حيث لا تسقط الأمطار.. سيرة فردية لتاريخ جمعي
2011-03-20
ثمة صلة غير واهية تربط قصيدة النثر بالكتابات الإبداعية الأخرى ، تظهر باستخدام (النثر) بوصفه خامة أساسية في بناء قوامها. إضافة إلى ذلك ، الحرية التي تتمتع بها قصيدة النثر ، والديناميكية في انفتاحها على فنون أخرى ، جعل شعراء هذه القصيدة أقل قدرة ، من غيرهم ، على مقاومة الإغواء في تخطي الحدود والمغامرة في أنواع كتابية أخرى ، لا سيما الرواية.
فمنذ "أرجوحة" محمد الماغوط ، مروراً بتجارب روائية عديدة لشعراء آخرين ، كعباس بيضون ، وسليم بركات ، وعادل محمود ، وغيرهم ، والرواية هي الخيار الأكثر كرماً وإغراء ، لسعة مساحتها وقدرتها على استيعاب روافد كثيرة. فتراكم الزمن الذي لا تقرؤه القصيدة ، وإنما تشير إليه ، يعزز الرغبة في الانفتاح على هذا الزمن ، وتدوينه ، وإرخاء عصب الشعر المشدود بالإشارة والغموض والإيجاز ، وبناء مرجعية أكثر وضوحاً تسهم في توسيع دائرة التلقي. من هنا ـ على الأرجح ـ أتى الاتكاء على السيرة الذاتية ، السّمة الغالبة في روايات أغلب الشعراء ، والتي تحظى ، عادة ، بقبول القارئ وشغفه ، وما أن تقع بيده حتى تتخطى نصف المسافة في إقناعه ، متواطئة مع جاذبية النميمة ، والرغبة في استراق النظر على حياة أخرى من دون التورط فيها.
من هنا تأتي رواية أمجد ناصر الأولى ، "حيث لا تسقط الأمطار" الصادرة مؤخراً ، عن دار الآداب اللبنانية ، كأنها متفقة مع هذا السياق ، وأقول كأنها ، لسببين: الأول أن صاحب "سُرّ من رآك ومرتقى الأنفاس" ، وعدد من الكتب الشعرية المهمة ، لم يذهب إلى الرواية مباشرة ، وإنما مهد لهذا الذهاب بعدد من الكتب المصنفة ضمن أدب الرحلة ، والتي تتفق ـ في إطارها العام ـ مع الرواية ، إضافة إلى اعتماده السرد في مجموعته الشعرية ، "الحياة كسرد متقطع" ، عنصراً أساسياً في بناء نصوصها ، حتى صار علامته الفارقة. هذه المقدمات ساهمت في إنضاج الرواية قبل تحققها ، بالفعل ، وجعل وصوله إليها ، كما يؤكد الياس خوري في مقدمة الرواية ، "مسألة وقت فقط".
أما السبب الثاني فيتجلى في التباس الرواية مع السيرة الذاتية ، فتبدو للوهلة الأولى كأنها سيرة الكاتب ، وهذا الفخ الذي ينصبه أمجد ناصر للقارئ ، فالوضوح الشديد في دلالة اختيار أسماء الشخصيات ومدن الرواية ، وبنائها ، والتقائها مع سيرته الشخصية ، بجانب أو آخر ، يدفعنا إلى هذا الاعتقاد. لكن مع الابتعاد أكثر في الرواية ، نكتشف أن السيرة الذاتية ليست أكثر من قناع روائي لسيرة جمعيه ، تقاطعت فيها مصائر الكاتب والقارئ ، وبنت حقيقتها من مخيلة فردية تضرب جذرها في وجدان جيل بأكمله ، وتاريخه وتداعياته. فهي مخيبة لمن يبحث عن الإثارة في حياة الآخرين ، فيفاجأ أنه متورط ، وأنه يتلصص - من حيث لا يظن - على حياته ذاتها ، وأن العمل لا يحيلنا إلى مكان بعينه ، بل تتسع أرجاؤه لتشمل كل البلدان التي تتشابه في نفي أبنائها.
تتناول الرواية قصة شاب عشريني من (الحامية) ، بلد الرواية ، ينتمي إلى تنظيم يساري متهم بمحاولة اغتيال (الحفيد) ، آمر الحامية ، الأمر الذي يدفع الشاب إلى الفرار. يؤدي هذا الخروج القسري إلى شرخ في الذات تتولد عنه شخصيتان: يونس الخطاط ، الطفولة والشباب في الحامية ، وأدهم الذي أقصي عنها تتنازعه المدن والمنافي ، ليستقر ، أخيراً ، في المدينة (الحمراء والرمادية) ، وبعد عشرين عاماً يسمح له بالعودة إلى الحامية ، حيث سيلتقي يونس الخطاط ، قرينَ ذاته ، والذي لم يغادرها ، ومن لقائهما تقدح شرارة الرواية ومفارقاتها.
ينقذ هذا اللجوء ، وإقامة حوار مع تجربتين لذات واحدة ، من هيمنة الصوت الواحد ، ويضبط عملية السرد من السيولة والحنين العارم ، ليأتي السرد محكماً ومقتصداً ، وجافاً ـ أحياناً ـ بالقدر الذي تجف به عينّ ترصد وتصور ، فلا نعثر على فقرة تضمر استثارة عاطفة مجانية ، ولكننا نشعر بصدى عاطفي لحنين متحفظ من خلال تواتر بعض الشخصيات على أغلب أجزاء الرواية ، من مثل: الأب ، الأم ، رولى - الحب الأول ، ولكن من دون شطط. وبرغم أن أجمل فقرات الرواية هي الفقرة التي تتضمّن مونولوج (العائد) عن رولى ، والتي كانت مرجعية كل امرأة عرفها ، يقيس جمالها من خلال بعدها أو قربها منها ، إلا أن الكاتب يلجم التمادي والارتباك بقرص مهدئ يتناوله العائد ، ويخفض حرارة الفقرة بالشك ، فيتسائل: "أهو الحنين العجيب الذي يضخم الصغير ويمحو الحواشي والاستطرادات والأعراض المصاحبة ، ويبقي على جوهر ثابت؟". إضافة إلى تولي ضمير المخاطب عملية السرد ، ما يغير ـ بحدة ـ من نغمة العمل ، وينزع الألفة عنه ، حسب بريان ريتشاردسون ، فيخلق مسافة بين الكاتب ونصه ، بينما يورط القارئ أكثر.
والحكاية ، هنا ، لا يرويها المنتصر بل المهزوم ، المرحلة الطافحة بأحلام التغيير والانتقال إلى مجتمعات أكثر عدالة ، المشاريع الفكرية الكبرى والواعدة. ترصد الرواية مرارة الخسران الذي سيطر على جيل السبعينات ، واستمراره إرثَ كرب لأجيال لاحقة من خلال التحولات التي طرأت على المجتمع العربي ، من ظهور الاستهلاك بوصفه سلطة تستعبد الناس ، إلى اتساع المدّ الديني وانقلابه على السلطة حليفها التاريخي. تنطوي هذه المفارقات ـ حين تحتك مع اليأس الناضج بفعل عشرين عاماً من المنفى والهزائم ـ على توتر مأساوي ساخر ، له وجه الزمن ذاته. يعود أدهم ليجد أصدقاءه منهم من انتحر أو قتل أو فقد ذاكرته: معلمه الشعري الأول تحوّل إلى داعية ديني يطوف القرى والدساكر. وربما أكثر المفارقات سخرية ، حين يرى العائد كتاب "الدولة والثورة" ، الذي عوقب على اقتنائه بكيّ بطنه بحديد محمى ، ملقى على الأرصفة من دون اكتراث: "... وجد الكتب القديمة الممنوعة... على بسطات كتب الأرصفة... وإن كتباً أخرى كانت معروضة مثلها من قبل على البسطات.. صارت أكثر خطورة من المخدر".
تعبق الرواية برائحة الفقد دون تفجع ، وتنساب أحداثها بهدوء يتلائم مع حركة الذاكرة وتداعياتها ، ولا يحيد هذا الإيقاع عن وقعه إلا في مقدمة الرواية وخاتمتها ، ولكنه ليس الخلاف النافر. فتبدوان ركيزتين مضمومتين ، لهما صلابة بنية مكتملة ومستقلة ، تحملان حبل الحكاية. فنجد في مقدمة الرواية رمزية عالية تظهر عرافةً لمستقبل ما ، قرأه الكاتب.. أو ربما عاشه رمزياً ، حيث ينتشر وباء في المدينة الرمادية والحمراء - مدينة المنفى ، نموذج المدينة الغربية "المتوجة بذهب الزمن الكولونيالي" ، يحول هذا الوباء المدينة إلى خراب ، لكنه يختلف عن خراب المدن العاصية في الأساطير ، التي تعاقب على انحلالها الأخلاقي. الخراب ، هنا ، هو امتحان لهذه الأخلاق ، يتشابه مع الامتحان الذي يُخضع له - خوسيه ساراماجو - مدينة روايته المعروفة ، "العمى" ، والتي يجتاحها وباء فقدان البصر ، فتكون القيم الأخلاقية والحضارية هي التي على المحك ، وما أن تتكسر قشرة البصر الرقيقة ، حتى تعود هذه المدن المتعالية بحضارتها وقيمها الإنسانية إلى أكثر المشاعر البدائية خسة ووضاعة. كذلك المدينة الرمادية والحمراء ، تسقط في الامتحان وينالها لانحدار ذاته: "لم يتراء لك ، في أسوأ كوابيسك ، أن المدينة... ستخوي على عروشها ، ستعود إليها الأسلحة القديمة والرموز المندثرة والمشاعر التي ظنّ الإنسان أنّه تجاوزها في رحلته الطويلة." فكأن الكاتب أراد تأكيد هشاشة الإنسان ، والتدليل على ضمور المشاريع الحضارية والإنسانية لتلك الدول ، والذي يجد صدى له في تداعيات الأحلام والمشاريع التغيرية في بلاده ، رابطاً بينهما بخيط من سعال أصابه في المنفى ، ليبصقه في نهاية الرواية دماً: "الكثير من الدم" ، وهو ينظر باتجاه الشرق.
وبرغم أولوية واقع الرواية إلا أن المناخ الغرائبي للخاتمة ، التي تبدو كأنها سقطت للتو من فضاء بورخيس الملغز ، تقدم أكثر من إغواء وأكثر من أفق لقراءة رموزها. فيتولى ضمير الغائب سرد الرواية ، ما يحد من قدرة العائد على التعبير ، فلا نعرف ـ بالضبط ـ فيمَ كان يفكر عندما قرر زيارة قبر والديه من دون أن يأخذ معه قرين ذاته ، وإنما ذهبا شخصاً واحداً برفقة ابن أخيه (يونس الصغير) ، وعند قبر والدته سمع صوت رفيف جناحين ، حيث "رأى طيراً جارحاً في هيئة الانقضاض ، وخلف السياج الحديدي المتهالك كانت هناك سحابة لولبية من الغبار تتطاول في السماء مهددة بالاقتراب." فيفكر أي اسم سيكتب على شاهدة قبره ، وينظر إلى قبر والدته فلا يجد فراغاً لقبر آخر. بينما حارس المقبرة ينظر إليهما ، وحارس المقبرة هذا يمتلك صفات ملاك الموت أكثر من صفات الحارس ، وذلك لتجاوره مع رموز مرتبطة بالموت: الخرس ، المقبرة ، الطير الجارح ، السعال ، عودة الوحدة لنصفي الذات. وما يؤيد هذا الزعم رفضه الشديد للعملة النقدية الكبيرة التي أراد العائد أن يعطيها له ، بعد أن تبين أنها مسكوكة بمناسبة اليوبيل الفضي لتنصيب (الحفيد) ، أي المسؤول عن نفي العائد ، وبعدد سنوات يقارب سنوات النفي ، فهذا التكثيف ـ لدلالة القطعة النقدية ـ يبدو كأنه صك لتبرير الغياب يمنحه العائد للموت: الموت غير المعني في نهاية المطاف بالطريقة التي تُنفق بها الأعمار ، أو بالاستلاب الذي تتعرض له. لا نستطيع أن نجزم إن هو خرج من المقبرة أم بقي فيها. لكن من المؤكد أن في هذه البلاد ، التي لا تسقط فيها الأمطار ، سقط الكثير من الأشخاص والمشاريع والعواطف والأحلام. وهذه الرواية لا تسمي أحداً: لا تاريخ ولا أمكنة ولا أسماء: أسقطها الكاتب كلها عن سابق قصد. إنها قطعة فنية راقية عن رحلة اغتراب فردي - جمعي ، مهان من سخرية الزمن ، ورعاته ، وتقلباته ، وطيشه ، ولا يمكن لمن دخل رواية أمجد ناصر ، "حيث لا تسقط الأمطار" ، أن يخرج منها إلا مبللاً بكل هذا السقوط ، ضامراً في نواياه المطر.
الدستور الأردنية 11 آذار 2011
________________________________________
حيث لا تسقط الأمطار ، أمجد ناصر ، دار الآداب 2010
08-أيار-2021
20-آذار-2011 | |
27-تشرين الثاني-2009 | |
04-تشرين الأول-2009 | |
02-تشرين الأول-2009 | |
25-أيلول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |