مواويلي . . .
خاص ألف
2010-10-31
في كلِّ يومٍ أعزفُ وأغني المواويلَ . اخترتُها عنواناً لكلِّ حياتي في زمنٍ كانَ للموالِّ أنصارٌ. يستمعُ إليه الناسُ بإنصاتٍ قبلَ أن يعبّروا عن النشوةِ التي تعتمرُ في قلوبِهم في نهايةِ الموال . في ذلك الزمن اخترتُ المواويلَ عنواناً لي . تحدثتُ بها عن الوطنِ . عن الزمنِ . عن الحبِّ والأمل . لكنّها كانت بلونٍ واحدٍ باهتٍ لا طعمَ لهُ . تُعزفُ على آلةٍ حزينةِ مملوءةٌ بالأنينِ . لم أدرسْ فنون العزفِ والغناء . وكنت أيضاً لا أعتقد أنّ الرقصَ لغةٌ يمكنُ من خلالها التعبير. لذا أتتْ الكلماتُ والألحانُ على نمط نسماتِ قريتِنا المعبقةِ برائحة الترابِ . المبللةِ بدموعِ النساء . مواويلي رغمَّ تعدُّدِ أغراضِها ربما كانتْ مخصّصةً فقط للبكاء .
على الشواطئِ القريبةِ . في الجهة الأخرى من الزمنِ . كانت تنعبُ الغربان . تأكلُ الفتاتَ . تبتعدُ عن الماءِ حيثُ النوارسُ تدوسُ فوق الأمواجِ . تلمعُ كالفضّةِ تحتَ ضوءِ الشمسِ . عيونُها تتّجهُ نحوَ الماء أو السماء . النوارسُ ليست معجبةً بنفسها لأنّها خلقتْ لتمشيَ فوق الماءِ، بينما الغربان تنعبُ ، وكلما علا صوتُها صفقتْ لنفسها بأجنحتِها قائلة : يا لروعتنا ! نحن طيورُ النغم والغناءِ .
من نايٍّ ملقى قربَ القصبِ المزروعِ على ساقيةِ ماء . انطلقَ صوتٌ شجيٌّ اعتقدتُ أنّهُ قادمٌ من الحلم . أغمضتُ عينيَّ للحظةٍ . سمعتُ من نغماته؛ صوتَ معلمتي . طفولتي . نشيد وطني. علمي الذي ضممتُه يوماً إلى صدري. عنونتُ به كلّ أوراقي و دفاتر. سجلتُه رمزا يعيشُ فيَّ وفي خواطري . تذكرتُ تلكَ الرؤوسَ الخضراءَ من القصب قبلَ أن تصبحَ ناياً كيف كنا نسحبُها من أمّها ، ونصنعُ منها صفارة . بعد فترةٍ تتجددُ الرؤوسُ كأنّنا لم نقتلعْها . كانتْ تشكلُ لنا الدهشةَ عندما تزمِّرُ منذُ ولادتها. فكيف بها بعد اكتمالِ نضجها وتحولها إلى نايٍّ يئِّن على وقع نغمات الحياةِ؟
الزمنُ يمضي . أحلمُ بالقصبِ الأخضرِ ، لكنّني ابتعدتُ كثيراً ، فلا ناياً لا قصباً ، ولا حياةَ لمن تنادي . الوطنُ نامَ هناكَ على أعتابِ مدرستي . قرّرتُ اليومَ أن أغيِّرَ ألحانَ مواويلي . كلماتُها . هويتُها . أرغبُ أن تكونَ نابعةً منّي، ولي فتلك التي تحدثتُ عنها لم تكنْ في الحقيقة تخصُّني . كانتْ مخزونةً في ذاكرتي. هي كلماتُ أمّي وجدّتي . ألحانُ أبي وجدّي . حداءُ الرعاة في بوادينا ، بينما أكتافهم ترتجفُ من البرد. يحدّثون الطبيعةَ. يشكون لها عذاباتَهم . اعتقدتُ للحظةِ أنّ المواويلَ لي. الزمنَ زمني . لم أدركِ الحقيقةَ إلا بعد أن سخرَ الزمنُ من قلة حيلتي . لم يكتبْ عني ولو كلمةً واحدة . لم ينبثْ ببنت شفة ، مع أنّني كنتُ أربّتُ على كتفه أحضنُه . عندما مضى. أخرجَ لسانَه لي ، وهزَّ كتفيه .
الزمنُ الآنَ يتّهمُني . يقولُ ليس لك تاريخٌ معي . سطورُك مسروقةٌ . أسماؤك مزوَّرة . عواطفُك مزيفة ، وكلُّ حكاياتك من الوهمِ . أنتِ من غرّرَ بي . ليس أنا من فعلَ ذلك بكِ . لم تقولي في مواويلِك أنكِ صلبتِ المسيح . قتلتِ الحسين . قطعتِ الرؤوس . وأدتِ البنات . رجمتِ . جلدتِ. نحرتِ البشرَ كالبعير . آثمةٌ أنت في كل حكاياتكِ ومواويلك . سأطردُكِ إلى زمن آخرَ يعرفُ كيفَ يعلّمُك الدروسَ أكثر مني . الزمنُ يرغبُ أن يصلبَني وأنا أنادي الربَّ قائلةً : اغفرْ له يا أبتِ . دعْه يرحلُ فطالما انتظر موتي . كانَ يحلم أن يزفّني إلى خيمةِ عزاء كبطلةٍ مقتولةٍ. كي يضعَ صورتي على صدرِه . يقولُ فيَّ كلماتِ التأبين شعراً ونثراً وغناء . طالبني بالموتِ لأكون من أبطاله . جلبَ غربانه إلى الخيمةِ قبل أن يغتالَني لينعبوا ويصفقوا بأجنحتهم السوداء . أرادهم أن يشهدوا على قهري . يرقصوا على قبري .
ما هذا الهذيان ؟ إنّني أندبُ حظي كأنّها نهايةُ العالم . اعذروني نسيتُ نفسي . مالي وما للزمنِ والمواويل العتيقة ؟ لن أكتبَ . لن أعزفَ بعد اليوم . سأحترفُ الرقصَ . المراقصُ تعجُّ بالطهرِ . تنحني الهاماتُ أمام كل راقصة تبجيلاً . قصتُها تكتبُ في قلوبِهم . في المراقصِ يجتمعُ جمالُ الجسد مع الروح . يصبح الراقصون كالملائكة . لا أتحدّثُ طبعاً عن مراقصي التي هي بريئةٌ من الجمالِ وحتى من الرقص .
أرقصُ اليومَ حكايتي معَ الخوفِ والانكسار في رقصاتٍ شرقيةٍ . يرتجفُ من الصقيع خصري . أصطنعُ ابتسامةً كي تنحني لي هاماتٍ ليست مرئيةٍ. أرى البابَ يفتحُ على مصراعيه قربي يقولُ لي هاتفٌ : هيا . ارم دفاترَك التي تحملينها . باتت عتيقةً . ادخلي من وسطِ البوابةِ . مراقصُ الدهرِ الجديدةِ في انتظاركِ . ستعلّمُك الرقصَ . الرحمة بالنفس . ألوانُها مثل ألوان الشفق . أنفاسُها من قلب الرياح ، لكنها بطعم السكّرِ والتفّاح . دخلتُ للتوِّ من أول باب . لابدّ أن تفتحَ كلّها بالتدريج . سأرقصُ هنا في مدخل الباب الأول . كي تبدأ الحياة ، وتزهرُ الأشجار . الوقتُ لن يطولَ . لن يطولَ . الحبُّ ، والزهرُ موجودٌ في كلّ الفصول .
دخلتُ من بواباتِ زمني الجديدة أجري . أفرجتُ عن تلك الطفلةِ في صدري . قلتُ للزمن : هل تسابق ؟ وافقَ . نحنُ منذُ اللحظةِ على حلبةِ الحياة نجري . أسبقُه مراتٍ . أحياناً يسبقُني . أستعيدُ قوتي . لا شيءَ أخافُهُ فلا غربانَ تنتظرُ ، ولا أكفَّ تصفّقُ . فقط سباقٌ صامتٌ بيني وبين الزمن . يسجّلُ كلَّ نقاط قوَّتي وضعفي . اليوم فقط عرفت ماذا يعني أن يكون الزمنُ زمني . المواويلُ لي . بعدَ أن أصبحتُ أغني وأعزفُ وأكتبُ كلَّ الأشياءِ رقصاً على أنغامٍ راقصةٍ !
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |