مخلوطة
خاص ألف
2010-09-17
حكاياتٌ بعضُها من الماضي ، وأخرى من الحاضرِ . ربما تكونُ نمنماتٍ ترسمُ الابتسامةَ على شفةِ متصفحٍ مرهقٍ من قراءةِ أخبارِ السياسةِ . "مخلوطة " اسمٌ غريبٌ منّ الماضي يخصُّ البعضَ فقط من الريفِ السوري ، وهو طعامٌ يسمونّهُ اليومَ " شوربة" مع السمعةِ الجيدةِ للثانية ِ . الأولى كانتْ ُتصنعُ من بعضِ العدسِ المطحونِ مخلوطاً بالقمحِ المطحونِ أيضاً ، وبعد نضجِها تقلى بالزيتِ والبصلِ المحمصِ . لم أكن آكلُها أبداً . بل أشعرُ بالحقدِ عليها . آكلُ رغيفَ الخبزِ وأنا أراقبُ ذلكَ الوعاءَ الذي يشبهُ "الطشتَ" والذي ُتقطِّعُ أمي الخبزَ بيديها لتضعهُ فيه ، ثمَّ تقلبُ المزيجَ عليهِ . يغرفُ الجميعُ منه بالملعقةِ ، بينما أنظرُ بعينِ المراقبِ اللئيمِ الذي يرفضُ الاعترافَ بما هوَ موجودٌ.
في يومٍ من الأيامِ كنتُ مريضةً ، وأتى لزيارتي صديقُ أبي . كان يعرفُ مدى ألمي من أيامِ المخلوطةِ ، فطالما شكتْ لهُ أمي عدائي معَها . تحدّثَ لي عن حكايتِه معها -أعني المخلوطة- . كان يرغبُ أن ُيدخلَ السرورَ إلى قلبي معَ أنّ القصةَ حقيقيةُ حسبَ ما يدّعي. قال لي : " في أحدِ أيامِ رمضانِ دعاني صديقي ، وهوَ تاجرٌ من مدينةِ حمصَ إلى مائدةِ الإفطارِ . كانَ قبلَ ذلكَ يدعوني إلى الإيمانِ حيثُ يصفُني مازحاً "بالزنديقِ " . لبّيتُ دعوتَهُ ، فمصالحي الماليةِ تقتضي ذلكَ ، وعندما حانَ وقتُ الإفطارِ جلبَ صحناً كبيراً من الشوربة . فاستعذتُ باللهِ . قلتُ : هل يفطرُ الرجلُ على مخلوطة؟ لكنني لمّا بدأتُ في تناولِ الطعامِ عرفتُ أنّها ليست كلّها مخلوطة ! كانت لذيذةً ،مملوءةٌ باللحمِ والدسمِ . كدتُ أن آتي عليها كلّها لولا أنّني رأيتُهُ يبتسمُ في سرّهِ ، فعرفتُ أنّ لبساً ما في الأمر . وفعلاً أتتْ زوجتُهُ فيما بعد بكلِّ أصنافِ الطعامِ والشرابِ ، ويا لها من زوجةٍ ! إنّها آيةٌ في اللباقةِ والنظافةِ والجمالِ . ينبعثُ من ابتسامتِها الإيمانُ . تساءلتُ: لماذا زوجتي لا تبتسمُ مثلَها ؟ أو لماذا لا تبتسمُ أبداً ؟ حانَ وقتُ صلاةِ العشاءِ فصلى الرجلُ ،وأنا أراقبُهُ فأراهُ يتمتمُ بكلماتٍ لم أفهمْها . أنهى صلاتَهُ ، ثمَّ جلسَ منشرحَ الصدرِ .
لم أكنْ أعرفُ أنَّ في هذهِ الليلةِ سيكونُ بلائي الذي جلبتُهُ لنفسي ، حيثُ توقفَ الرجلُ عن الشراكةِ معي فيما بعد ، وأعلنتُ بعدَها إفلاسي .وعودةً للحديثِ : بعدَ أن جلسَ الرجلُ واثقاً من نفسِهِ بأنّهُ أقنعَني سألني : كيفَ وجدتَ كلُّ شيءٍ في الدينِ والإيمانِ ؟
- قلتُ : ممتاز ، لكن ماذا كنتَ تقولُ عندما كنتَ تتمتِمُ ؟
- قالَ : الصلواتُ . ألا تعرفَها ؟
- قلتُ : لا . اعتقدتُ أنكَ تشتمُنا ، فشتمتُكم .
- شتمتَ من ؟ الصحابة !
تطايرَ الشررُ من عينيهِ .
- قلتُ لا يا رجل " صحابة شو " وهل أنا أعرفُهم كلّهم . كنتُ أمازحكَ فقط . عدتُ إلى البيتِ ولم أكن أعرفُ أنهُ سينهي شراكتَهُ معي في الغدِ . أردتُ أن أناقشَ زوجتي في مظهرِها ورائحةِ عطرِها . عندما تحدثتُ لها . انتفضتْ كالنمرةِ .
قالت : أصبحتَ تعرفُ رائحةَ العطورِ ! أنت تعيشُ طوالَ عمركَ في كومةِ البصلِ ، ولا تعرفُ غيرَ رائحتِهِ . عيّرَتْني بأهلي وعائلتي . اختبأتُ خوفاً منها . وفي زاويةٍ مظلمةٍ استغفرتُ ربي .قلتُ له: اغفرْ لي سأصومُ فقط عندما أتمكنُ من أن آكلَ مثلَ طعامِهِ . كانَ لي درساً لم أستفدْ منهُ . كررتُهُ مع أبناءِ بلدتي وطائفتي .
ففي مرةٍ أتى زعيمُ طائفتِنا الروحيُّ من أوروبا ، ومعهُ ممثلةٌ فرنسيةٌ جميلةٌ . كنّا نركبُ العرباتِ بحصانينِ مع عائلاتِنا . كانَ هناكَ سياراتٌ . لكنّ الزعيمَ مولعٌ بالخيولِ والعرباتِ ، و كانَ معي مُهرةٌ سريعةٌ . جميعُ أهلُ البلدةِ تواجدوا قربَ جبلٍ قريبٍ . كانَ زعيمُنا يصعدُ بفرسِهِ إلى أعلى الجبلِ ثم يعودُ . رأى فرسي وأومأ لي كي نتسابقَ . أشرتُ إليهِ أن لا ، وكنتُ أفكرُّ أنّهُ فيما لو سبقتُهُ ستكونُ نهايتي على يدِ أحبتي أبناء البلدةِ . أحدُ الأوصياءِ على الدينِ كانَ يراقبُني . اجتمعوا عليَّ . ضربوني . سرقوا فرسي . لكنّهم أعادوها فيما بعدُ . كلُّ ذلكَ لأنني أردتُ حمايةَ نفسي . ولمْ أخرجْ بعدَها في مناسبةٍ دينيةٍ أبداً، كما أنني لا أقربُ من الصيامِ أيضاً "
لا أعرفُ إن كانَتِ القصةُ مضحكةً . في يومِها قهقهتُ كثيراً، فقد كنتُ في السادسةِ عشرَ من عمري . وبَقيتْ عالقةً في ذهني إلى اليوم . أردتُ أن أحفظها في قراءاتكم ، وأن أمتنَّ للرجلِ الذي أدخلَ السرورَ إلى قلبي يومها .
في عودةٍ إلى المخلوطة ، وسأسميها بعدَ الآنِ شوربة إيماناً مني بالتطورِ، فليسَ بالضرورةِ أن نبقى على نفسِ العاداتِ والألفاظِ . منذُ أيامٍ التقيتُ بأحدِ زملائي في المدرسةِ الإعداديةِ وكنتُ أسميهِ بيني وبين نفسي "حسكور" تصغيراً لحسكِ السنابلِ التي لا يمكنُ بلعُهُ . وكانَ أهلُ "حسكور" يطبخون الشوربة في أكثرِ أيامِ الأسبوعِ . كانَ هو كسولاً في المدرسةِ يصفُهُ رفاقُهُ بالغبي . لكنّهُ اليومَ من الأثرياءِ الذينَ يستطيعونَ شراء كلِّ شيءٍ بما فيهم شراءُ الأشخاصِ . التقيتُ به بالصدفةِ عندَ مدخل بيتي . لم أعرفْهُ في البدءِ . هو من سلمَّ عليّ ودعاني إلى العشاءِ في أحدِ المطاعمِ . سخرتُ منهُ بيني وبين نفسي . قلتُ: " حتى أنتَ ياحسكور! " لكنّني كنتُ جائعةً، وقلتُ : عليَّ أن أتعلمَ المرونةِ في الحياةِ . لبّيتُ دعوتَهُ . عندما جلسنا إلى طاولةِ العشاء . جلبَ لهُ نادلانِ صحنَ المخلوطةِ معَ أنهُ لم يطلبْها . يبدو أنّهُ يتردّدُ كثيراً إلى هذا المطعمِ . جلبوا لي صحناً أيضاً . تجاهلتُهُ - أعني الصحن - رغمَ إصرارِ صديقي على فوائدِ تلكَ الشوربة للصحةِ . عندما انتهى من صحنِهِ أتى النادلُ سألَ ماذا تأكلونَ ؟طلبَ طعامَ حميةٍ صحيٍّ، أما أنا فقلتُ : كبابٌ حلبيٌ لو سمحتَ . مصنوعٌ من لحمِ الغنمِ معَ قطعٍ من الدهنِ ، والبصل المشوي وخبز قمحٍ مشروحٍ . معَ توابعِ الكبابِ الأخرى.
- سأل النادلُ : والسلطةُ ؟
- قلتُ لا تجلب لي سلطة . ثمّ قلتُ لحسكور : هل هناكَ من يزيل طعمَ الكبابِ بالسلطةِ ؟ طبعاً لم يبتسم ، لأنهُ لم يفهمْ الطرفةَ، و لأنّهُ كانَ مشغولاً بإثباتِ وجودِه أمامي . أكلتُ الكبابَ ملفوفاً بالخبزِ الساخنِ ، بينما هو مازالَ يقطِّعُ قطعةَ اللحمِ بالسكين .ويقولُ لي : كنتِ نباتيةً في الماضي . هل غيرتِ ؟ لم أجبْ على سؤالِهِ متشاغلةً عنهُ . عندما انتهينا . عدتُ إلى البيتِ وأنا مملوءةٌ بالمشاعر الإيجابيةِ. وفي تلكَ الليلةِ لم تصبني نوباتُ الذعرِ والقلقِ ، ولم ألجأ إلى جلساتِ التأملِ التي تفصلُني عن الزمانِ والمكانِ . نمتُ كالقتيلِ . رأيتُ أنّ في الكباب علاجٌ لجميعِ الأمراضِ ، والدهنُ كفيلٌ بجعلكَ لا تشعرُ بالقلقِ . وهو لا يزيدُ الوزنَ ، فها أنا أميلُ إلى النحافةِ بينما أكلتُ الكبابَ ، وحسكور بدينٌ لهُ بطنُ امرأةٍ في الشهرِ التاسعِ من حملِها .
المخلوطةُ أكلةٌ هزمتني يوماً . ما زالتْ تهزمني حتى اليومَ . تترددُ على شفتيَّ دائماً . كلما قرأتُ شيئاً عن تسامحِ الأديانِ أرى داخلي يقولُ "مخلوطة" وكلما قبّلَ الرؤساءُ بعضُهم معبرينَ عن فرحِهم باللاشيْ " مخلوطة " كلما تحدثت منظماتُ حقوقِ الإنسانِ عن شيءٍ. مخلوطة ! وكلما قالت إسرائيل أنها تسعى للسلام . "مخلوطة " بإمكانكم أنتم أن تعدّدوا ! أصبحتْ شعارَ العصرِ، فإما أن نأكلَها أو نأكلُ الخبزَ ناشفاً ! ليسَ المخلوطةِ فقط . بل حسكور أصبحَ شعاراً أراهُ في كلِّ من أقابلُهم ممن يصفونَ أنفسَهم بالعظماء المتواضعين . أسألكم : هل العالمُ اليوم كلّهُ مخلوطة وحسكور ؟ أم أنَّ عالمي هو الضيقِ الأفقِ ؟ لاشكَّ أنّها مخلوطةٌ ! !
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |