ريح في صحراء مقفرة
2008-03-03
صلية ، ثم أخرى وتفتت الصمت ، تناثر حطامه موقظاً كل من شاغل النوم أهدابه أو غلبه ، أما أنا فلم أكن قد لامست أطرافه بعد ، وقد شغلتني الأحداث من حولي ألاحقها على شاشة التلفاز من محطة إلى أخرى .
صوت الرصاص الآتي من مكان قريب ، دفعني إلى التوجه نحو الشرفة ، حدقت في عتمة الليل وصمته ، فلم ألاحظ شيئاً، نظرت إلى الساعة ، فأشارت إلى ما بعد منتصف الليل بقليل ، توقفت في مكاني للحظة مرهفاً السمع، ثم تحركت هاماً بالعودة، فترامى إلى سمعي صفير عربة إسعاف مقبلة من مكان بعيد ..عدت إلى مكاني مرة أخرى ورحت أتابع الوميض المنبعث من شارتها الحمراء ، حتى تمكنت من تحديد مكان وقوفها ، راودتني المخاوف التي أمست جزءاً من حياتنا، لكن الصمت المطبق على البلدة أزاحها عن كاهلي ، مؤملاً النفس بأن ما حدث لن يتخطى كونه حادثاً عرضياً ، ربما نتجت عنه بعض الإصابات ، غير أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير وخارج كل التوقعات .
فلم تمض سوى لحظات قليلة ، حتى انفجر البركان محدثاً زلزالاً كبيراً ، تناثرت حممه في شتى الاتجاهات موقعة الموت والدمار .. قذائف تدوي ورصاص يئز بشتى الأحجام والأنواع .. هدير الطائرات ممزوج بهدير المدرعات وصدى نداءات المكبرات خارج البلدة وداخلها محرضاً الناس على القتال ، اختلط بتلك التي ترفع آذان الفجر .
إعصار حط على نحو مفاجئ ، باغت الناس في مخادعهم فاختلطت فيه الأشياء .. كل الأشياء وتناثرت على نحو يصعب حصره أو فهم ما يحدث فيه ، سوى أن كل المؤشرات تؤكد على اقتحامهم البلدة ، كل الدلائل تشير إلى ذلك ، إلا أن شيئاً بداخلي يرفض التسليم به وكلما زاد صوت الرصاص وطغت رائحة البارود على نسائم الصبح القادم وجلاً ، زاد ذلك الشيء في داخلي إصراراً ورسوخاً .
رذاذ تنثره السماء وفي الأفق دخان بطعم البارود ، أما الأرض فنار تستعر وأنا أحوم في مكاني مثخناً بالغضب وأرق ليلة يهاجمني من كل جانب .
أهوي على مقعد في الشرفة ، دون إحساس بما يجري من حولي وربما دون اكتراث به ، بعد أن تساوت الأشياء في نظري وصرعتني حالة من انعدام الوزن ، لتحط بي بين نقطتين تتجاذباني ، صحو يستعيدني بدويه ورصاصه وقهر يقتادني نحو غيبوبة مظلمة ، أحاول الهروب منها بالنظر إلى الأفق الموشح بالسواد ورائحة البارود ، أسبح في بحره الدامي.. أغوص في أعماقه علِّي أجد ما يسري عن نفسي أو يواسيني ، فلا شيء سوى الصمت يحاصرني وصحراء تعصف ريحها منذرة بالشؤم وأنا هائم على وجهي مستذكراً تجربة الهبوط الأولى ، غير أني لا أبحث عن حواء ، بل أبحث عن ذاتي في هذه الأطراف المترامية.. أنقب في رحم التاريخ ، عن جذور بت أفتقدها، فتلقي بي المسافات ، على تخوم ومضارب سارع أهلها للإمساك بي وسؤالي ، فقلت بأني أبحث عن ذاتي.. عن جذوري .. عن فارس إن كان بينكم ، تهلل القوم وصاح أحدهم بملء فيه: عنترة .
وحين لم يجيء الرد ، اقتادني إلى خيمته ، حيث انتظرت إلى أن خرج عنترة مترنحاً ، نظر في وجهي بازدراء، ثم دفعني في كتفي قائلاً : أغرب عن وجهي الآن.. ألا ترى بأني مشغول بنظم قصيدة إلى محبوبتي عبلة ؟
نفضت التراب عن جسدي وتحاملت واقفاً ، نظرت إليه كي أبصق في وجهه ، لكنه كان قد عاد ليكمل قصيدته ، فآثرت أن أعود من حيث أتيت ، لكن الأمر لم يكن هيناً وقد تحولت صفحات التاريخ إلى وحش يطاردني ، أقوام آخرون وفرسان آخرون .. سكارى آخرون ووهم تجرعناه قروناً متتابعة ، وسط تيه يحاصرني ، فلا أجد لي مخرجاً ينقذني من الضياع ، سوى صوت الرصاص ، أحن إليه ويهديني سواء السبيل .
بينما صفحات التاريخ تطاردني .. تحاصرني وفلول من فيها هائمون على وجوههم ، ولا أجافي الحقيقة إن زعمت، بأني رأيت الشنفرى ، يسلك الشعاب هرباً من قومه، امرأ القيس ثملاً يجوب الطرقات والأزقة ، بحثاً عمن يقرضه ثمن زجاجة خمر ، أو يدعوه إلى حانة ، وعروة بن الورد يعلن ولاءه لزعماء القبيلة وقادتها ، في حربهم ضد الصعاليك وأطماعهم .
رعبٌ زاد من عزمي على الهروب نحو حاضري رغم قتامته، ليباغتني حشد من الفرسان ، صاح بي أحدهم من فوق صهوة جواده : إلى أين يا أخا العرب ؟
نظرت إلى الرجل ، فرأيته أسمر اللون والملامح ، طويل البنية، حسبته للوهلة الأولى عنترة بن شداد وقد خرج لحاجتي، بعد أن فرغ من قصيدته ، لكن كلام مرافقه دلني على هويته : يبدو أنه غريب عن مضاربنا يا أبا زيد .
- أنا من فلسطين يا سيدي .
فنظر أبو زيد إلى رجاله مستغرباً ، كأنما يسألهم عن سر وجودي في تخومهم ، عندها قال أحدهم : سيكون دليلنا في الطريق إلى أرض الزناتي خليفة .
تهلل وجه أبي زيد ، ثم أقبل نحوي وقال مرحباً : أهلاً بك في ربوعنا ، أنت ضيفٌ علينا ورفيقنا في الطريق ، لك ما لنا وعليك ما علينا .
- لكن الطريق مقطوعة يا سيدي ولا يمكن عبورها .
فتجهم وجه الرجل وسأل مستهجناً : كيف يكون ذلك ؟
- لقد قطعها اليهود واستوطنوا فيها ، حتى بات من المستحيل المرور من خلالها .
- تقصد أحفاد السموءل ، الذي عاش في أكنافنا وترعرع من خيرنا .
- نعم يا سيدي .
- لا حاجة إذن للتخوف أو القلق ، فما بيننا وبينهم أكبر من أن يثير كل هذه المخاوف .
فجعت بقول الرجل وتراخت أطرافي حتى أوشك أن يغمى علي ، لولا أن أمسك بي أحدهم ورفعني إلى صهوة جواده لتمضي الخيل دون أن أعي شيئا مما يدور حولي ، سوى وقع أقدامها ،يرن في أذني لحناً ، أعاد للنفس الهدوء والسكينة.
وفجأة تهتز الأرض من تحتي ، يعلوها الغبار وتكسوها سحب الدخان ، بينما صهيل الخيل امتزج بصياح الجند وصراخهم ، يرعد صوت أبي زيد على مقربة مني ، مطالباً الرماة بأخذ مواقعهم وإعداد سهامهم للرد على العدو ، الأمر الذي جعلني أخرج عن طوري وأصرخ في وجهه قائلاً : أي رماةٍ وأي سهامٍ يا ابن المعتوهة ، اهرب بخيلك ورجلك من هنا، قبل أن تهلكوا جميعاً .
لكن صرختي في وجهه تلاشت ، مع دوي انفجار آخر،أطاح بي أرضاً وحول أبا زيد إلى جثة هامدة ، تحسست بعض المواضع في جسدي ، فعلقت بكفي قطرات دمٍ انبثقت من خلاله .
نظرت حولي فرأيت ولدي يتحسس رأسه ، بعد أن ارتطم بالحائط المجاور ، بفعل قوة الانفجار، الذي تبين فيما بعد أنه ناجمٌ عن تفجير أحد المنازل المجاورة .
08-أيار-2021
12-أيار-2009 | |
23-كانون الأول-2008 | |
09-تموز-2008 | |
15-حزيران-2008 | |
07-حزيران-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |