قصة / عزيزة
2007-12-29
لم تكن عزيزة كغيرها من النساء ، بل كانت شيئًا آخر.. شيئاً يستعصي على اللب وصفه أو مجاراة آيات الحسن فيه، هذا ما أجمع عليه كل من حضر مراسم الدفن وتسبب في الكثير من الألم والدموع ، لكن لا الألم ولا الدموع ، استطاعا أن ينزعا من النفس غصة فجرها مر السؤال ، عن ماهية الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذا الموت البشع وتلك النهاية المرعبة .
جحيم السؤال طوق يحاصر الضمائر المعذبة ، يتردد دويه محطمًا جسور الألم المشرعة ، في محاولة (سيزيفية) لبلوغ الحقيقة أو حتى ملامسة أطرافها ، فتسقط الصخرة مرة أخرى.. تهوى بقوة نحو القاع، ليبدأ الصعود من جديد وسر الجريمة طلسم يلاحق القرية كلها .. يدور في الشوارع .. في الأزقة .. داخل الغرف المغلقة .. يزاحم الناس في مخادعهم ، مفسحًا المجال لسيل الأقاويل ، كي تتخذ أبعادًا وأشكالاً عززتها خصوبة الخيال والرغبة في الغوص إلى أعماق تهويماته المظلمة ، بينما الحقيقة قبس ينشده الجميع ولا يصلون إليه وما لاح منه وأجمع عليه جلهم؛ أن الأمر قد حيك في ليل وأن للجاني أو الجناة أهدافهم المبيتة ، بينما عزيزة صورة من صور الماضي .. ذكرى يجترها العشاق والمعجبون .. يواعدونها بلا لقاء .. يمنونها بلا إيفاء وأحيانًا يفيض الحنين لحلو السمر ، يهيم الناس بطيب الحكايا وعذب المقال والسؤال قدر لا يكف عن السؤال : هل حقاً ماتت عزيزة ؟
سؤال يتلوه السؤال .. يحط في كل موعد دون إذن من أحد أو مراعاة لحال .. يهابه البعض .. يكرهه البعض والبعض يأبى الإجابة رغم حرقة الألم ، فيكفرون بالسؤال وأحيانًا يُكفّرُون السائل .. عزيزة لم تقتل .. عزيزة لم تمت ، عزيزة غابت .. توارت عن الأنظار .. قد تختفي إلى حين ، لكنها باقيه تنبض بالحياة .. عزيزة لا تجرؤ على هجر عشاقها ، بنفس القدر الذي لا يجرؤون معه على هجرانها أو التسليم بموتها .. عزيزة لم تعد تلك الغادة الحالمة بالأماني المبثوثة من عيون العاشقين، لكن طيفها في الطرقات والأزقة .. شذا عطرها مشبعة به النسائم وقت الأصيل .. يزاحم شذا أزهار البرتقال والحنون.. يصيح الغلمان والعشاق وحتى بهلول القرية : عزيزة بين أشجار الزيتون.. في كروم العنب المجاورة.. في ساحة القرية.. عزيزة لم تمت .
يهرع الناس .. يتجمعون حول ضريحها .. يطول الصمت والبكاء .. يصرخ البهلول : حي ..
يتردد الصدى ويدوي السؤال من جديد : من قتل عزيزة ؟
تتوالى الإجابات محاصرة في الصدور ، المختار .. زوجة المختار.. ابنة المختار .. جماعة المختار .. معلم القرية.. شيخ القرية .. أهل القرية ، يضيع السؤال في زحمة الأسماء ، كما تضيع الإجابة في زحمة السؤال وعزيزة طيف يناغي عشاقها .. يمنيهم بقرب اللقاء ، فيهيمون في الساحات والشوارع .. تعلو الزينات والرايات ، فوق المساجد والمدارس، على أسطح المنازل وأشجار السرو الفارعة ، يأتي النداء من بعيد على أوتار حنجرة يحملها البهلول : يا أهل البلد.. عزيزة محاصرة في مغارة ، مغلفة أبوابها بالحجارة .. يحرسها جند وكلاب .. تنهشها قذفًا وسباباً .. أين العشاق .. أين الأحباب .. يا أهل البلد .. يغرق الصمت في بحر من الدموع .. تئن الأزقة والساحات.. تُطفؤ الشموع وتنكس الرايات .. تجري الدموع نهرًا من حمم ، بينما الصبية يتدافعون خلف البهلول .. يتزاحمون فيعلو الهتاف : البهلول فات فات في ذيله سبع لفات.. البهلول فات ..
يتردد الهتاف في سماء القرية .. يتزايد الصبية.. تطل النسوة من خلف الأبواب والنوافذ .. يتشفين بعزيزة .. يغرين الصبية بالنزول إلى الشوارع .. يلحقن بهم مصطحبات أزواجهن ، الذين خفوا لإبداء حسن النوايا تجاههن وإبعاد أية شكوك تراودهن عن علاقة ما تربطهم بعزيزة .. تكتظ الشوارع والساحات .. يهرع شرطي لإلقاء القبض على البهلول ، معتقدًا أنه قد عاث في الأرض فسادًا.. يصطف العاشقون على جانبي الطريق .. يحاصرهم الألم والدموع ، بينما السؤال يقصف الآذان مرة أخرى : هل ماتت عزيزة ؟
.. إذن من قتلها ؟
08-أيار-2021
12-أيار-2009 | |
23-كانون الأول-2008 | |
09-تموز-2008 | |
15-حزيران-2008 | |
07-حزيران-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |