Alef Logo
ابداعات
              

سياحة على ضفاف طبق من الفول

محمد نصار

2008-04-19


في كل جمعه ألعن الفول ألف مرة وأقسم بألا أعود إلى تناوله أبداً, لما يسببه لي من عجائب وغرائب, تبدأ بحالة اشتهاء مريبة, تدفعني دفعاً للإفراط في تناوله ،

وأعجز بعدها عن مغادرة مكاني, حتى بعد تناول عدد من أكواب الشاي الثقيل وثلاث أو أربع سجائر, تنقلني إلى حالة من عدم الإحساس بالأشياء وتحلق بي فوق سحب الدخان المنبعثة منها, جسداً لا يدلل على الحياة فيه، سوى نظرات تائهة وأنفاس ثقيلة, تجرني شيئاً فشيئاً نحو ظلمة لا أخرج منها ، إلا مع صوت الآذان وعتاب زوجتي, التي تلومني على هذه العادة البغيضة والتي أضطر معها إلى اللحاق بالصلاة والإمام يوشك على إتمام خطبته ، فأثور وألعن الفول مرة أخرى، مع تعهد قاطع بتحطيم الإناء المستخدم في إعداده ، فور إيابي من المسجد وما أن يأتي ليل الخميس القادم ، إلا وتجدني غارقاً في البحث عنه ، مجتهداً في التحضير لوجبة أخرى، لن يكون حالي معها أفضل من سابقاتها وستذهب لعناتي وتعهداتي أدراج الرياح.. بيد أني في هذه الجمعة بالذات، قررت أن لا أنساق خلف إغراء الطبق المشبع بالزيت وشرائح البصل والليمون المتناثرة على جوانب المائدة ، جنباً إلى جنب مع أرغفة الخبز الساخن وبراد الشاي الثقيل ، فتناولت أصغر الأرغفة حجماً وبداخلي إصرار على عدم اجتيازه، مهما كانت الأسباب والدوافع .
   وللمرة الأولى أنجح في ذلك، غادرت المائدة وسط دهشة  الجميع واستغرابهم، وكي لا أقع تحت وطأة الحالة مرة أخرى، خصوصاً مع بدء ظهور أعراضها، قررت قضاء الوقت المتبقي إلى موعد الصلاة، في تلاوة القرآن وما أن شرعت في ذلك، حتى بدأ ثقل يغزو رأسي ومقابله عزم على مقاومة الحالة ، رغم التشوش والزغللة، التي غشت عيني وأوشكت أن تسقطني في أخطاء التلاوة ، فهربت منها برفع صوتي قليلا ، حتى توقفت عند سيرة ذي القرنين ، ذلك النبي الذي وهبه الله من القوة والبأس ، ما لم يهبه لأحد من قبل وتساءلت مستفسراً : ماذا لو قُدِّر لهذا النبي أن يعود للظهور مرة أخرى وعلى نفس الحالة من القوة التي بعث بها من قبل؟.
وقبل أن أمضي في تساؤلاتي ، لعلع صوت الرصاص ، معيداً إلى النفس ذكرى الليلة السابقة وما تخللها من قصف، امتد حتى ساعات الفجر الأولى .
   تلفت حولي كي أأمر الأولاد بالنزول إلى الطابق الأرضي، فلم أجد أياً منهم بجواري . أنصت محاولاً تحديد الجهة التي يأتي من قبلها ، فترامى إلى سمعي من وسط  الضجيج المرعب ، طنين صعب عليَّ تحديد كنهه أو مصدره ، ومع مضي الوقت، راح يزداد قوةً واقتراباً ، ثم اكتسح البلدة،  فأصبحت حنجرة تهتف بصوت واحد: بسم الله.. الله أكبر .
شعرت برجفة تسري في جسدي وارتباك يشلني عن الحركة، تعززه بلادة تطبق على رأسي وأعجز معها عن فهم ما يحدث حولي ، دنوت من النافذة ببطء وتوجس ، ونظرت إلى الشارع، فتحجرت نظراتي على الجموع المندفعة، كسيل جارف يزلزل هتافها الأرجاء، حتى طغى على صوت الرصاص أو أسكته .. لحظات من الذهول المباغت جمدتني في المكان ، ثم انكسر طوقها على نحو مفاجئ ، فأمسكت بطرف جلبابي وهرولت مسرعاً إلى الشارع، التحقت بالجموع المنطلقة بالهتاف، فاندفع صوبي أحد المعارف، متهلل الوجه فارد الذراعين ، ضمني إليه كمن يلتقي حبيباً بعد طول غياب، وسط ذهول مني وإحجام ، خصوصاً مع كثرة ترديده لقوله تعالى: "جاء الحق وزهق الباطل ". ، فسألته مستوضحاً : هل انسحب اليهود ؟
ـ أي يهود يا عم .. لقد ظهر المهدي .
ـ مهدي .. بماذا تخرف يا رجل ؟
   لم أسمع رده بفعل دفع الجماهير وانقدت معها عاري الرأس حافي القدمين ، تحاصرني البيانات من كل جانب ، فشيخ يدعي بأنه سمع في أخبار السادسة صباحاً ، أن المهدي محاصر في الكعبة وفتاة تبرعت لتصحيح الخبر مدعية ، أن العذراء هي المحاصرة ولكن في كنيسة البشارة وثالث يقسم بأنه رأى على شاشة الجزيرة حشوداً سورية ، تتجه نحو ربوة خارج دمشق، يقال أن المسيح قد هبط عليها فجر هذا اليوم .
   قصف زلزال الأرجاء وألجم الحناجر، فارتفعت الأبصار تحدق في السماء، التي تلونت بحمرة قانية، تتزاحم في فضائها الشهب على نحو منقطع النظير ، فتتعثر الكلمات فوق الشفاه محدثة همساً ، ثم همهمات تبدو كالطنين .
   صوت المكبر في المسجد المجاور يدعو الجماهير ، إلى التوجه نحو ساحة البلدة ، حيث يتسع المكان لإقامة الصلوات والتضرع إلى الله بالدعاء كي يرفع الغمة ، فتتجه الجموع بصمت موكب جنائزي نحو المكان وعند وصولها إلى هناك، اعتلى شابٌ سطح عربه تقف بالجوار وصاح بأعلى صوته: أيها الناس جاءنا ما يلي .
   ثم نظر في ورقة كان يمسكها وتابع قائلاً : لقد تأكد بما لا يقبل الشك، ظهور نبي الله ذي القرنين عند سد مأرب في اليمن.
ـ بسم الله .. الله أكبر .. ، دوى الهتاف ممتزجاً مع ذلك القصف الذي هز الأرجاء .
نظرت حولي متسائلاً : ما الذي يحدث بحق السماء ؟
بحثت عن علبة سجائري ، فتبين أنني نسيتها في البيت ، تأملت الحاضرين علِّي أعثر على من بيده سيجارة فلم أجد، بينما الشاب في مكانة يتلو تكملة البيان :
ـ لقد خرج المجتمعون عند السد، بدعوة موجهة إلى قادة الأمة، يدعونهم من خلالها للالتقاء بالنبي حتى ينظر في مشاكلهم ويسهم في حلها .
ـ بسم الله ـ الله أكبر .. بسم الله  .. الله أكبر .
   ثم عاد الصمت من جديد، مفسحاً المجال أمام ذلك الطنين، لكي يظلل الأجواء من حولنا ، وبلا سابق إنذار لمع في خاطري سؤال: أين اختفى دوي القنابل وأزيز الرصاص وسط هذا الصمت المرعب ؟ .. هل هي كرامة النبي التي أخرسته وألجمت فوهاته ؟.. أم هو الخوف من غضبه ؟ .. ربما لا هذه ولا تلك ، والأرجح أنها الصدمة مما حدث ويحدث، أما أنا فلا أدري كيف حشرت وسط كل هذا .. وماذا أنتظر أو أفعل ؟،هل سأظل قابعاً في مكاني هذا ، إلى حين وصول المهدي أو ذي القرنين أو حتى عيسى بن مريم ؟ .. أي جنون هذا ؟ .. وما الذي سيفعلونه وسط هذا الضياع المزري والمغيظ  .
لا أدري كيف أوشكت على الغرق في ضحكة مدوية وأنا أتخيل ذا القرنين معتلياً المنصة ،يتابع بذهول وفجيعة أسراب المقاعد الطائرة في فضاء القاعة ، إثر خلاف دب بعد مطالبة البعض ببناء سد حول إسرائيل ، مقابل أي خراج يريد.
   وبصعوبة بالغة أمسكت نفسي عن الضحك ، خشية أن ألقى مالا تحمد عقباه ومع تكرار المشهد أمام ناظري ، أدركت أنني عاجز لا محالة ، فاقتنصت اللحظة المواتية وانسللت من وسط الجموع عائداً إلى البيت وما أن أصبحت في أول الشارع ، حتى انفجرت بالضحك على نحو بدد الصمت وأرعبني ، بل إنه أثار انتباه بعض المارة ، من الذين يتوافدون على المكان ، حاولت الهرب من نظراتهم ، فأمسك بي شيخ جليل وهزني قائلاً : يا هذا هل تشعر بسوء؟.
   تجمدت أنفاسي رهبة ، وبالكاد  سألته مستفسراً : ومن تكون؟
ـ ذو القرنين .
صرخت مصعوقاً من هول المفاجأة وإذ بالأولاد يقفزون من حولي وزوجتي تستفسر بخوف واضح : سلامتك يا رجل!.. هل تشعر بسوء ؟
ـ سوء .. لعنة الله على الفول .. هل أقاموا الصلاة ؟
ـ لا ، ليس بعد . ردت زوجتي بخوف واضح .
 
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

لسع النار والمطر

12-أيار-2009

الحاج عمران

23-كانون الأول-2008

رسائل حب / الرسالة السابعة

09-تموز-2008

رسائل رجل محترم جدا/ الرسالة الخامسة

15-حزيران-2008

رسائل رجل محترم جدا / 4

07-حزيران-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow