عندما ترسّخ الميديا ثقافة القشور
2010-04-17
لا يمكن الخوض في موضوع شائك كعلاقة الميديا بالثقافة أو حتى الميديا بوصفها ثقافة متحوّلة مع تطوّر العصر والتقدّم التكنولوجي، دون ذكر التغيّرات الجديدة في آلية تفكير المجتمعات، وكيفية تعاطي أفرادها مع المفاهيم المختلفة. الانتقال من المرحلة الاستهلاكية (الصناعية) إلى ما بعد الاستهلاكية (ما بعد الصناعية) في العالم لم يمر دون تغيير، ويمكن من خلال مناقشة هذه التغييرات مقاربة بعض حيثيات موضوعنا هذا، وتحديد بعض العوامل التي أوصلت الميديا إلى ترسيخ ثقافة عناوين سطحية وفقاعات تكاد تكون واحدة عند الجميع.
الميديا: الأسطورة المتغيّرة
رولان بارت Roland Barthes، فيلسوف فرنسي وناقد أدبي ودلالي (1915 - 1980)، تحدّث عن حاجة الإنسان الدائمة إلى أساطير تعينه على العيش والتكيّف والتواصل، فصناعة الأسطورة باتت وظيفة سياسية. في حين أشار إرنيست كاسيرر Ernst Cassirer، فيلسوف ومفكّر ألماني (1874 – 1945)، إلى ظهور قوة جديدة مفزعة في الفكر السياسي الحديث هي قوة الفكر الأسطوري، حيث أصبحت غلبة الفكر الأسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية الحديثة.
في هذه المرحلة ما بعد الاستهلاكية (ما بعد الصناعية) التي وصلت إليها المجتمعات، بات للترويج أهمية كبرى تتفوق على المنتج نفسه، وراح التخصص يتّخذ أهمية متزايدة. من هنا فرضت ثقافة الصورة نفوذها المطلق، وأصبح الناس مثقفون على هوى المراكز الإعلامية الصانعة للرأي العام في العالم، وظهرت مصطلحات نقدية وفكرية مواكبة لا بد من ذكرها والتعرّف عليها، لعلّ من أبرزها ما سمّي بـ «الميديولوجيا».
ريجيس دوبريه والميديولوجيا
يُعد الفرنسي ريجيس دوبريه (1941 - ) من أهم فلاسفة ومفكّري النصف الثاني من القرن العشرين، ومن أشهر المناضلين السياسيين في العالم. عاش شبابه الأول في كوبا، قبل أن يلتحق بغيفارا في بوليفيا ويُسجن أربع سنوات، ثم يذهب إلى تشيلي ويلتقي سلفادور الليندي، وبابلو نيرودا. عاد دوبريه إلى فرنسا بعد الانتكاسة في تشيلي، ليرتبط لفترة لا بأس بها باليساري «المعتدل الرائع» رئيس البلاد المستقبلي فرانسوا ميتران، الذي فتح له بيته وذراعيه كما كان يفعل عادةً مع «أيتام القضايا الخاسرة» كما يصف دوبريه، حيث تولّى الشؤون الخارجية بين عامي 1981 - 1985. وهو مؤسس مجلة «ميديوم» عام 2005 وحائز على جائزة «فمينا» الشهيرة في الرواية عن روايته «الثلج يشتعل» (دار الآداب 2006).
ابتكر دوبريه مصطلح «الميديولوجيا» Mediology، واستعمله في كتاب له بهذا العنوان (أو علم الإعلام العام، باريس 1991، بيروت دار الطليعة 1996)، بمعنى علم وسائل/وسائط الإعلام. موضوعه: «درس الوسائط المادية التي يتجسد عبرها الكلام»، حيث يفرّق دوبريه صاحب «ثورة في الثورة» (دار الآداب 2006) بين ثلاث مراحل لتاريخ الإعلام:
- مرحلة الإعلام الخطابي، الكلام، المتوافقة مع عصر الكتابة والعبادة.
- مرحلة الإعلام الخطي، الكتابة، المتوافقة مع عصر الفن (من الطباعة إلى بداية التلفزة).
- مرحلة الفيديو (أنا أرى)، المتوافقة مع العصر البصري: (في العصر البصري، يُرى كل شيء، ولكن لا تعود ثمّة قيمة لأي شيء مرئي).
هكذا تحيط بنا ثقافة الصورة وتحكم السيطرة على كل الموارد الثقافية المفترضة، فيصير التلفزيون هو السيد بتطوّراته المرتبطة بالصورة والشكل في المقام الأول. يولي دوبريه سلطة حاسمة للجهاز التقني، ويرى أنّ الثقافة البصرية تتخلّق بأخلاق الآلة التي تحملها، وأنّ التلفزيون، ذلك الجهاز الذي يتطلب السرعة والمباشرة والآنية، والصورة الجميلة، والأنوثة، والألوان الحية، هو مكوّن أصلاً للتسلية، وهو متوافق تماماً مع غايته، مع قدرة كبيرة على تحويل الواقع إلى خرافة.
اللحظة هي البطل هنا، والجزء من الثانية قادر على إحداث الفرق. كل شيء أصبح محموماً، وبحسب جاك غوتراند فإنّ الوسائل السمعية البصرية دشّنت علاقة جديدة للإنسان مع الوقت. إذاً هي «ثقافة اللحظة» التي تحدّث عنها دوبريه « الإنسانيات في أزمة.. منذ تقوّضت الدراسات الأدبية، تحديداً الدراسات اليونانية واللاتينية.. أصبحت عقولنا ضيقة، بدون رجعة، موسوسة بالحالية».
دوبريه يتنصّل من أبوّة الميديولوجيا، ويرجعها إلى فيكتور هوغو «الميديولوجيا ليس لها أب. إنّها عائلة كبيرة.ديدرو، فالتر بنجامان، دا جونيه.. إذا أردنا مؤسساً، لنأخذ فيكتور هوجو». ينطلق دوبريه في نقد الميديا من الطبيعة النقدية للفكر الذي ينتمي إليه، فهو يميّز بين «الظاهرة التقنية» و«الظاهرة الثقافية»، ويرى أنّ التقنية أو وسائط النقل نفسها في كل أنحاء العالم، إلا أنّ المحتوى الثقافي الذي تبثّه هو المهم. وعليه فإن التقنية تجمع الناس لكن الثقافة تمايز بينهم.
هيمنة الثقافة الواحدة
تروّج شبكات الإعلام الكبرى لما تشاء من مواد، صانعةً الثقافة التي تريد في أذهان تاركي البحث والاستقصاء والمعتمدين على ثقافة «الوجبة السريعة». وتكرّس هذه الشبكات مَن تختار ليكون من نجوم الثقافة المعروفين. هكذا تجد أنّ الكل يذكر، على سبيل المثال لا الحصر، دان براون وعلاء الأسواني في الرواية، وأدونيس في الشعر، وسعد الله ونّوس مع كلماته الشهيرة «نحن محكومون بالأمل» وبيتر بروك في المسرح. هي أسماء مكرّسة تُذكَر دائماً دون معرفة إنجازات أصحابها بالضبط، لأنّ وسائل الإعلام تردّد وتعيد بسطحية باتت مكرّسة بدورها، وبالتالي يُمجّد الاسم/النجم دون الدخول في عوالم منجزه الحقيقي.
نفس المبدأ ينسحب على الأشياء والماديات وحتى المفاهيم المعنوية، فالانتقائية التي تعمل وفقها وسائل الإعلام تمارس تأثيراً يصل لدرجة التكريس، وهذا الأخير يدفع المتلقّي إلى الاعتقاد ثمّ إلى الإيمان. وبالتالي تتحدد سوية الإنسان الثقافية ويتماشى مدى اطّلاعه مع إرادة صنّاع الميديا كما ذكرنا. لنحاول مقارنة عدد السوريين الذين يعرفون موقع قلعة المرقب أو أوغاريت بعدد الذين يعلمون بمكان برج إيفل، ولنسقط الرقم الناتج عن عملية النسبة والتناسب السابقة على ما يقوله ريجيس دوبريه، الذي قدّم طرحاً مفيداً في حالتنا هذه بعنوان: «زائر الفجر: كريستوف كولومبوس مكتشف أم قرصان؟» فهو لا يسلّم بصورة العالِم التي روّجت عن الرحّالة الإيطالي الشهير، بل يكشف جانبه التجاري الشغوف بالمال وعمليات النهب التي قام بها، ويقارنها بجانبه المتديّن والإنجازات العلمية التي قدّمها.
يحاول دوبريه أن يعلّمنا أنّه لا توجد بروباغندا بريئة أو مسلّم بها. يقول: «إنّ التأثير يعني الدفع إلى الاعتقاد، والدفع إلى الاعتقاد يعني إعطاء مبررات للحياة. وهذه المبررات هي أولاً صور، وقوى لأناس ولأشياء».
المعطيات السابقة تحيلنا إلى هيمنة الثقافة الواحدة على العالم، وحتى لا ندخل في علاقة الموضوع بالغزو الثقافي والتبعات السياسية و«مفارقات العولمة» كما سمّاها دوبريه في محاضرته في المركز الثقافي بدمشق عام 2008، نكتفي بالإشارة إلى ما جاء في إعلان مبادئالتعاون الثقافي الدولي الذي اعتمده المؤتمر العام لليونسكو عام 1966: «تتشكلجميع الثقافات بما فيها من تنوع خصب وما بينها من تباين وتأثير متبادل كجزء منالتراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعاً» وهنا حضّ على التنوعوالتباين والتبادل وليس على هيمنة ثقافة معينة على أخرى.
موقف المثقف
كل ذلك أوصل بعض المثقفين إلى الشعور باللا جدوى، فيئس البعض وتراجع البعض عن مواقفه وعاش آخرون عزلة اختيارية عن الحراك المجتمعي. وغنيّ عن الذكر أنّ تقاعس المثقف عن القيام بواجبه التنويري، والاشتباك مع محيطه، والتفاعل حتى مع الرداءة لترويضها، أدّى إلى شبه غياب أو تعطيل لخصوم ثقافة القشور التي تنشرها الميديا اليوم. في كتابه «كي لا نستسلم» 1995 الذي ترجمه بسام حجار إلى العربية، تساءل دوبريه عن جدوى أن يكون المرء مثقفاً، داعياً المثقف إلى العودة إلى حجره أو جحره، وعدم الإدلاء بدلوه في الشأن العام. فالأفكار ما عادت تقود العالم، والكتب ما عادت تصنع الثورات.
ضرورة الفضائيات الثقافية
ظهرت مؤخّراً بعض المفاعيل الثقافية الإيجابية التي تمكّنت من إيجاد حيّز لها في السوق الإعلامي، منها شبكة arte الفرنسية الألمانية التي بدأت بثها عام 1992 وباتت تبث الآن بتقنية الـ HD، وشبكة Discovery الأمريكية التي أسّستها BBC عام 1985. وفي الوطن العربي هناك «الجزيرة الوثائقية» التي أطلقتها شبكة الجزيرة من الدوحة مطلع كانون الثاني 2007، وقناة «ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي» التي انطلقت في النصف الثاني من العام الفائت، وتنال شعبية متزايدة لدى أفراد العائلة.
تلك القنوات على اختلاف توجّهاتها الترفيهية والثقافية، لم تهمل مبدأ الصورة الحديثة والجذابة، ولم يؤثّر محتواها الغني على انسيابية القناة وحيوية برامجها واهتمامها بالترويج والبروموشنات المشغولة بعناية. ويحلو للبعض تشبيه أسلوب عملها بالـ «بونبونة» المغرية من الخارج والغنية بالدسم من الداخل.
أيضاً لا يمكن إغفال بعض الالتماعات المحلية، سواءً في الفضائية السورية أو على شاشة الفضائية التربوية التي انطلقت أواخر عام 2008. ورغم افتقاد بعض التوابل الجماهيرية التي قد تكون مكلفة في المنتج المحلي، إلا أنّه يُحسَب له محاولة الحفاظ على خطاب ثقافي محترم، ومراعاة أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين العرب وأبناء الجاليات وحتى الأجانب الراغبين بتعلّم العربية، بعكس بعض القنوات الثقافية التي لم تلقَ رواجاً بسبب إغراقها في المحلية مثل قنوات النيل المتخصصة في مصر.
هذا يقودنا إلى المطالبة بتوسيع هذا النموذج من خلال القنوات المتخصصة التي ستغني المحتوى الثقافي الهادف من منابرها، وستفسح المجال أمام جرعات التسلية التي طالما انتُقد التلفزيون المحلي بسببها على قنوات أخرى. وإذا كنّا قد نجحنا في صناعة المنتج الدرامي وصولاً إلى إطلاق قناة متخصصة بالدراما العام الماضي، فإنّ المطالبة بفضائية ثقافية سورية لا تبدو ضرباً من الخيال، خصوصاً أنّ المنتج الثقافي السوري لا يقل غنى وإغراءً عن نظيره الدرامي، إذا تمّت صناعته وتسويقه بالشكل الصحيح.
أخيراً
إذا كانت الميديا من أساطير العصر الحديث، فإنّ المثقفين مطالبون اليوم بترويضها لصالحهم، مع إدراك أهميتها الترفيهية وعنصر التسلية المطلوب حتماً، شريطة ألا يطغى جانب على آخر أو تجور هوية ثقافية معينة على أخرى.
علي وجيه
[email protected]
النشر الورقي: جريدة «شرفات الشام».
النشر الألكتروني خاص ألف
شكر
2016-03-11
نشكركم على هذه المادة الثقافية التي استمتعت واستفدت من قراءتها http://aboubspace.weebly.com/
08-أيار-2021
11-تموز-2010 | |
14-حزيران-2010 | |
«جزيرة شاتر».. درس سكورسيزي الجديد دعوة صارخة للتعمّق في النفس البشرية |
08-أيار-2010 |
17-نيسان-2010 | |
14-آذار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |