في تذكّر الحاج مدبولي!!
2009-05-05
لا ينبغي أن يمر رحيل عميد الناشرين المصريين والعرب محمد مدبولي محمد حسين أو "الحاج مدبولي" بشكل عابر، لأن الرجل البسيط غير المتعلم ذو الجلباب الصعيدي التقليدي، بات أيقونةً ثقافيةً حقيقيةً مع تشبّثه بسياسة نشر ليبرالية نوعاً ما، وارتباطه بالفكر الناصري وفترة التحرر الثوري في الستينات، وإصراره على نشر وتوزيع وعرض الكتب بمختلف أنواعها حتى الشعبية والمحظورة منها، مثل كتب محمد حسنين هيكل ونوال السعداوي ورواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، ورواية (مسافة في عقل رجل) عام 1991 التي دفعت جماعات إسلامية إلى تهديده بحجة إساءتها للدين، وتحولت لقضية رأي عام اهتمّت بها قنوات مثل الـ CNN والـ BBC بعد الحكم عليه بالسجن لثمان سنوات بتهمة "ازدراء الأديان"، فتضامن معه المثقفون والكتّاب وأوقف الرئيس مبارك تنفيذ الحكم.. وهكذا بلغ عدد قضايا النشر المرفوعة ضد مدبولي خلال مشواره المهني أكثر من 20 قضية.
البداية..
ولد الحاج في إحدى قرى الجيزة عام 1938 لأسرة صعيدية الأصل (من سوهاج)، عمل مع والده في توزيع الصحف مذ كان في الخامسة، قبل أن يبدأ ببيع الكتب على عربة متنقلة صغيرة، تحولت لاحقاً إلى مكتبة ضخمة في ميدان طلعت حرب وسط القاهرة بالقرب من مقهى ريش الشهير. عشق مدبولي الشاب الرئيس جمال عبد الناصر واعتنق فكره، حتى أنه في فترة حكم السادات نشر عشرات الكتب المناوئة لهذا الأخير، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية كامب دافيد.. يقول الحاج مدبولي عن تلك الفترة: "بدأت شغل من قبل الثورة منوأنا عندي خمس سنوات، وكان الوالد متعهد لبعض شركات بيع الجرائد، أحببت المهنةوأعجبت بها، وأنا لا كنت تعلمت ولا دخلت لا كتّاب ولا مدرسة، لذلك كان هدفي أعلّمالناس وأعمل صرح، عبد الناصر علّمنا إن كل واحد يبني طوبة للبلد، وأنا وجدت الكتب هيالطوبة بتاعتي.. في فترة عبد الناصر كان هناك نهضة موجودة، وكل ست ساعات تجد كتاباًجديداً، لأن الناس كانت ترغب في بناء البلد".
ظاهرة عالمية..
تحولت (مكتبة مدبولي) بعد إنشاء دار النشر إلى ظاهرة ثقافية ذائعة الصيت استرعت انتباه العالم بأسره، فكتبت المخابرات الأمريكية CIA عن الكشك في بداياته تقريراً جاء فيه: "إن هذا الكشك أصبح ظاهرة ثقافية رائعة للمصريين والعرب على حدسواء"، كما قيل عن المكتبة في المغرب ولبنان إنها بورصة الكتاب وبوصلة الكاتب والباحث، ولقبت بعض الصحف العربية مدبولي بـ "وزير ثقافة العرب"، وقال بعض الحكام وكبار المسؤولين: "تعلّمنا في مكتبةمدبولي مثلما تعلمنا في جامعة القاهرة، وأحياناً كنّا نستعير الكتاب أو الروايةبل ونقترض بعض المال من مدبولي ريثما تصلنا التحويلات من أهلنا".
ارتبط الحاج مدبولي بعلاقات صداقة متينة مع أكبر الأدباء والشعراء العرب، فكتب عنه نزار قباني ذات يوم: "إحنا بنحب مدبولي عشان هو بيحب الكتاب، بيتعامل مع الكتاب كإنسان"، وعندما أصدر المحافظ قراراً بإزالة الكشك، وقف أنيس منصور وغيره إلى جانب مدبولي بأقلامهم لإيقاف القرار، في حين اعتاد نجيب محفوظ التوقف في المكتبة دائماً في طريقه إلى مقهى ريش القريب.
توفي الحاج مدبولي يوم 5 كانون الأول من العام الفائت بعد صراع مضن مع سرطان الكبد، وشيعه كبار المثقفين والمسؤولين المصريين.
أخيراً..
العلمية الفطرية في التسويق، سياسة النشر الجريئة، التشبّث الشرس بحرية التعبير والإبداع، صناعة ماركة ثقافية مسجلة جاذبة للقراء، تعميم حب القراءة بحد ذاتها، خلق مناخ صحي وبيئة ثقافية منتجة... كلها عناصر ونقاط يمكن الوقوف عندها وإعمال العقل التحليلي في حيثياتها بمجرد الاطلاع على تجربة الحاج مدبولي الغنية، والتفكّر بواقع النشر وتوزيع المطبوعات في بلادنا: هل تقوم المؤسسة العامة للمطبوعات بدورها على أكمل وجه وبالحيادية المطلوبة؟ من يقيّم الأعمال الأدبية حقاً، الجهات الأمنية أم الثقافية أم كلاهما معاً؟ وما سبب تكدّس العناوين المهمة (وغير المهمة) في غياهب المستودعات كيفما اتفق، رغم أن عدد نسخها لا يتجاوز الـ 500 في أغلب الأحيان؟!!
نكرر مرة ثانية: لا يجوز أن يمرّ رحيل الحاج مدبولي -بكل إسقاطاته ومعانيه- بشكل عابر.. لا يجوز أبداً!!
علي وجيه
[email protected]
08-أيار-2021
11-تموز-2010 | |
14-حزيران-2010 | |
«جزيرة شاتر».. درس سكورسيزي الجديد دعوة صارخة للتعمّق في النفس البشرية |
08-أيار-2010 |
17-نيسان-2010 | |
14-آذار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |