«جزيرة شاتر».. درس سكورسيزي الجديد دعوة صارخة للتعمّق في النفس البشرية
2010-05-08
يؤكّد ليوناردو دي كابريو في تصريح صحفي أنّ فيلمه الجديد مع مارتن سكورسيزي «جزيرة شاتر» أفضل ما قدّمه مع هذا الأخير، وأنّ سكورسيزي يستحق وصف «أفضل مخرج في الحقبة الحالية». فصاحب «سائق التاكسي» و«الثور الهائج» «قدّم أفضل ما لديه، وأدهشنا بعمق معالجته للشخصيات على الشاشة»، يقول دي كابريو في حديثه لصحيفة «الدياريو دي أوي» السلفادورية.
حكاية دي كابريو مع المخرج النيويوركي ذي الأصول الإيطالية، تعود لبدايات الألفية الجديدة بفيلم «عصابات نيويورك» 2002، الذي قدّم العاشق الوسيم على سفينة «تايتانيك» بحضور مختلف أكثر عمقاً وتأثيراً، مع عالم العصابات والجريمة والانتقام، ووجه أمريكا المظلم كأمّة قائمة على العنف بحد ذاته. ورغم أنّ دي كابريو لم يصمد في ذلك الفيلم أمام «وحش» لا يرحم في عالم التمثيل هو دانييل داي لويس، إلا أنّ أداءه اللافت أثبت أنّ نصيحة روبرت دي نيرو لسكورسيزي في إحدى السهرات بالالتفات إلى موهبة الفتى كانت في محلها. عام 2004 عاد دي كابريو مع المعلّم الكبير في «الطيّار»، لينتقل أداءه إلى مستوى جديد من التعمّق في الشخصيات من خلال العبقري المضطرب هاوارد هيوز. في «المغادرون» عام 2006، زجّ سكورسيزي بفتاه المدلل وسط كبار من طراز جاك نيكلسون ومارتن شين، ونجوم شبّاك مثل مات ديمون ومارك والبرغ، فلم يخيّب ظنّه ونال سكورسيزي –أخيراً- أوسكار أفضل مخرج بعد حوالي 30 عاماً من العمل.
هكذا، يعود دي كابريو مع سكورسيزي عام 2010 بفيلم «جزيرة شاتر» المقتبس عن رواية بنفس الاسم للأمريكي دينيس ليهان (نهر خفيّ 2001، فيلم بالعنوان نفسه عام 2003 إخراج كلينت إيستوود). يلعب دور المحقق تيد دانيالز الذي يذهب مع شريكه تشاك (مارك روفالو) إلى جزيرة شاتر عام 1954، حيث المصحّ العقلي الذي يضمّ أخطر المجرمين المصابين بأمراض نفسية، للتحقيق في اختفاء المريضة راشيل سولاندو (إميلي مورتيمار) المصنّفة كمجرمةً خطيرة بعدما أغرقت أطفالها الثلاثة في البحيرة، وذلك رغم الحراسة المشدّدة والنظام الصارم الذي يفرضه مدير المصح د. جون كاولي (بين كينغسلي) وزميله د. جيريمي نارينغ (ماكس فون سيدو).
ميزة هذا الفيلم بالنسبة لسكورسيزي هو الانقلاب في مزاجه السينمائي. فهو يُعَد صاحب الفضل في بداية السبعينات, مع أبناء جيله من المخرجين الرواد أمثال: ستيفن سبيلبرغ, فرانسيس كوبولا, برايان دي بالما وسواهم, في فرض لغة سينمائية جديدة، اعتمدت محاكاة الواقع كما لم يحدث من قبل, والعمل بأسلوب علمي يمزج بين الرؤية الإبداعية الشخصية والدراسة الأكاديمية، خاصةً أنّهم ينتمون لأولى الدفعات التي خرّجتها أول مدارس الإخراج في أمريكا. كما أنّ تأثّر صاحب «كازينو» و«رفاق طيبون» بالواقعية الإيطالية وعمالقة السينما الفرنسية الجديدة (تروفو وغودار) معروف منذ بداياته.
هنا يلجأ المعلّم إلى أساليب الخمسينيات في العمل. أيام انتشار تيمة أفلام الجريمة السوداء التي أطلق عليها الناقد الفرنسي الشهير نينو فرانك عام 1946 مصطلح Film noir (الفيلم الأسود). أجواء سايكوباثية مظلمة، ألوان قاتمة ومضللة، جريمة مرتبطة بدوافع نفسية معينة. باختصار هو مناخ «جزيرة شاتر» المضطرب والعوامل الجوية التي تمارس تأثيرها على دراما الفيلم والمتفرّج بالضرورة. يُضاف لذلك الموسيقى التصويرية التي أنجزها رفيق سكورسيزي الدائم الكندي روبي روبيرتسون، بتأثيرها النفسي على المتفرّج منذ بداية التيترات، ضمن أجواء التشويق والرعب الهيتشكوكي المعروف.
إذاً، يستبدل سكورسيزي واقعية السبعينات الجديدة بتعبيرية العشرينات الألمانية. المدرسة الفنية التي ظهرت بسبب عدم القدرة على مجاراة ميزانيات هوليوود الهائلة، وتركت أثرها لاحقاً في نمطَي أفلام الرعب Horror film والأفلام السوداءFilm noir . نجد هذا واضحاً في مسرحة أماكن الجزيرة التي تبدو غير واقعية: المياه، المنارة، الصخور، المرتفعات، مناخ الفيلم ودراماه النفسية المعقّدة ذات الروح الكلاسيكية. نلمح هنا نَفَس ستيلان راي وباول فيغينر في «طالب براغ» 1913. روبرت فاين في «حجرة د. كاليغاري» 1920. باول فيغينر وكارل بويس في «الغولم: كيف جاء إلى العالم» 1920. فريتز لانغ في «القدر» 1921 و«ميتروبوليس» 1927 و«م» 1931. ف. و. مورناو في «نوسفيراتو» 1922و«الشبح» 1922 و«الضحكة الأخيرة» 1924.
أسماء كثيرة تحضر في هذا الفيلم: بيلي وايدر، أوتو بريمينغر، أورسون ويلز، كارول ريد، مايكل كورتيز، جاك تورنير، فينسنت ميناللي وطبعاً أستاذ أفلام الرعب ألفريد هيتشكوك. اختصر سكورسيزي ما يريده من كل ذلك في فيلمَين فرض مشاهدتهما على طاقم العمل: «متسوّل من الماضي» 1947 لجاك تورنير، و«دوَخان» 1958 لألفريد هيشكوك.
السيناريو الذي كتبته لايتا كالوغريديس بمشاركة ستيفن نايت (لم يُذكَر اسمه)، حافظ على النص السايكوباثي للرواية الأصلية، إلا أنّه أضاف بعض التشويق والأكشن من أجل شبّاك التذاكر. هكذا نكتشف أنّ تيدي يضمر أهدافاً أخرى بقدومه إلى الجزيرة. فهو لا يريد الانتقام من قاتل زوجته الذي أضرم النار في شقته، بل يسعى لكشف التجارب العلمية السرية التي تجري على المرضى بهدف إنتاج الجندي «الشبح» القادر على صنع المعجزات. النازيون كانوا يجرون التجارب على السجناء اليهود في معتقل «أوشفيتز» الرهيب على يد الطبيب الشهير يوسف منجيل. السوفييت جرّبوا على المعتقلين النازيين بعد الحرب، والأمريكيون على المرضى في جزيرة منعزلة.
هي إحدى إفرازات الحرب العالمية الثانية التي يحاول سكورسيزي مقاربتها في هذا الفيلم، فهو لم يخرج عن موضوع «العنف البشري» المفضّل لديه رغم خياراته الفنية الجديدة، بل جعله أكثر التصاقاً بنظرية التطوّر المادي البشري المريب. القنبلة الهيدروجينية التي تعمل بالهيدروجين، الحرب الباردة وفظائع الأمريكيين خلال الحرب ضد النازيين. مشهد نادر في تاريخ السينما، نرى فيه الجنود الأمريكيين يحصدون 500 نازي مستسلم في معتقل «داشاو» الشهير. أطفال يموتون باللباس العسكري على الرغم من استسلامهم المطلق.
بهذا الشكل ينتقل الفيلم إلى استكشاف عوالم النفس البشرية، عبر حبكة بوليسية تغدو أقل أهمية بمرور الدقائق الـ 138، التي يفرض فيها العمل إيقاعه النفسي على المتلقّي. يتلاشى الحاجز بين الحلم والحقيقة، الواقع والخيال، العقل الباطن والعقل الواعي، النفس الأمّارة بالسوء والضمير الحي. يتحوّل المُشاهِد نفسه إلى عينة للتجارب، فهو يصل إلى مرحلة يعجز فيها عن التفريق بين الحقيقة والخداع في الأحداث وسط عاصفة من الخوف والترقّب والشك. ينتهي الفيلم وتبدأ الأسماء بالتناوب على الشاشة، في حين يبقى المتفرّج/العيّنة متسمّراً، في محاولة أولية لتحليل معطيات المتاهة النفسية المعقدة التي وضعه المعلّم سكورسيزي داخلها، بالاستفادة من تقنيات المسرح وتأثير الميلودراما المرافقة للبطل منذ البداية.
الشخصيات هنا كتيمة، معتلّة، متأثّرة بالمناخ الكابوسي للمكان والتسلسل النفسي للأحداث. سندرك بعد انكشاف الحقيقة سر نظرات بين كينغسلي الغامضة، وعبارات دي كابريو المبهمة. سنعرف ما وراء مارك روفالو الذي بدا حيادياً مراقباً للأحداث لا أكثر. التحقيق في اختفاء مريضة ضمن حيّز مغلق، قد لا يتطلّب إرسال محققين من «المارشال» الأمريكي بوجود ضبّاط أمن على الجزيرة نفسها، ولكننا لا نسأل أنفسنا عن ذلك حتى لو أدركناه. هو إيقاع الفيلم الناجح الذي يسيطر على عقل المتفرّج ويبدأ بتوجيهه كما يشاء. لذلك يمكن القول إنّ المشاهدة الثانية للفيلم والتأمّل بتفاصيله المرتبطة بالحل لا تقلّ متعةً عن الأولى، من وجهة نظرنا على الأقل.
في المشهد الأخير، يسأل دي كابرويو شريكه: «أيّهما أفضل: أن تعيش كوحش أم أن تموت كرجل صالح؟». هذا السؤال الذي يدير الرأس بالفعل لا يبدو خلاصة لحيثيات الفيلم، بقدر ما يجعل منه مجرد تمهيد أو دعوة لمزيد من البحث في النفس البشرية. فمن الواضح أنّ صنّاع العمل يعلنون أنّ الإنسان الذي قتل الاقتصاد والنفع المادي بحثاً وتمحيصاً، لم يلتفت إلى ذاته بالمقدار الكافي. وسكورسيزي، من خلال «جزيرة شاتر»، يقدّم للعالم وللسينمائيين درساً جديداً بعيداً عن الشكل الفني الذي اعتاده، في مثال صارخ على تطوير الذات والأدوات حتى بعد كل هذه الخبرة والشهرة.
دي كابريو أيضاً يفرض احترامه على الجميع، ويؤكّد مجدداً على المستوى التمثيلي الرفيع، بل المرعب، الذي بلغه تحت إدارة المعلّم الكبير.
أين الفن العربي من الدراما النفسية الباعثة على التأمّل؟ هذا سؤال آخر بشجون كثيرة.
المصدر: جريدة «شرفات الشام».
علي وجيه
08-أيار-2021
11-تموز-2010 | |
14-حزيران-2010 | |
«جزيرة شاتر».. درس سكورسيزي الجديد دعوة صارخة للتعمّق في النفس البشرية |
08-أيار-2010 |
17-نيسان-2010 | |
14-آذار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |