قصة / أبو نظارة
2008-03-16
في طفولتي ، كنت أعتبر تلك النظارة التي يضعها بعض الرجال ، وقلة من النساء على عيونهم شيئاً جميلاً ، لايصح لكل الناس ، وهو يزيد هؤلاء الناس وقاراً وجمالاً ، ويدفع الآخرين لاحترامهم .
وكنت أرى بعض الصبية يضعونها أيضاً ، فيحلو لي الأمر أكثر ، أتساءل وأسأل والدي عن ماهيتها ، فيجيبني بنزق :
ـ هؤلاء الناس لايعرفون كيف يرون بدونها ، عيونهم مريضة ...
ـ ولكني أرى بعضها أسوداً .. فكيف يرون بها ياأبي ..؟
ـ هي ليست سوداء ، أنت تراها بهذا اللون ، وهذه يضعونها للوقاية من أشعة الشمس ..!!
كانت تدور بذهني أسئلة أخرى ، إلا أنني لم أتجاسر على التمادي أكثر ، فقد بدا والدي متذمراً بعض الشيء من أسئلتي.
وظلت النظارة شيئاً جميلاً أحلم به طوال فترة طفولتي ، دون أن أجرؤ على التفكير باقتناء إحداها .. حتى أنني عندما شكوت من بعض ألم في عيني ، وعدم وضوح الرؤيا عندي ، ذهبت بي والدتي إلى صيدلية قريبة ، وأتت بقطرة عينية ، وأخذت تقطر لي منها في عيني عدة مرات في اليوم ، وأنا أتحمل بعض الألم ، دون أن يخطر في بال أحد أنني ربما أكون بحاجة إلى نظارة .
في سني مراهقتي ، وربما بعد ذلك بقليل ، قدمت لي الحبيبة المفترضة ، رداً على كلماتي الجميلة لها ، نظارة شمسية لاتختلف كثيراً في شكلها عن تلك النظارات الطبية ، ففرحت بها كثيراً ، ولازمت عيني فترة ، أقنعت فيها كل من حولي ، أنها نظارة طبية .
إلا أن بعض أترابي كشفوا زيف ادعائي ، ودفعوني لإعادتها إلى محفظتها الجميلة ، لأعود إليها كلما هاج بي الشوق والحنين إلى تلك الأيام الجميلة .
لكن عملي المكتبي بعد ذلك وتنامي هواية المطالعة عندي ، دفعاني إلى عيادة طبيب العيون
أخيراً . ولا أخفي أنني كنت فرحاً بعض الشيء ، لأنني قد أحصل على نظارة طبية ، سأتفنن في اختيار إطار ذهبي جميل لها .
وكان لي ذلك .. لم يكن الإنحراف كبيراً ، إلا أنني وحسب رأي الطبيب ، كنت بحاجة إلى نظارة كي لايزداد هذا الإنحراف ويتفاقم .
وبدأت أعتاد شيئاً فشيئاً على الكتابة والقراءة والسير بها .
وصارت النظارة جزءاً من شكلي الخارجي ، تلازمني في العمل والشارع والبيت ، حتى أنهم عندما جددوا لي بطاقتي الشخصية ومنحوني بطاقة نقابية وإجازة قيادة السيارة ، كتبوا لي أن من العلامات الفارقة : نظارات طبية .
والحقيقة أن هذا الأمر بات يزعجني ، دون أن أستطيع فعل أي شيء ، فقد بدا أن الأمر صار ضرورياً فعلاً ، خاصة أن الكثير من الكلمات الناعمة الكتابة لم أعد أستطيع قراءتها بدون النظارة ، وبت أحس بالحاجة الملحة لإعادتها إلى عيني كلما أبعدتها لسبب أو لآخر .
وسر هذا الإزعاج أنني كنت أحس أنها تضيف إلى عمري الحقيقي سنوات عديدة ، وأنها أفقدتني الكثير من الألق الذي كنت أحظى به .
أولادي بعد ذلك ، بدؤوا يحتجون بصداع أو تعبٍ أو عدم وضوح الرؤية ، مما كان يدفعني ، تحت إلحاح والدتهم أيضاً ، لإصطحابهم إلى طبيب العيون ، والخروج بنظارة لكل منهم ، واحداً بعد آخر ، وفي نهاية المطاف حصلت الأم على نظارة هي الأخرى .
الصغير فيهم ، كان أشد حرصاً على التقيد بتعليمات الطبيب ، فقد كان لايتخلى عنها إلا عند
النوم ، وربما نسيها على عينيه ، فنضطر لنزعها بعد أن يغفو ، وصار من هوسه بها ، ينهض من نومه في كثير من الأحيان ، يسأل أو يبحث عنها ، ثم يخجل إذ يكتشف أنه كان يغط في نوم عميق .
وصرنا موضع اهتمام الآخرين وتندرهم .. فإذا سرنا في الشارع ، أشاروا إلينا بالبنان وقالوا :
ـ بيت أبو نظارة ...
وإذا سأل أحدهم عنا ، تأكدوا ( بيت أبو نظارة ) ..؟ فإن استغرب السائل ، أكدوا الخبر ، فيتشبث به هو الآخر .
كتبوا على باب الدار لقبنا الجديد بألوان ثابتة دون علم منا ، ولم نعترض ، أو نحاول إزالته .
وارتبط المدخل المؤدي إلى المنزل بهذا اللقب ، وفتح البقال واللحام والخضري صفحات ديوننا بهذا اللقب ، ونسي معظم سكان الحي لقبنا الأول ، وارتبط ذلك بذاكرة بعض كبار السن ، والسكان القدامى ، وبات علينا أن نفعل شيئاً ما ، كي نغير لقبنا في بطاقاتنا الشخصية ...
وعندما أعلنت زوجتي حالة مخاضها الجديد ، وجاءت مولودتنا الجديدة ، تندرت ممرضات المشفى ، وأعلنت إحداهن أن الصغيرة خرجت من رحم أمها ونظارتها على عينيها ، وسجلت الأخرى في أوراق الأم أسم الصغيرة والكنية ( أبو نظارة ) ، وكلفني هذا الأمر الكثير من الجهد والتنقل بين المشفى ودائرة النفوس ، حتى أجريت التصحيح اللازم ، وأعدت الكنية التي عرفت بها رسمياً .
سئمت زوجتي من الحالة ومل الأولاد ، وطلبوا مني جميعاً أن أفعل شيئاً ما .
شاورت محامياً صديقاً ، فأشار علي أن أقيم دعوى قضائية على كاتب النفوس ، وأغير الكنية .
صدمني رأيه بداية ، ثم وجدت نفسي أسير معه في هذا الإتجاه ، مكلفاً من قبلي رسمياً بإقامة ومتابعة الدعوى .
جاءني بعد أشهر قليلة ، وهو يصيح قبل أن يضع يده على جرس المنزل :
ـ مرحباً ياأستاذ أبو نظارة ...
ولما فتحت الباب ، هتف مجدداً :
ـ نريد ( حلواناً ) ... لقد ربحنا الدعوى .. وصرتم ( أبو نظارة ) في القيد وعرف الناس .
لم أتحمس لما قاله ، بل أصابتني حالة ذهول أعاقتني عن الكلام .
انتظر مني أن أرد ، أن أفعل شيئاً آخر ، ولما طال انتظاره ، عاد يسألني :
ـ مابك يارجل ...؟
ـ لاشيء .. لاشيء .. كنت فقط أفكر بتاريخ الأسرة ، بأهلي وأقاربي .. لقد صرنا من عائلة أخرى لاتتفق في إسمها مع أي إسم آخر ..!!
ـ لكنك عندما وكلتني بالقضية ، لم تفكر بذلك ، كنت تريد أن تجعل من اللقب إسماً واقعاً في السجلات ، تماماً كما كان في الحي والمدينة ، وتم لنا ذلك . الآن صرت تريد تاريخ الأسرة والأهل ..!!
أخرسني بجوابه ، طال صمتي ، وطال معه تأمله لهذا الصمت الذي قطعه نداء أحدهم ، جاء يسأل عن الأستاذ أبي نظارة ....
08-أيار-2021
12-تشرين الثاني-2010 | |
قصائد مديحة المرهش تضج بالحكمة المريحة قراءة في مجموعة ( أنا المولودة في برج القوس ) |
01-حزيران-2010 |
07-شباط-2010 | |
28-كانون الأول-2009 | |
16-آذار-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |