“مظفر النواب .. انقلابٌ أبيضٌ من عرقٍ قطرهُ الدهرُ”
خاص ألف
2009-11-27
على قمرِ الرافدين بين نخلتين على أهبة الصلاة، تتأرجح طفولةُ العراقيّ القابعِ في منزلهِ بدمشق، وهو يرنو إليها وكأنّ “غبارَ أربعين عاماً من الطرقات” لم تكن كافيةً لتطفئ نجمةً عن شعرها أو تُنقص لهفة من نزواتها، وتمنى القلبُ أيضاً بعد أن تمرسَ جرأةً أن يعودَ إلى خَجله أمام مدرسة البنات عند بيته القديم، ليسدد الأغاني التي عليه، فاتورةَ عشقٍ، فلم تعد الروح بحاجة إلى منزلٍ بثلاثين غرفة لتسكنها الوحدة، يكفيها سنتمتراً واحداً – ينظرُ بعينين فارغتين - لتحتضنَ الكونَ بأسره حنيناً، وكأنّ الله حين نفخَ من روحه في طين بغداد –بالكرخ أضاء جبلته بقمر بن زريق، فاستضاءَ الطينُ بمتاهات الحنين، وكما “يُقَطّر من كل ما في العراق العرقُ” قَطّر العشق عشر شموع لا ترتجف يهدهدها دجلة حتى أقاصي الوجد.
“من خارج هذا الدهر” اشتهته اللغة فأتت إليه ملتهبة، حارقة حيناً وحيناً دافئة، فيها من الضوء أكثر من نساء (رينوار)، وكآلهة الصيد تفرد صدرها صراحةً ووضوحاً، وتميل هذه اللغة - المحنية من جهة القلب – لتكون حباً فتُصغر من مفرداتها رغبة في الحنو والإحاطة فَيرقُ النهد إلى نُهيد ليُقبلَ لا ليُكتب، والرشفاتُ تُشرب رُشيفات، والمولى يهدهده كطفل مُويلاي.
صحونا على صوته – فجراً- يؤذن للحياة وعرفنا أنها خيرٌ من النوم، تسلقنا شاهق الصوت حتى لامسنا “وعد الذين استضعفوا في الأرض”، وأخذنا وجدُهُ حتى عَرقت آثامنا.
على مقاعد الدرس كنا نتباهى باسمه، ونلجأ إلى قصائده هَرباً من غباء الشعر الرسمي، نتبادلُ اسمه ككلمة السرّ، وعندما نتأكدُ أن أحداً يعرفه أو يحفظ بعضاً من قصائده، نزدادُ صديقاً وندخلهُ فوراً إلى القلب ونطلعه حتى على أصغرِ أسرارنا، لأنّ من يعرف مظفر النواب لابدّ أن يكون طاهراً ومؤتمناً. ربما لم يَعلُ صوتُ الرفض في نصف قرن عربي متداعٍ إلا بأوتار صوته الذي يشبههُ ويشبهُ نصه الذي يطوي الكون كله في “جِرْمٍ صغيرٍ” فيكون خمرهُ “قراحُ الماءِ من كف كريم”، ويسكب المرأة من خمره أو يطوق الخمر امرأةً بيديه، “ويرى الله على أصغرِ برعمِ ورد”.
* * *
من بغداد إلى دمشق ومن دمشق إلى ... بغداد مدنٌ كثيرة وعثراتٌ –أجمل من الصواب- تمتد من قفلِ البابِ إلى حيث تعلو السماء، مَلحَمةٌ كيفما جرّحتها تسيلُ المنافي وصولاً إلى القلب أبعدها على الإطلاق، وشغفٌ بالضوء حفر نفقاً من عتمة القبر حتى الشمس بملعقة، وحارب نظاماً مدججاً بقصيدة طينية ملفوحة بشمس الأهواز، أليس ثمة من إعجاز بأن توحّد قصيدته ما عجزت أن توحّدهُ الحكومات، وأن تَجهَر إلى هذا الحد بما لا يجرأ أن يتمتمه العرب - سراً - من المحيط إلى الخليج، وأن يوسّع أرجاءَ قصيدته كابتسامة الطيبين ليدخلها أبطال الهامش (ناصر بن سعيد، جهيمان العتيبي، حسين مزنر..) والذين لم يجدوا مكاناً لهم في التاريخ الرسمي، فدخلوا قصيدة النوّاب كراماً آمنين، وشهداء على كبرياءٍ كان يحملُ وعداً وشغفاً بزمن أجمل.
هل يحقُّ لنا الآن أن نتعالى على ذلك الزمن وعلى مغنيه الأجمل؟ وأن نختزلَ شعره فقط على بعدهِ السياسي؟ وكأنّنا منذ البدء كنّا نعرف كل شيء، أو ربما الجلوس – بكمٌ - على حائط الظهيرة وتمشيط الغبار منحنا نبوءة مقلوبة للخلف على رأسها ككراسي المقهى، فأغلقنا ثقافتنا على اختصارات واختزالات تقوم على المحاكاةِ، مزيفة، وبدون ذاكرة غادرةً وناكرةً ومُنكرة.
لم يكن مظفر النواب مغنياً فقط لمرحلة مضت وإن غناها بعذوبة، ولم يقتصر نصه على الخطاب السياسي (الغاضب والمجروح والبذيء أحياناً)، ومن المفارقات العجيبة أن نتكلم عن الموضوعات النوابية للتعبير عن مرحلة ولّت ونناقش أحداثها كأنها موغلةٌ في القدم مع أنّ الدمَ المُراق على نصلِ الاستلاب والاحتلال والقمع لم تتخثر منه نُقطةُ دمٍ واحدة، بل على العكس فاض الدمُ وتجاوز حدود المبالغات الشعرية، ولم تزدد مساحة الحرية إصبعاً واحداً، أم سنصدق أيديولوجيا السعادة التي تبثها وسائل الإعلام، ونضحك (كالهبل) على الفجيعة، لم يبعنا مظفر النواب الأحلام كما - رأى بعضُ الجهابذةِ - كانت أحلامنا وهو رتّبها لنا بإناء الشعر الرفيع، نحن الذين نَقصت أحلامنا عن نصه العالي ونقصت السماء أيضاً فوق رؤوسنا، وطلقنا عروس عروبتنا فما عاد يُحرجنا اغتصابها. هكذا وقعنا براءتنا من نصه ومنه وحكمنا عليه بالنفي مجدداً كأنه ماضٍ نريد نسيانهُ وكأن النفي “مصيرٌ لجوج”، أخذناه بجريرة انكساراتنا وحمّلناه هزائمنا، كعادتنا ...
* * *
مرة أخرى سيجتمع الشعراء حول غيابك، ويتمتمون: أخطأنا ثانية، ويركلون الهواء الذي تركته بالمديح، مرة أخرى سيلومونك على فروسية مزمنة في القلب، ويتذرعون (برولان بارت) لينزعوا الشعر عن نصك الذي طارده الطغاة زمناً.
تركوا الحبر – وحيداً- يبني عزلته في ماء هو بين الأنوثة والنهر، يَنسكب كالصبحِ على امرأة، يَقطرُ الضوءُ من شُرفاتِها، متمنعةً أن يقرأها من لم يكن لها كفئاً. وهذا خمرك المُصطفى من ورد البشر ومن أشياء أخرى حلمت بها يتعتقُ في زجاج القصيدة ريثما تبني الذاكرة زمانها. أمّا الآن فكل ما يبقى ترنيمة أُمٍ علقت نوايا قلبها على خيط دمع يصل حتى نومك، تلك الترنيمة التي جعلتك تنهض من نومك ذاتَ حزنٍ شاعراً يريدُ أن يُحيل الدنيا كلها إلى أم.
وهناك أيضاً في العلو لك نخلةٌ مجترحةٌ من تراث انقلابي كربلائي أبيض، نخلةٌ أنهت صلاتها للتو، ولم تسند قامتها بعدُ، تحنو عيناها على مساحة بين الموت والموت، مساحة بحجم القلب تعشش في أعلاها، تتنهد العلو فتجري الريحُ بين عذوقها، فيتسَنّدُ قلبك فوق السعف كعذقٍ ..."من يصل القلب الآن!؟".
حازم عبيدو
[email protected]
××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
20-آذار-2011 | |
27-تشرين الثاني-2009 | |
04-تشرين الأول-2009 | |
02-تشرين الأول-2009 | |
25-أيلول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |