Alef Logo
ابداعات
              

قصة / أبو نظارة

محمد عزوز

2008-03-16

في طفولتي ، كنت أعتبر تلك النظارة التي يضعها بعض الرجال ، وقلة من النساء على عيونهم شيئاً جميلاً ، لايصح لكل الناس ، وهو يزيد هؤلاء الناس وقاراً وجمالاً ، ويدفع الآخرين لاحترامهم .
وكنت أرى بعض الصبية يضعونها أيضاً ، فيحلو لي الأمر أكثر ، أتساءل وأسأل والدي عن ماهيتها ، فيجيبني بنزق :
ـ هؤلاء الناس لايعرفون كيف يرون بدونها ، عيونهم مريضة ...
ـ ولكني أرى بعضها أسوداً .. فكيف يرون بها ياأبي ..؟
ـ هي ليست سوداء ، أنت تراها بهذا اللون ، وهذه يضعونها للوقاية من أشعة الشمس ..!!
كانت تدور بذهني أسئلة أخرى ، إلا أنني لم أتجاسر على التمادي أكثر ، فقد بدا والدي متذمراً بعض الشيء من أسئلتي.
وظلت النظارة شيئاً جميلاً أحلم به طوال فترة طفولتي ، دون أن أجرؤ على التفكير باقتناء إحداها .. حتى أنني عندما شكوت من بعض ألم في عيني ، وعدم وضوح الرؤيا عندي ، ذهبت بي والدتي إلى صيدلية قريبة ، وأتت بقطرة عينية ، وأخذت تقطر لي منها في عيني عدة مرات في اليوم ، وأنا أتحمل بعض الألم ، دون أن يخطر في بال أحد أنني ربما أكون بحاجة إلى نظارة .
في سني مراهقتي ، وربما بعد ذلك بقليل ، قدمت لي الحبيبة المفترضة ، رداً على كلماتي الجميلة لها ، نظارة شمسية لاتختلف كثيراً في شكلها عن تلك النظارات الطبية ، ففرحت بها كثيراً ، ولازمت عيني فترة ، أقنعت فيها كل من حولي ، أنها نظارة طبية .
إلا أن بعض أترابي كشفوا زيف ادعائي ، ودفعوني لإعادتها إلى محفظتها الجميلة ، لأعود إليها كلما هاج بي الشوق والحنين إلى تلك الأيام الجميلة .
لكن عملي المكتبي بعد ذلك وتنامي هواية المطالعة عندي ، دفعاني إلى عيادة طبيب العيون
أخيراً . ولا أخفي أنني كنت فرحاً بعض الشيء ، لأنني قد أحصل على نظارة طبية ، سأتفنن في اختيار إطار ذهبي جميل لها .
وكان لي ذلك .. لم يكن الإنحراف كبيراً ، إلا أنني وحسب رأي الطبيب ، كنت بحاجة إلى نظارة كي لايزداد هذا الإنحراف ويتفاقم .
وبدأت أعتاد شيئاً فشيئاً على الكتابة والقراءة والسير بها .
وصارت النظارة جزءاً من شكلي الخارجي ، تلازمني في العمل والشارع والبيت ، حتى أنهم عندما جددوا لي بطاقتي الشخصية ومنحوني بطاقة نقابية وإجازة قيادة السيارة ، كتبوا لي أن من العلامات الفارقة : نظارات طبية .
والحقيقة أن هذا الأمر بات يزعجني ، دون أن أستطيع فعل أي شيء ، فقد بدا أن الأمر صار ضرورياً فعلاً ، خاصة أن الكثير من الكلمات الناعمة الكتابة لم أعد أستطيع قراءتها بدون النظارة ، وبت أحس بالحاجة الملحة لإعادتها إلى عيني كلما أبعدتها لسبب أو لآخر .
وسر هذا الإزعاج أنني كنت أحس أنها تضيف إلى عمري الحقيقي سنوات عديدة ، وأنها أفقدتني الكثير من الألق الذي كنت أحظى به .
أولادي بعد ذلك ، بدؤوا يحتجون بصداع أو تعبٍ أو عدم وضوح الرؤية ، مما كان يدفعني ، تحت إلحاح والدتهم أيضاً ، لإصطحابهم إلى طبيب العيون ، والخروج بنظارة لكل منهم ، واحداً بعد آخر ، وفي نهاية المطاف حصلت الأم على نظارة هي الأخرى .
الصغير فيهم ، كان أشد حرصاً على التقيد بتعليمات الطبيب ، فقد كان لايتخلى عنها إلا عند
النوم ، وربما نسيها على عينيه ، فنضطر لنزعها بعد أن يغفو ، وصار من هوسه بها ، ينهض من نومه في كثير من الأحيان ، يسأل أو يبحث عنها ، ثم يخجل إذ يكتشف أنه كان يغط في نوم عميق .
وصرنا موضع اهتمام الآخرين وتندرهم .. فإذا سرنا في الشارع ، أشاروا إلينا بالبنان وقالوا :
ـ بيت أبو نظارة ...
وإذا سأل أحدهم عنا ، تأكدوا ( بيت أبو نظارة ) ..؟ فإن استغرب السائل ، أكدوا الخبر ، فيتشبث به هو الآخر .
كتبوا على باب الدار لقبنا الجديد بألوان ثابتة دون علم منا ، ولم نعترض ، أو نحاول إزالته .
وارتبط المدخل المؤدي إلى المنزل بهذا اللقب ، وفتح البقال واللحام والخضري صفحات ديوننا بهذا اللقب ، ونسي معظم سكان الحي لقبنا الأول ، وارتبط ذلك بذاكرة بعض كبار السن ، والسكان القدامى ، وبات علينا أن نفعل شيئاً ما ، كي نغير لقبنا في بطاقاتنا الشخصية ...
وعندما أعلنت زوجتي حالة مخاضها الجديد ، وجاءت مولودتنا الجديدة ، تندرت ممرضات المشفى ، وأعلنت إحداهن أن الصغيرة خرجت من رحم أمها ونظارتها على عينيها ، وسجلت الأخرى في أوراق الأم أسم الصغيرة والكنية ( أبو نظارة ) ، وكلفني هذا الأمر الكثير من الجهد والتنقل بين المشفى ودائرة النفوس ، حتى أجريت التصحيح اللازم ، وأعدت الكنية التي عرفت بها رسمياً .
سئمت زوجتي من الحالة ومل الأولاد ، وطلبوا مني جميعاً أن أفعل شيئاً ما .
شاورت محامياً صديقاً ، فأشار علي أن أقيم دعوى قضائية على كاتب النفوس ، وأغير الكنية .
صدمني رأيه بداية ، ثم وجدت نفسي أسير معه في هذا الإتجاه ، مكلفاً من قبلي رسمياً بإقامة ومتابعة الدعوى .
جاءني بعد أشهر قليلة ، وهو يصيح قبل أن يضع يده على جرس المنزل :
ـ مرحباً ياأستاذ أبو نظارة ...
ولما فتحت الباب ، هتف مجدداً :
ـ نريد ( حلواناً ) ... لقد ربحنا الدعوى .. وصرتم ( أبو نظارة ) في القيد وعرف الناس .
لم أتحمس لما قاله ، بل أصابتني حالة ذهول أعاقتني عن الكلام .
انتظر مني أن أرد ، أن أفعل شيئاً آخر ، ولما طال انتظاره ، عاد يسألني :
ـ مابك يارجل ...؟
ـ لاشيء .. لاشيء .. كنت فقط أفكر بتاريخ الأسرة ، بأهلي وأقاربي .. لقد صرنا من عائلة أخرى لاتتفق في إسمها مع أي إسم آخر ..!!
ـ لكنك عندما وكلتني بالقضية ، لم تفكر بذلك ، كنت تريد أن تجعل من اللقب إسماً واقعاً في السجلات ، تماماً كما كان في الحي والمدينة ، وتم لنا ذلك . الآن صرت تريد تاريخ الأسرة والأهل ..!!
أخرسني بجوابه ، طال صمتي ، وطال معه تأمله لهذا الصمت الذي قطعه نداء أحدهم ، جاء يسأل عن الأستاذ أبي نظارة ....

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عروش / قصة:

12-تشرين الثاني-2010

قصائد مديحة المرهش تضج بالحكمة المريحة قراءة في مجموعة ( أنا المولودة في برج القوس )

01-حزيران-2010

اتفاق العيون

07-شباط-2010

وتنساب كلماتك

28-كانون الأول-2009

قصة / أبو نظارة

16-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow