوس العتمة على بعد جدار منه و تحديد جنسها، فعوت الريح من حوله قصفا وموتا صعق الحواس فيه وشلها، حدق في الفراغ المسكون بالسواد ساهما.. شاردا، تحاصره الهواجس من كل صوب، تستدعي لحظات مشابهة وصورا ما حادت عن ذكراه يوما، فيستعيد توازنه الذي غاب قسرا، يدنو من الجدار محاذرا .. يلتصق به فيبله العرق .
بيته المحاذي لجحيم لا يخبو ولا ينطفئ، جعله أكثر حيطة وحذرا ممن هم أبعد سكنى، تجارب الجولات السابقة، خطت في النفس سجلا يحوي الكثير من الدروس والعبر، لكنها ظلت قاصرة عن استيعاب الحدث وبكاء الصغير في الغرفة المجاورة، ينساب في أذنيه نارا ولظى .
غمغمات في الشارع أشعلت الحواس بداخله وحفزته لاقتناص ما يشير إلى أصحابها، فتاهت منه بين دوي يزلزله وصراخ يمزقه.. يفجر مكامن الغضب فيه و يربكه، يحاول جاهدا أن يتماسك من جديد.. اقتناص اللحظة التي يريد، فيقذفه الصدى إلى الجانب الآخر من الغرفة.
لحظات خيم بعدها صمت ثقيل ، صمت ضاع فيه صوت الصغير واختفى، لحظات اعتدل بعدها يعتريه الذهول والهلع، نفض الغبار عن ثيابه و استدار محاولا الخروج من الغرفة، فصار الكون من حوله جحيما يستعر.. صراخا ينفجر وموتا يكتم الأنفاس ويسدها، فأدرك حينها لمن تعود الخطى ومن هم أصحابها، حاول الوقوف من جديد، فأعيته حرقة في الحلق والعينين، حاول تفسير ما حدث ، فلم ير أثرا للجدار الذي كان يسترق السمع من خلفه، زحف إلى الغرفة المجاورة محاذرا وأمر من فيها بالخروج على عجل.
أمتار قليلة صار البيت بعدها سرابا، نظرة خاطفة إليه، ألهبت عيونهم بوهج النار المنبعثة منه وأدمت قلوبهم على شقاء ضاع في ومضة عين، لسع الريح المعبق برائحة البارود والمطر، ضيع الخطى منهم وأضاعهم، حاضر استدعى بقسوته ماض بعيد، ماض أخرجه من يافا مطرودا بالوعيد و الوعد، يومها أيضا لم تشفع له طفولته، ولم يرأف به الخوف الذي أعيى حفيده وأرقه، لكنه لم يمحو من مخيلته ذكريات شاخ وظلت على حالها.. ذكريات امتزج فيها الحنين بالألم والوعد بالأمل، ذكريات حملت لفح الخروج الأول والوعد الذي تبخر، يومها أيضا فتحت الجحيم أبوبها، فاشتعل الكون وتلظى، صار الموت غولا والأمل فسحة من زمن، حملوا على إثرها ما خف وستر .. جابوا الأمكنة هائمين.. تبعوا جموعا تفر من خوف إلى خوف و من موت إلى موت ، صاح المنادي يومها : إلى البحر.، فتبعه الناس مكرهين.
نفس الصور تعيد ذاتها، صوت يخرج من بين الجموع مناديا : إلى المدرسة .، فتبعه الناس مأخوذين، يعترض الأبن حينها: لا يا أبي ، لم تسلم من بطشهم أيضا، فيطرق الشيخ قليلا ،ثم يسأل : إلى أين إذن ؟ .
أشار الأبن بيده ومضى، فتبعوه ساهمين .. صامتين، و بعد مسيرة يحفها الموت والفزع، برزت معالم طمس الظلام جلها، لكنها لم تخف على الشيخ الذي حفظ تعاريجها، دنوا منها فبدت واضحة جلية، صفوف من الخيام تعصف بها الريح من كل جانب، فتهتز جنباتها وتتلوى حبالها مهددة بالانفلات من عقالها، دخلوا إلى إحداها، فضجت بهم واهتزت، بحثوا عن شيء يقيهم برودة الأرض وبللها، فلم يجدوا سوى كيس ألقته الريح ببابها، قده الشاب فتضاعفت مساحته، فرشه وأشار لوالده بالجلوس ، فأشاح الشيخ عنه وجلس بباب الخيمة يحدق في الفراغ المسكون بعصف الريح والنار، راح ينقب في سني العمر المديدة عن لحظة سكون .. لحظة فرح .. لحظة أمان يخلو إليها ، فقادته الخطى إلى عوالم خارج اللحظة .. عوالم من نور .. من صفاء لا ضجيج فيها ولا صخب ، عوالم أعادت إليه سنين ظل يصبو إليها و تراوغه، فحلق كطائر تملكته النشوة وهام في أرجائها.
وفي الفجر نادوه للصلاة، فلم يستجب .. حاولوا مرة أخرى، فظل مبتسما وعينه شاخصة إلى السماء .
08-أيار-2021
12-أيار-2009 | |
23-كانون الأول-2008 | |
09-تموز-2008 | |
15-حزيران-2008 | |
07-حزيران-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |