رغمَ أنفِ "ستاربكس"
2008-10-31
عندما استدرتُ لابتسمَ له، وجدتُ أنه يشبه صديقي "هلال" بعمقٍ لا يتعدى فحشَ اللحظة الآنية.
ربما
بل هو الشوق..
ربطتُ رأسي بمنديلٍ أزرقٍ لا يضاهي طوق الياسمين الذي كنتُ أصنعهُ لجدتي الطيبة لتضعه على رأسي برفقٍ..
كان يتساقط ُ الياسمين كأنه يصعدُ، يضيءُ فوق بلاط الحديقة، يفرشُ مقعداً لأصابع أطفال العائلة كلهم. أليس َ هو حديث الروح؟
لم أشأ يوما ً أن أقطفهُ طفلا ً..كانت أغصانه عشاً ناعماً لرائحتهِ الحنون.
-هل لي بياسمين الحديقةِ يا جدّي؟
افتح عينيَ ببطءٍ شديدٍ لأنّ الكسل خدّرني اليومَ و أنا نائمة في حديقةِ المكتبة.
"العشب"،
يستهويني العشبُ المتوقظ ُ كأنهُ يكتبُ سطرا ً من الوجودِ ليتجاوزَ محدودية النافورة و المكان.
لم يتغير شيءٌ منذ أتيتُ اميركا..ربما تأثيرها بي بسيطٌ جداً، على الأقل خارجياً.
لا زالتِ الألوان نفسها، بيوتُ القرميدِ الجميلة التي تخلو حدائقها من الناس، ضحكاتهم، عبثهم أو توردِ خدودهم الطارئ لأن ريبيكا نسيت- عمدا ً –أن ترتدي حمّالة صدرها السوداء، لتعكسَ الشمسَ استدارةَ حلمتيها و انوثتها اللاهمجية الناعمة..
لكن من سينظر إلى ريبيكا؟ و الكل مسرعٌ إلى عمله، لفنجان القهوة الاكسبريسو في مقهى"ستاربكس". ليس مقهىً بالنسبة لي؛ إنه أشبه بكشكٍ، لا يشبه اشكاكنا البرتقالية و الحمراء الجميلة، حيث عليك أن تشتري مجلة أو جريدة بسرعةٍ..لا تستطيع حتى أن تفكر بلون قهوتك، بحميمية "طحل" فنجان القهوة الصغير الذي تشربه مع صديقٍ قديمٍ قائلاً :" دايمة" حتى لو لم تصنعه أمه الطيبة أو يديه الحاضرتين كرماً.
الناسُ هنا ككؤوس قهوة ستاربكس-سريعون، خفيفون، متشابهو اللون و الطعم، ربما يفتقدون الرائحة كما هي القهوة السريعة، السريعة جداً.
تقول ُ لي ماري: "صباحُ الخير" بابتسامةٍ مقتضبة، تمضي مسرعةً:
"اعتذرُ، انا مشغولة"
"أراكِ لاحقاً، عندي بعض الاعمال" ( دائما عندهم بعض الأعمال)
"هل ستأتين للقاء القسم في البار أول جمعة من الشهر القادم"
ياااااا آلهي..أغلبهم يتحدثونَ هكذا بنفسِ الصوتِ و النبرة، يبدون فرحاً عادياً، صوتهم واحدٌ لا يصعدُ لشبابيك قلبي أو يهبط لوحدة روحي.
"ستعتادينَ على هذا البرود": ضحكتُ بسخريةٍ منذ البداية. لكنْ، كلنا بشر و لنا ظروفنا الخاصة التي تحكمنا شئنا أم أبينا. تريثي قليلاً..الأمل و الصبر يا روحي.
بعدَ شهورٍ و سنةٍ لم أحصها لأنها مضت و تمضي بروتينٍ قاتلٍ ، بتكاتٍ هادئةٍ جداً كأنها موتٌ بطيء لا إرادي، و لا انفعالي، تسيطر عليه قوةٌ خارجة ٌ عن السيطرة. كأنّ الناسَ منوََّمون مغناطيسيا ً.
أحدّث أصدقائي في الوطن، في كل مدينةٍ تمتد ليديها روحي الظمأى، أشاركهم شعوري بلعنةِ الاغتراب و تشوه أميركا و فراغها من كلّ شيء، لأنها ملأى بالصخب و القوالب و حياة الاستهلاك..
بسأمٍ باردٍ يقول أغلبهم:
"لك حمدي ربك انك باميركا
هي اميركا يا منار ، اميركا، عيشي التجربة بكل أبعادها، و تعلمي منهم و من عاداتهم، حاولي التأقلم"
أعودُ إلى منزلي بعد انتهاءِ دوامي الجامعي و الساعاتِ الطويلة التي أقضيها في المكتبة . أضع أشيائي جانباً، أحضّر فنجان قهوةٍ عربيةٍ، أصبّ لاثنين استمع إلى فريد الأطرش:
" أنا وحدي بأشواقي ،لا ناس لا كاس ولا ساقي،
و على عهدك انا باقي و قلبك والله بيدلك و قلبك..اشتقتلك"
أشربُ قهوتي بضجيج مركبٍ، أما فنجاني الصديق، يشربه صمتي ببالٍ طويلٍ و مشاعر لا ينهكها التعبْ و لا خلو الكؤوس المسطحة من الهالِ اللذيذ و من شقاوة ِ طفلةٍ لا زال الياسمين يصعدُ بينَ عينيها..بهدوءٍ مملٍّ هذا الصباحْ.
منار شعبوق
5- تشرين الأول- 08
حديقة مكتبة كوبّر – كارولينا الجنوبية
08-أيار-2021
19-حزيران-2009 | |
31-تشرين الأول-2008 | |
17-آب-2008 | |
05-كانون الأول-2007 | |
23-آب-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |