ضمن مئة متر مربع / رواية ـ الفصل الثاني
خاص ألف
2010-12-20
الفصلُ الثاني
اقتحمَ سرحانُ حياتي دونَ إذنٍ . هو الآنَ كلّ عالمي . يكتبُ على الصفحةِ الأولى كلّ يوم : كتبتْ عليا في " مذكراتِ امرأةٍ بعدَ منتصفِ الليلِ " كلُّ شيءٍ من أجلِ الحبِّ ، وكتبتْ أيضاً . . . يتركُ مكانَ الكلامِ لي . كتبتُ اليومَ :
كأنّ شخصاً ما كانَ ينامُ إلى جانبي ! لا أعرفُ إن كانَ ما يجولُ في ذهني هو كلماتٌ أتتْ من بقايا حُلمٍ . أم هي الحقيقة ؟ كأنّني سمعتُهُ يعلنُ أنّهُ : سيهتمُّ لأمري . اسمّهُ سرحان . يردّدُ جملتي " كلُّ شيءٍ من أجلِ الحبِّ " سأذهبُ إلى البحرِ قبلَ أن تطلعَ الشمس .. عينايَ مازالتا مغلقتين لا أستطيعُ رؤيتَهُ ، يبدو أنّني سهرتُ البارحةَ أكثرَ ممّا يجبُ لذا أشعرُ بتثاقلٍ . عليَّ أن أستيقظَ . تذكرتُ الآنَ . كنتُ أراقصُهُ . لا . لا . إنّهُ وهمٌ . ربما ليس كذلكَ ما زلتُ أشعرُ بالموسيقى . بلمساتِه . بعناقه . شعوري بالميلِ إلى النوم . سأتأكّدُ من الأمر الآنَ .
- سرحان. أرغبُ أن نستيقظَ باكراً . سنذهبُ معاً إلى البحرِ ، فمنذُ أن أتيتُ إلى هذهِ المدينةِ لم أذهبْ إلى البحرِ سوى عدةِ مراتٍ .
لا أحد َيرّدُ عليَّ . على الأغلبِ كنتُ واهمةً .
اليوم سأذهبُ إلى البحرِ. سأستعيدُ ذكرى حادثةِ نجاتِنا أنا وهاني ابني. كانَ عمرُه عشرَ سنواتٍ عندما غامرنا بصنعِ مركبةٍ من بعضِ جذوعِ الأشجار . تركنا تلكَ الجزيرة إلى الأبدِ .
- يبدو أنّ سرحان ليس وهماً . أسمعُ أنفاسَهُ . يغطُّ في نومٍ عميقٍ. لن أوقظَهُ الآنَ . سأمشي على رؤوسِ أصابعِ قدميَّ كي لا يستيقظ . هكذا كنتُ أفعلُ عندما ينامُ أبي وإخوتي وسعيد .
- هيا . هيا . قاربتِ الساعةُ على الخامسةِ . ألا تريدين أن تذهبي إلى البحر ؟ ما هذا الذي تقولينهُ عنّي ؟ إنّني لستُ مثلهم . أوضحتُ لكِ ذلكَ . امشي بطريقةٍ عاديةٍ دونَ خوفٍ من أحدْ . ولمَ الخوفُ يا عزيزتي . جئتُ من أجلِ الحبِّ . لكِ حبي إلى الأبدِ . إلى حبيبتي عليا سأكرّسُ كلّ ساعاتي !
- لا يمكنُ أن يأتي رجلٌ إلى حياتي بصفاتكَ. ربما أنتَ أكثر مما أحلمُ بهِ . كنتَ نائماً عندما فكرتُ في الذهابِ إلى البحرِ . ما هذا ؟ هل نتخاطرُ ؟ أم أنّك جنيٌّ ولستَ شبحاً ؟ لا يهمُّ . أفضلُ شيءٍ أن لا أبقى وحيدةً . لا أحبُّ أن أكونَ وحيدة ، ولا حتى برفقةِ أحدٍ حقيقيٍّ . هجرتُ الناسَ منذ زمنٍ طويلٍ . حتى ابني رحلَ عنّي من أجلِ العلم . . يأتي في كلّ عامٍ بضعةَ أيامٍ فقط . في مثلِ هذا الوضع . أنتَ أفضلُ صديقٍ لي يا سرحان .
ها قد وصلنا . لو سمحتَ دعني أجلسُ هادئةً على الشاطئ فما زالتِ العتمةُ تلفّهُ . انظرْ إلى أمواجِهِ من بعيد. إنّها تتحدّثُ بلغتهِ . البحارُ لها لغةٌ مثل لغتنا . تتحدّثُ بواسطةِ ذلكَ الموج . كم أحبُّ البحرَ ! لا أخافُه رغم تلك الوحشةِ الغريبةِ فيهِ . انظرْ إلى البعيدِ . أضواءُ المراكبِ والسفنِِ تبدو كنجومٍ في السماءِ . عندما كنتُ طفلةً . نظرتُ إلى النجوم . انظرْ الآن يا سرحان . النجمُ المذنّبُ نفسُه . يومها تمنيتُ أن أرى جزيرةً ما . استجابَ النجمُ لأمنيتي . عشتُ في الجزيرةِ أكثرَ من عشر سنواتٍ منقطعةً عن العالم الخارجيِّ . أيها النجمُ سجّل أمنياتي :
رتّبها بالأرقام
أعطها للبحرِ الهائجِ يحفظُها
اجعلِ الأمواجَ تردّدها
كي أعثرَ عليها
في مخيّلتي
لتكونَ أمنيتي
نسيتُ كيف يتمنى البشر
أعدني يا نجمي إلى الحياةِ
بدأتِ الشمسُ تظهرُ . انظرْ ما أجملها . سرحان هل تسمعني ؟ يبدو أنّه قد رحلَ . أو لم يكنْ موجوداً بالأصلِ . ضاقَ ذرعاً بحديثي . هاهو في قلبِ البحر يلوِّحُ لي .
- سأعودُ في المساءِ .
- هل أرى شيئاً؟ نعم . هو سرحانُ . صوتُهُ يرنُّ في أذني .
سأركضُ الآنَ على الشاطئ . فلا سرحان ولا غيره يراقبُني أشعرُ بالطاقةِ . ما أجملكَ أيها الصباحُ ! تملأُ صدري بالهواءِ النقيِّ . فأرى روحي طاهرةً مثلكَ . كم أحبُّ الصباحَ المملوء بالدفْ! سأمشي . أركضُ . أهرولُ . أرقصُ للشمسِ . أغازلُ البحرَ قليلاً . بيدي بعضُ الحجارةِ سأرميها واحدةً . واحدةً .
أحجاري إليكَ أرميها
كلّ حجرٍ كتبتُ عليه سرّاً
حبيبي أنتَ يا موجُ . غنِّ
ومثلكَ قلبي يرغي ، ويغني
عانقني . سيهدأُ معَ العناقِ
الضجيجُ في صدري
حبيبي أنت أيها الموج . غنِّ
أطربني .
- هل تداعبينني ؟
- كأنّني سمعتُ صوتَ البحرِ يكلّمُني .
- هلْ قرأتِ" مذكرات امرأةٍ بعدَ منتصفِ الليل " ؟
- إنّني عليا . كتبتُ " مذكراتِ امرأةٍ بعدَ منتصفِ الليلِ " حاولتُ أن أجلبها معي من الجزيرةِ . لم يكنْ لديَّ سوى بعضُ الأوراقِِ القليلةِ عندما كنتُ أسكنُ في الجزيرةِ. لم أستطعْ أن أكملها . صنعتُ ألواحاً طينيةً كتبتُ عليها قبل أن تجفَّ . تركتُها هناك ذكرى . إن اكتشفَ أحدٌ ما هذهِ الجزيرةِ سيؤرخُ أنّنا أولُّ من سكنَها . حتى ابني علّمتُه القراءةَ والكتابةَ بواسطة بعض العيدانِِ . كنّا نكتبُ بها على الترابِ وبعدَ أن نتأكّدَ من صحةِ المعلومةِ نكتبُها على الألواحِ . أوراقي القليلة ُ التي جلبتُها معي غرقتْ في البحر .
جلستُ على الرمالِ أفكّرُ :
خطفتَ ذكرياتي يا بحرُ
أعدني إلى سيرتي . أعدْ مذكراتي
في المرةِ الأولى كانَ عناقي معك
وفي المرةِ الثانيةِ هجرتني . تركتَني على سطحِ جزيرةٍ تسكنُك .
هل تعرفُ جزيرتي أين تكونُ ؟
في قلبِكَ أيُّها البحرُ تنامُ ، وأنت مازلتَ تغني
لا أعرفُ إن كنتَ بحراً حقيقيّاً أم وهماً
قد تكونُ حياتي كلّها لا علاقةَ لها بالحقيقة
قد لا أكونُ بالأساسِ عليا ولا غيرها
خلّصني من أوهامي وذكرياتي
- الذكرياتُ تحضرُني . المرّةُ الأولى التي ذهبتُ فيها إلى منزلِ عائلتي . حيثُ كانَ سعيدٌ لديهِ عملٌ خارجَ البلدةِ . كنتُ أخافُ أن أبقى وحدي في البيتِ .قبلَ أن يخرجَ . قلتُ لهُ :
- خذني معكَ . أخافُ أن أبقى في هذا المنزلِ الكبيرِ . هو موحشُ في غيابكَ . لا يمكنُ لي أن أكلّمَ الجدران . هي تحاصرُني وتضغطُ على عنقي . أشعرُ بالاختناقِ عندما أكونُ بينَ أربعةِ جدران .
- اذهبي إلى والدتك لو شئتِ ريثما أعودُ . خذي هذا المبلغ من المال . أنفقيهِ على نفسِك وعليهم.
- تعودُ بالسّلامة حبيبي .
نظرتُ إلى المالِ .ابتسمتُ بيني وبينَ نفسي . أردتُ أن أقسّمَ المبلغَ بين إخوتي وأمّي . سأقولُ لهم : أحبُّكم . فعلاً أحبّهم . هم كلّ حياتي وكلُّ شقائي .
أوصلني سعيدُ بسيارتِهِ إلى بيتِ عائلتي .
- قرعتُ الجرسَ .رأيتُ أمّي ضعيفةً واهنةً . رجفتْ عندما رأتني . فهمتُ أنّها تخافُ عليَّ من القتلِ .
- سألتني : لماذا أتيتِ ؟ هل طلّقكِ زوجُكِ ؟ ألا تخافينَ على حياتِك ؟ يا لهُ من نذلٍ ! غرّرَ بكِ وترككِ للريحِ .
- لا. يا أمي الأمرُ ليسَ كذلكَ . اشتقتُ لكم . اشتقتُ لكِ كثيراً . هذا كلّ ما في الأمرِ .
- كيفَ حالك يا ابنتي ؟ لماذا لم يدخلْ زوجُك معكِ ؟ ماذا سأقولُ لإخوتكِ ؟ إنّني أحبُّكِ يا عليا . لكن لا حول لي ولا قوةَ .
- أعرفُ هذا . أنا أيضاً أحبّك . إنّ زوجي مسافرٌ لمدةِ شهرٍ . هي فرصةٌ كي نستعيدَ بعضَنا البعض . خذي هذا المبلغ لكِ . هذا أيضاً لأبي . وهذا لإخوتي ، أرسلي أحدَهم يشتري لنا كلَّ ما يحتاجُه المنزل بالباقي ِ أظنُّ أنّ إخوتي لن يقتلوني بعدَ الآن.
- يبدو أنّ زوجُك يحبُّك . حمداً لله . هو كريمٌ أيضاً . أنتِ لم تخطئي . سأقولُ لهم ذلكَ . عليهم أن يسامحوكِ . أنتِ أيضاً يجبُ أن تسامحيهم . هم جيدونَ . ربما هو امتحانٌ من الله .
- يسامحونني على ماذا يا أمّي ؟ لم أرتكبْ فعلاً مشيناً . لماذا أنتِ خائفةٌ على الدّوام ؟ ليس من حقِّ أحد أن يحاسبَني . إنّني كبيرةٌ بما يكفي .
- حسناً يا عليا . أنتِ دائماً هكذا . لم تتغيَّري . إنّني خائفةٌ منكم وعليكم جميعاً .
لم يعدْ هناك خلافٌ في العائلةِ .
أحبَّني الجميعُ . عرفتُ مشاعرَهم . كنتُ عبئاً عليهم في الماضي . سامحتُهم . بل إنّني سعيدةٌ معهم .
الأيامُ تمرُّ . لا أعرفُ أخبارَ سعيد . أخافُ أن يكونَ قد حدثَ له مكروهٌ ما. كيف يستطيعُ أن يكونَ بتلك القسوةِ في عصرٍ مملوءٍ بالهواتفِ العادية والنقالةِ ؟
لابدّ أنّ مكروهاً حدثَ له .
ذهبتُ إلى منزلي . اشتقتُ لحياتي . أجهشتُ بالبكاءِ . أبكي على سعيد . يا رب . لا تجعلْه يموتُ الآن . رتّبتُ المنزلَ وأنا أتحسسُ آثارَه . صنعتُ لنفسي فنجاناً من القهوةِ . وبينما كنتُ أرتشفُهُ ، سمعتُ صوتَ أحدهم يديرُ مفتاح البابِ . خفتُ للحظةِ . عرفتُه من ضحكته . كانَ معه سيدةٌ . يبدو عليه السعادة . تقدمتُ نحوهُ لأسلِّم عليهِ .
- لماذا عدتِ دونَ أن أجلبكِ ؟
- أليسَ هذا بيتي يا سعيد ؟ بإمكاني أن أعودَ لهُ . ثمَّ إنّني أتيتُ لأرتبّهُ قبل أن تأتي من السفرِ . كيفَ كانتْ رحلتكَ ؟
- كلُّها تعبٌ . كنتُ أعملُ ولا ألعبُ . سأعيدُكِ الآنَ إلى منزلِ ذويكِ لأنّهُ لدي أعمالٌ مع السيدة "ديدي " في الخارجِِ . في الغدِ سآتي لأجلبكِ .
- لك ما تريدُ يا سعيد . لن أخالفَ لك أمراً .
لا أعرفُ لماذا أشعرُ أنّ قلبي حزينٌ . كأنَّ الزواجَ ليسَ شيئاً جميلاً . كنتُ أتوقُ إلى معرفةِ شخصٍٍ أتأبّطُ ذراعَه . نمشي معاً في ليلةٍ مقمرةٍ . يتحدّثُ لي عن الحياةِ بينما أصمتُ . أستمعُ إليهِ وقلبي يرفُّ من الفرحِ . تصورتُ أنَّ الزواجَ بدايةُ الطريق إلى الحب . بدايةُ عدمِ الخوف . هناك حمايةٌ ضدّ كلماتِ الغزلِ التي تصبحُ مشروعةً . قد يكون الأمرُ ليس كما أفكّرُ. أشعرُ بالضيقِ . كمْ أتمنى لو كانَ قربيَ أحدٌ أتحدّثُ إليهِ . قدْ أكونُ واهمةً حولَ الزواجِ والحبِّ. لا يمكن لي أن لا أفهم إلى هذه الدرجة . عليَّ أن لا أقضي على ذلك الفرحِ عندَ عائلتي . لأوّلِ مرةٍ أراهم سعداءَ . الطعامُ والشراب على الطاولةِ . أمي تروحُ وتجيءُ وهي سعيدةٌ لأنها تستعيدُ خبرتَها في الطبخ . هذا ما أجادته . لم تعرفْ كيفَ ربّتنا . جميعُنا غير لطيفين مع بعضنا البعض . كأنّ أحدَنا يقفُ على رأسهِ الطيرُ ما إنْ يسمعُ لفظاً موجهاً إليهِ ولو لم يكنْ عدوانيّاً حتى يردُّ عليه بقصيدةٍ مملوءة بالتجريح . يبدو أنّه ليس نحن فقط . الكثيرُ من أصدقائي مثلنا ينتظرون أن أتحدثَ بكلمةٍ فإما أن يكذّبوني أو يسفِّهون رأيي . أو يقلّلونَ من شأنٍ هامٍّ لديَ عندما أفشلُ أرى الفرحَ في عيونهم . عندما أنجحُ يقولون أنّني فشلتُ . الآن أقفُ في صفِّ الناجحين لأنّني تزوجتُ رجلاً يملكُ المال ، وأعطي لأهلي بعضَهُ أيضاً . هذا هو النجاحُ برأيِّهم . لذا لم يأتِ أحدٌ من أقاربي ليسلِّم عليَّ ، يوصلون رسائلهم لي يقولونَ : زوجُها مغفّلٌ لأنّهُ تزوجَ بفتاةٍ سيئة الصيت .
- إنه يقرعُ الباب . لقد أتى . نسيتُ كلُّ ما قلتُه عنهُ الآن . أهلاً حبيبي .
دخل سعيدُ ومعهُ هدايا لكلِّ فردٍ .
- همستُ في أذنه : إنهُ أسعدُ يومٍٍ في حياتي . كرّمتني عندما كرّمتَ عائلتي . أشعرُ بالفخرِ بك كما أشعرُ أنّه قد أصبحَ لي مكانةً بين أهلي . لن يستطيعَ أحدُ الأقاربِ أن يتجاوزَ عليَّ بعد الآن . أصبحتُ قويةً . كم أنا محظوظةٌ في هذهِ الدنيا !
- بلْ إنّني المحظوظُ الوحيدُ . تمكنتُ من الزواجِ بساحرةٍ جميلةٍ مخلصةٍ . لمْ أقدّمُ سوى الواجب يا عزيزتي . ألسنا أقارب ؟ حقُّهم عليَّ أن أقدِّم لهم العون . ليس لي أمٌّ ولا أبٌ . أعتبرُهم أمي وأبي وإخوتي .
- ما أروعك يا سعيد !
- بعدَ أن نتناولَ طعامُ الغداءِ سنذهبُ إلى بيتنا . إنّه مشتاقٌ لكِ . بدونكِ يبدو لا حياةَ فيهِ . أنتِ التي تضيفينَ إلى ذلكَ المنزلِ الجمال
- من أين تأتي بهذه الكلمات . أشعرُ أنّني طفلةٌ صغيرة لا تجيدُ الكلام . لا أعرفُ كيف أردُّ عليكَ .
-يكفي أن أرى في عينيكِ ذلكَ البريقَ الجميل وفي وجنتيكِ حمرة الخجلِ . .. ليس المطلوب منك أن تردّي .
تمرّ الأيامُ كاللحظاتِ . أخافُ على نفسي من هذهِ السعادةِ . معَ هذا لا أشعرُ بالفرحِ ، ولا بخصوصيتي . عندما يكونُ سعيد في المنزلِ . لا نفعلُ شيئاً سوى شربُ القهوة و تناول الطعام . لا نخرجُ إلى أيّ مكان . في الماضي كنتُ أكتفي بهذا القدرِ من الحياةِ . اليوم أشعر بالحاجةِ إلى التّغييرِ . أبدو في نظر نفسي إنسانةً طمّاعةً في بعضِِ الأحيانِ ، فكلما حصلتُ على شيءٍ . أشعرُ بحاجتي لشيءٍ آخر .
- هل فعلاً أنا سعيدةٌ ؟ كما لو كنتُ أضحكُ على نفسي. . إحساسي على الدوامِ يشعرُني بالهزيمةِ . لا شيءَ في حياتي . سعيد أيضاً لا تبدو عليه السعادةُ .هل حياتُنا هي مسرحيةٌ نمثّلها على بعضنا البعض ؟ أم هناكَ سرٌّ لا أعرفُه يجعلني مضطربةً هكذا ؟
مازلتُ خائفةً لا أشعرُ بالأمانِ . تنتابني حالةٌ تشبهُ الانتظار . لم يتغيّرُ الأمرُ كثيراً . أكادُ أختنقُ وأحتاجُ أن أرى الأزهارَ . الطيورَ . الطبيعةَ . أيّ شيءٍ . الأمرُ يضايقني .
أشعرُ بفراغٍ حولي
في نفسي . في كلّ الأشياءِ حولي
بضجيجٍ يقودني إلى الحياة ، وآخر يسحبُني منها
أعيشُ الحياةَ فجوةً تجتاحُها العاصفةُ
أرتاحُ ضمنَ الفراغِ ،لأستقبلَ فراغاً أكبر
كيفَ تمتلئُ الحياةُ بما أحبُّ
- سعيد . أشعرُ بالضيقِ . أرغبُ في الخروجِ من المنزلِ قليلاً . لن أستطيعَ الاستمرار هكذا . هل فهمتَ ؟
- حسناً يا عليا . سنخرجُ ، لا أحبُّ الخروجَ من المنزلِ بشكلٍ عام . آتي إلى المنزل لأرتاحَ من عناءِ العملِ . قلتُ لك منذُ البدءِ أن تقبليني كما أنا ، مع ذلكَ سنخرجُ إلى الطرفِ الآخر من البحرِ توجدُ جزيرةٌ صغيرةٌ سنبحرُ إليها . جزيرةٌ مملوءةٌ بالطيورِ والفراشاتِ. هي جزيرةٌ صغيرةٌ جداً لا أحد يعرف مكانها غيري . لكنّ الرحلة إليها تستغرقُ بعضَ الوقتِ . كما أنّ الوصولَ إلى البحرِ يستغرقُ أكثرَ من ساعةٍ . جهّزي الكثيرَ من الطعام والشراب . سنذهبُ في الصباحِ الباكرِ فغداً هو يومُ الجمعةِ .
- كم كنتُ سعيدةً عندما غادرنا في قاربٍ صغير ! البحرُ هادئٌ .الله يا سعيد .ما أروعَ هذا ! حتماً ستكونُ الجزيرةُ جميلة. في حياتي لم أشعرْ أنّ الحياةَ جميلةٌ مثل اليوم . أوّلُ مرةٍ أغامرُ بركوبِ البحرِ . ارتجفتُ لثانيةٍ . بعدها امتلأ قلبي بالحياةِ .
الحياةُ تغنّي معي اليوم
قلبي يستسلمُ للفرحِ
وعمري يحسدُ عمري
هي جزيرةُ الأملِ
حبيبي يبحرُ بنا
سيوصلني إلى الجزيرةِ
على أكفِّ موجِ يعلو ويهبطُ
ستكونُ جزيرةَ حبّنا .
في الجزيرةِ كانَ سعيدُ قد بنى بيتاً من الحجرِ هو غرفةٌ صغيرةٌ فيها بعضُ الفرشِِ والأغطيةِ ، وبعض أدواتِ الطعامِ وأشياءَ بسيطة
- ما أجملَها ! تعالَ نركضُ بين هذه الأشجار القليلةِ ونختبئُ خلفها كالأطفالِ . أشعرُ بالسعادةِ تغمرُني . لا يمكنُ أن يكونَ هذا الصفاءُ والجمالُ حقيقيينِ . من أينَ أتّتِ الأشجارُ إلى الجزيرةِ ؟ أتخيلُ الجزرَ تتكونُ من صخورٍ دائماً
- لا أرى فيها ذلكَ الجمالَ الذي تصفينهُ . أراها جزيرةٌ صغيرةٌ مقفرةٌ ليس فيها ما يسعدُ . أتيتُ لأنّني لا أعرفُ مكاناً آخر . مادمتِ ترينها بهذا الجمال . فهي جميلةٌ . ستقيمينَ فيها طويلاً على أيةِ حالٍ .
حلّ المساء . ذهبنا إلى النومِ باكراً . كانت أجمل ليلةِ حبٍّ بيننا . في اليوم التالي استيقظتُ . لم أجدْ سعيداً في الغرفة . اعتقدتُ أنّه سيعودُ . نظرتُ إلى البحر لم أرَ القاربَ أيضاً . ماذا جرى يا ترى عندما كنتُ نائمة؟
- لن أفكرّ في الأمر . سأستمتعُ بوقتي وأرى ماذا في داخلِ هذه الجزيرةِ . فمنذُ زواجنا لا يحضرُ سعيد إلى المنزلِ كثيراً . يسافرُ مع شريكته في العملِ "ديدي " الجزيرةُ أفضلُ من ذلكَ البيتِ الذي أدورُ فيه على غيرِ هدى .
ما أصغرَها ! أرى موقداً عليه قدرٌ في الطرفِ الآخرِ . ربما ليس الأمرُ كما قالَ سعيد . نظرتْ إلى الموقدِ . هناكَ حذاءُ امرأةٍ وحبلُ غسيلٍ عليه ثيابٌ. الحياةُ موجودةٌ هنا . من أنتِ أيتها المرأةُ الأنيقة ؟ لقد صنعتِ موقدكِ بدقةٍ شديدةٍ . يبدو جميلاً وقوياً . من أنتِ ؟ لا أشعر أنك موجودةٌ هنا . هل رحلتِ ؟ أم متِّ .لدي إحساسٌ كما لو كنتِ أنا .
هل المرأةُ التي صنعتِ الموقدَ هي أنا ؟ كأنّ روحها انتقلتْ إليَّ على الفورِ . أصبحتُ هي . وبحركةٍ لاشعوريةٍ جلستُ القرفصاءَ أمامَ الموقدِ . أضرمتُ النارَ بهِ . هذا حبلُ غسيلي . هذا حذائي . كنتُ هنا في مرةٍ من المراتِ . ضعتُ بينَ الصخورِ عدتُ الآن .
يا إلهي! لم يعدْ سعيد . هل يمكنُ أن يفعلَها ويتركُني وحيدةً لشهر مثلاً ؟ ولم لا ؟ فقد غابَ في مراتٍ كثيرة عنّي ولم يخبرْني . هي طباعُه . عليّ أن لا أفكّرَ في الموضوع . الليّل حلَّ والظلالُ ترعبُني، وهذه الغرفة الحجرية لا يوجدُ فيها من وسائل الحياةِ إلا القليل . حتى أنّها دون بابٍ يمكن للوحوش أن تفترسَني
سعيد طمأنَني أنَّ الجزيرةَ خاليةٌ من الحيوانات ليس فيها سوى بعض الطيور والقطط وبعضِ الأرانب . لن أخافَ إذن .لكنّ المرأةَ ماتتْ هنا . كانَ لها موقدٌ وحبلُ غسيلٍ . أوه . نسيتُ . المرأةُ هي أنا . فلا امرأةٌ غيري تعيشُ أحلامها فوقَ جزيرة صغيرة .
سأنسى موضوعَ سعيد .وإلا عشتُ العمرَ كلّهُ في انتظاره . سأوجدُ عالماً لي . سأزرعُ هنا بعض البذور. ، وأجمعُ الوقودَ كي أشعلَ النارَ في الموقدِ دائماً . كنتُ لا أعرفُ أنّ المرأةَ صاحبةُ القدرِ على الموقدِ هي أنا . اعتقدتُ للحظةٍ أنها ماتت .
عليّ أن أتغنى بكِ أيّتُها الجزيرةُ منذُ اليومَ
قد تكونينَ كلَّ عالمي الذي أحبُّ
أو كلّ حياتي التي لا أحبُّ
أنتِ جزيرةٌ لأحلامي
أو لآلامي
لحبٍّ أرغبُ أن يدومَ
أنتِ جزيرتي منذُ اليوم
ماذا أسمّيكِ أيّتُها الأرض التي تغفو في قلبِ بحرٍ هائجٍ ؟
سأسميكِ : بوّابةُ حلمي
لا يمكنُ أن أعملَ شيئاً
إلا الحلم .
أنتِ بوابةٌ للحلمِ
مرت الأيامُ . في إحدى الليالي الشتويةِ سمعتُ صوتَه .
يا فرحي !
سعيدٌ أتى ليأخذني
إلى الدنيا هناكَ بعيداً عن الجزيرةِ
أخشى أن أموتَ مثل تلكَ المرأة التي هي " أنا "
- سعيد . لماذا تركتَني وحدي ؟
- ألستِ أنتِ من طلبتِ الانضمامَ إلى الطبيعةِ ؟ عيشي الطبيعةَ كما تشائين . تعالي معي لقد أتيت بكميةٍ كبيرةٍ من الطعام تكفي لمدةٍ طويلةٍ . سأبقى هنا معك فقد أحببتُ الطبيعةَ مثلكِ .
- لكنّني اشتقتُ لأمّي .
- سأجلبُها إلى هنا في المرةِ المقبلةِ .
- أريدُ أن أعودَ إلى المدينةِ يا سعيد ، فالحياةُ هنا موحشةٌ والليلُ يمرُّ ببطْءٍ . النهارُ طويل ، ولا أعرفُ ماذا سأفعلُ طوال الوقت .
أتيتُ فقط من أجلِ التغييرِ . لا أحبُّ أن أبقى هنا . هناكَ امرأةٌ تناديني . تقولُ متُّ هنا . فأنظرُ إلى نفسي . أعتقدُ أنّني هي .
- في المنزلِ أيضاً لا يوجدُ شيء تفعلينه ، كما أنّني لستُ متواجداً فيهِ في أغلبِ الأحيانِ . سأجلبُ لك في المرةِ المقبلةِ كتباً تقرئينها .
قد أجلبُ لكِ أمّكِ . ألا يكفيكِ وجودي ؟ أم بدأتِ تشعرينَ بالمللِ مني .
- أبداً يا سعيد . فقط أريد أن أحيا .
في الصباح أعدّدنا معاً الطعام على الموقدِ . هو موقدي . يخضعُ لإرادتي ومن داخله أنادي نفسي بأنني لم أمت .
- هذا موقدُ أمي . كانت بارعةً في صنعِ الطعام . انظري إلى أناقته. تعتقدينَ أن صاحبته ستأتي بعد قليل . كانَ أبي هو من اكتشفَ هذهِ الجزيرة . أصبحنا نتردّدُ عليها . وفي مرةِ أتيا لقضاءِ بعضِ الأيامِ . لم يعودا . بعدَ فترةٍ شاهدوا جثثهما طافية قربَ الشاطئِ . هذا يعني أن قاربهم غرقَ قبل وصولِه بقليلٍ .
- لم تذكرْ لي هذهِ القصة من قبل . كما أنّها تبدو غير مترابطةٍ
وكأنّكَ ألّفتَها للتوِّ . أنا متأكّدةٌ أنّهُ لي . صنعتُه ثمّ تهتُ عنه . اعتقدتُ أنّني متُّ . انظرْ . لا أزالُ حيةً .
- لا بأسَ أن تتحدثي بما تشائين . هو موقد أمي . قلتُ لكَ ذلكَ
- أخشى أن لا أستطيع الاستمرار في موسمِ البردِ هنا . كما أخشى أن يحدثَ لي ما حدثَ لوالديكَ . بما أنّني حاملٌ . سنكونُ ثلاثةً يبتلِعهم البحرُ . أم أنكَ سترحلُ مرةً أخرى ؟ .
- سنفكّرُ في الأمر . دعينا نعيشُ اللحظةَ . اشتقتُ لك . أما عن الحملِ ، فمن المبكّرِ أن نفكّرَ بهِ . مازال لدينا بعضَ الشهورِ .
مضى ثلاثةُ أيام على وجود سعيد . كان يقضيها بالأكلِ والنّوم ثم رحل .
- سأعودُ قريباً . لن أتأخرَ
- رافقتك السلامة يا سعيد.
حتى لو لم تعد لن يتغيرَ شيء فأنتَ لم تأتِ أساساً . أكلتَ وشربت ونمت . ثمَّ رحلتَ . يبدو أنّكَ تخطّطُ لموتي . أشعرُ بالتوجس منك .
في تلك الجزيرة المعزولة أتوقُ إلى الحديثِ مع شخصٍ ما . تمنيتُ أن تحدّثَني عن أيِ شيءٍ. قلبي لا يريدُ أن تعودَ بهذا الشكل . لم أكنْ أعرفُ أن الزواجَ هكذا ، وهذا الطفلُ الذي سيأتي إلى العالم ما ذنبه كي يعيش في هذه الجزيرة ؟
كيف استطعتَ أن تفعل هذا ؟ إنّني غاضبةٌ منكَ . سامحني يا رب . لا أعني ما تحدثتُ عنهُ . أرغبُ أن يعودَ سعيد . حتى لو كانَ صامتاً . هو الأملُ الوحيدُ لي والذي يستطيعُ إنقاذي .
القمرُ هلالٌ والنسيمُ دافئ يجعلُ الإنسانَ يعيش حالةً من الشوقِ والحنينِ . لا أعرف طريقاً ينقذُني من هذهِ الجزيرةِ .
جلستُ على حجرٍ كبيرٍ قربَ الغرفةِ أناجي القمر .
- أرغبُ أن أتحدّثَ إلى أحدٍ . أن أرقصَ . لديَّ طاقاتٌ تدعوني إلى تجاوزِ ذلكَ السكونِ القاتل . سأغني للقمرِ
قلْ لي أيّها الهلالُ
متى ستصبحُ بدراً
تعالَ نرقصُ معاً
أو أرسلْ لي رسولاً
أيها القمرُ أنرْ قلبي
الغارق في الظلمةِ
أعطني بعضَ مفاتيحِ الحياةِ
ما أصعبَ الحياةَ إن لم تكن ملككَ !
أجهشتُ بالبكاء أسندتُ رأسي إلى الجدار. يبدو أنّني غفوتُ . نسماتُ الليل أثقلتْ أجفاني . أحدهم كانَ يحملني ويضعني على فراشٍ وثير . اعتقدتُ أنّهُ سعيد . تنهّدتُ .أرجو أن لا يكونَ حُلماً . سأغفو كي يمتدَّ حلمي إلى الصباح . استيقظتُ رأيتُ ثلاجةً صغيرةً فيها أوانٍ فضية مملوءة بالماءِ العذب . لا يمكنُ أن يكونَ هذا حقيقياً . قرصتُ خدي لأرى إن كنتُ حيّةً أم لا . نظرتُ إلى الخلفِ . رأيتُ شابّاً يبتسمُ لي .
يبدو أنّ القمرَ استجابَ لدعائي .
– من أنتَ ؟
- لم يستطعْ أن يحدثَني . أمسكَ بيدي . أشارَ إلى القمرِ . عرفتُ أنّه أتى منه أو من قربهِ . سميتُه "قمر الزمان " . كان يقودُ سفينةً مملوءةً بكلّ أمرٍ يلزمني . سفينتُه تلكَ أقربُ إلى سفينةِ الفضاءِ
- مسحتُ دموعي . خفقَ قلبي بالحنينِ. تذكّرتُ سعيد .
- حدّثُتهُ دونَ أن يستوعبَ كلماتي . أسهبتُ في الحديثِ وأشرتُ إلى أنّ أمّي كانتْ تستحقُّ حياةً أفضل . كانتْ تفرضُ الأشياءَ عليَّ كي لا يلمُّ بي خطبٌ أو مكروهٌ ، وها قد ألمَّ بي .
- تحدّثَ بالإشارةِ : حكاياتُ الحزنِ متشابهةٌ. أمي أيضاً لها عذاباتها . هي الحياةُ هكذا . . أفهمَني أنّه سينقلُني في مركبةٍ لا يراها أحد. لأذهبَ إلى أمّي . هذا ما حصلَ . استيقظتُ من النومِ . لم أجدْ قمر الزمانِ ولا كلّ ما رأيتُ . يبدو أن كلَّ ذلك كان مجردَ حلم . كان يأتي من خلاله قمر . كلُّ ليلة ليغيّرَ عالمي ، وأتمسكُ بالحياةِ. أتحدّثُ لك يا بحرُ عن عليا القديمة. تلكَ التي كانَ الخوفُ هو عمرها .
لكنَّ قمرَ الزمانِ لها
الحبُّ لها
العمرُ مرهونٌ بأمرِها
أتحدثُ لكَ يا بحرُ .
عن عليا
حكايتُها
اسمعْ حكايتي
انقلْ كلَّ أخباري إلى أحبّتي .
هذا كانَ في الماضي البعيدِ .
عندما أعادني قمرُ الزمانِ إلى الحياة .
يومَ كنتُ أخافُ تلكَ الجزيرةِ
كنتُ أخشى أن يأتي سعيدُ في غيابي فيتّهمني بالخيانةِ .
نظرتُ إلى أعماقكَ هناكَ .
- يا إلهي ! إنهُ سعيدٌ في عمقِِ البحرِ . لم أفهمْ من زواجي بكَ يا سعيدُ شيئاً . رأيتُك للحظةٍ ثمّ رحلتَ .
أحبّكَ. لماذا تركتني على هذهِ الجزيرةِ . لم تتحدثْ لي عن حياتكِ . هل هذهِ هي الحياة ؟ صدقْني . كنتُ أنوي أن أتعرفَ عليكَ أكثر . لمن ألجأ يا سعيد ؟
- قمرْ الزمانِ تعالَ إليَّ الآنَ
إنّي وحيدةٌ
حدّثني عنِ الحياةِ فقط .
- لا تحزني .
جئتُ إليكِ
سأحكي لكِ عن حبّي
عن أوجاعِ قلبي
إنّي معذبٌ في حبّكِ
قلبكِ يعيشُ
في قلبيَ
- هل الرجالُ يتعذبونَ من الحبِّ ؟
- ليسَ كلّ الرجالِ . لكنّني أتعذبُ يا عليا .
علميني الكتابة والقراءة بلغتك .
- سأعلمّك . ثم تعلمُني لغتك .
- كم عمركَ يا قمر الزمان ؟
- عمري تسعونَ عاماً .
- لا شكَ أنك تمزح !
- أبداً هذه هي الحقيقة
أنتِ كم عمرُك ؟
عمري أكثر من ثلاثين.
- يا إلهي ! إنكِ طفلةٌ هل يجوزُ أن تحملَ طفلةٌ ؟
إنني ناضجةٌ. في التسعين يموت الناس هنا .
- ما معنى يموتُ ؟
- يتعطلُ كل شيء في أجسادهم ثم ندفنُهم في الترابِ .
- لكنّ الحياةَ عندنا في كوكبِ " الإكليل " أبديةٌ .
- لا أصدّقُ ما أسمعُ . أولاً لم أسمعْ باسمِ هذا الكوكب . هل تعني أنّ والدَك مازال على قيدِ الحياةِ ؟
- نعم . لكنّه الآن يرغبُ في النومِِ . سوفَ ينامُ مئة عام ثم يعودُ كما كان . . سأذهبُ الآن . مركبَتي تنذرُني
- مع السلامة. أدخلتَ الفرحَ إلى حياتي . لا تكنْ مثل سعيد تغادرُ ، ولا تأتي.
- سآتي . سآتي . لن أترككِ وحيدة .
لا أعرفُ إن كان ما يجري واقعاً أم حُلماً . ألا يمكنُ أن يكونَ قمرُ جنيّاً . لم أجربْ أن أبسملَ . في المرةِ القادمةِ سأبسملُ فإن كانَ جنياً سيختفي على الفور. حتى لو كان جنياًّ . ساعدني حضوره . أشعر أنّني راضيةٌ عنه . أطعمني . ملأ عالمي إنّني محظوظةٌ بهؤلاءِ الخوارقَ الذين يأتونَ إلى عالمي .
لم أطلبْ منه المالَ من أجل الطفلِ الذي سيأتي إلى هذهِ الدنيا . هكذا أنا دائماً أنسى نفسي . سأذهبُ إلى النومِ كي أحلمَ به يأتيني بالمالِ والطعام والخلاصِ .
لكنْ إن عاد سعيدُ . ماذا أقولُ له لو اتهمني بالخيانةِ ؟
أسمعُه: أنتِ طالق . لقد خنتِني .
- أليسَ أنتَ من جلبَني إلى هنا . إن كنتَ تخافْ من الأمرِ ابقَ معي كي تتأكدَ أنّني لا أخونك ، لا أعرفُ كيف تكونُ الخيانة .
سعيدُ لن يأتي . رأيتُه في البحرِ ميتاً . ماتَ سعيد . تركني لليلِ والأشباح . ما زلتُ أنتظرُ مولوداً .
أين أنتَ يا قمر ؟ تعالَ إليَِ لتخلصَني من تلكَ الوحدة على هذهِ الجزيرةِ الصغيرة . مساحتها لا تكفي كي أمشي بها عدة أقدامٍ فقط هاهو قمر يأتي ومعهُ كتابٌ .
- أتيتُ بالكتابِ المقدّسِ كي يساعدُكِ على تجاوزِ الألمِ .
- ما وجهُ قدسيتِهِ ؟
- الكتبُ كلّها مقدسةٌ يا عليا . قدسيتُها في أنّها تعلّمُنا كيف نحيا ، ونتأملُ ذلك الكونَ بمجراتِه . هذا الكتابُ إذا أنهينا قراءته . سنبحثُ عن آخرَ، فالكونُ لا تنتهي أسراره .
إنها فرصتُك يا عزيزتي في التأمّلِ في هذا السجن الذي لن أستطيع تخليصكِ منه بسهولةٍ ، وقبل أن يأتي المولودُ الجديد . عشرُ ساعاتٍ من التأمل ، وحلّ المسائل الرياضيةِ سيكونُ كفيلاً بإعادةِ ذهنك إلى النورِ. عندها سيسكنك الإيمانُ بأنّ الحياةَ نعمةٌ علينا الحفاظ عليها . كوني مختلفةً عن البشر أيتها الصديقة العزيزة . البشرُ لم يفلحوا في حياتهم لأنّ كلَّ شيء عندهم سهلٌ . حتى ممارسة طقوسِ الدين هي مجردُ شكلٍ لا أكثر . ما رأيكِ أن أعلّمُكِ صفحةً من كتابي المقدس وتعلمينني أنت صفحة من كتابكم المقدس ؟
- أليسَ لديكَ غيرُ الكتبِ تتحدّثُ عنها ؟ ليسَ لديَّ كتابٌ مقدسٌ .
- اكتبي واحداً . يمكنُكِ فعلُ ذلكَ . سجلي فيهِ أحلامَ الإنسانِ . حدّدي قيمَهُ كما ترينها . تفرّغي لكتابتهِ منذُ الآنَ . سأساعدكِ . سيكونُ لديكَ أروعَ كتابٍ مقدّسٍ .
- قلْ لي أشياء أخرى . هل عندكَ غير هذا ؟ فليس لديَّ الورق لأكتبَ مذكراتي حتى . كما أنّهُ لاشيْ عندي أضيفُه إلى الكتبِ .
ولاشيءَ عندكَ لتقولَهُ لي .
- من قالَ لكِ أنّه لاشيء عندي ؟ بل عندي الكثيرُ من الأشياء . الكثير جداً . هل أنا حجرٌ حتى لا يؤسرُني ذلك الجمال ؟ كل ما أرغبُ به أن تستطيعي مرافقتي . قلبي يخفقُ لرؤيتك كلّ ثانية رغم أن أمي تحذّرُني من المخاطر .
- كفّ عن هذا الهراء . رجلٌ في مثل سنك مازالَ لأمّه رأيٌ في حياته .
- إنّها أمّي يا عزيزتي . مهما بلغتُ من العمرِ سأستمعُ لها بمحبةٍ وأجيبُها بلطف .
- ووالدكَ !
- والدي انسحبَ حالياً لمدةِ مئةِ عام . هكذا طلب من المشرفين أن يجمّدوه لمدةِ مئة عام . لم تعجبْه الحياةُ مع الأطفالِ والزوجة . يريد أن يكونَ في مكانةٍ أفضل . قد يكون هكذا بعد أن يعودَ إلى الحياةِ .
- لم أفهمْ . هل تخلّى والدُك عن مسؤولياته . أي أنّكم لا تختلفون كثيراً عنا . لقد هربَ والدك بطريقة ما .
- ربما . أرغبُ أن أتحدّثَ عن نفسي . هل لك أن تسمعي ما أقولُ ؟
- تفضل .
- هذه الجزيرةُ الصغيرة التي تعيشينَ عليها وحيدةً . هي ما جعلني أفكّرُ فيك مراراً . من أين أتيتِ بهذهِ القدرةِ على العيشِِ؟ بالنسبةِ لي . لا أتمكنُ من العيشِ هكذا .
- لا أدري إن كنتَ تتحدّثُ لي عن واقعٍ أم خيال . إنّني أراه أقربُ إلى الخيال. حياتي قائمةٌ على زراعة بعض الحبوبِ و العنايةِ بالأشجار المثمرةِ التي تساعدني. لا فكرة لي عن العالم الخارجّي إلا من خلال ما أتخيلُه . أشعر أحياناً أنه لا يلزمُني . هذه الجزيرةُ الصغيرة هي وطنٌ كاملٌ لي . عندما لا تأتي إلي . أبدأ يومي باكراً وأبدأ بعمل يكون شاقاً ويرهقني . بتُّ لا أحدّثُ أحداً حتى أنني لا أجيدُ لغةَ الكلام مع نفسي .
أشعرُ أن عمري ألف عام . أو أنّني خلقتُ يوم خلقَ الكون . طالما حلمتُ بحبيبٍ أتأبّطُ ذراعه ونمشي. نثرثرُ في كلِّ شيء تائهين عن الحياة . لم أكنْ أعرفُ أنّ الحياةَ قاسيةٌ هكذا .
- انظري إلى تلك الفراشاتِ البيضاء . جلبتُها لك كي تتسلي بها . عودي يا عليا طفلة عيشي طفولتك ثانية ، وسأكونُ معك قدر الإمكان . سأغادرُ الآن وسآتي فيما بعد . لدي مهماتٌ لن أستطيعَ تركها .
- لا تتركْني يا قمر الزمان ، فليس لي أحد في هذه الدنيا سواك .
- وكيف أتركُكِ ؟ هل يمكنُ للإنسان أن يتركَ روحَه . ؟
رحلَ قمر .
. لم يعد أمامي سوى أيامٍ للوضعِ . ربما أموتُ هنا غريبة وحيدة دون أن ينقذَني أحد . أصبحتُ لا أستطيع العيشَ خارج الجزيرةِ . في مراتٍ كثيرة أشعرُ بالضّيق عندما أنهي أعمالي اليومية التي ابتكرتُها كي لا يقتلُني الملل . صدري يضيقُ بالجزيرة وبكل ما فيها . ما إن يحلّ المساء إلا ويكونُ جسدي قد أرهقه العملَ ، فأستسلمُ إلى النوم، ولولا بعض الشجيرات التي أزرعُها وأحدّثُها لما تمكنتُ من الاستمرار . إنّني أغني لها كما تغني الأم لوليدها . هي أيضاً ترتجف فرحاً عندما تسمعُ صوتي .أحياناً أرى أنّني تعودتُ على الجزيرةِ وأنّها أفضلُ مكانٍ في العالمِ .
ما هذا ؟ أشعرُ بالألم . هل هي الولادة ؟ كيف سأتصرفُ وأنا وحدي هنا . لماذا كلُّ هذا العذاب ؟
ماما . أين أنتِ ؟ سأموتُ . أحسدك. عشتِ ضمن عائلة . كنتُ أعتقدُ أن حالي سيكونُ أفضلَ من حالك . إنّني أموتُ . لا .لن أموتَ . الحيواناتُ تلدُ ولا تموتُ . سأمسكُ بجذعِ تلك الشجرة ، سأساعدُ طفلي كي يعيشَ . لابدَّ أن يعيشَ . بدأتِ الشمسُ بالظهور . إنّه صوتُ الطفل . لم أمتْ . ليس لديَّ ثيابُ أطفال . سألفُّهُ بثيابي ثمَّ أنام . لا أعرفُ كيف أتعاملُ مع الأطفال .
إنّهُ مولودٌ ذكرٌ . ماذا سأسميه ؟ سأنتظرُ والده كي يسميه، لكنّه لن يأتي . ماتَ . سأسميه هاني .
-هاني . سأغني لكَ كلَّ يوم . سأحملُك . أنصبُ لك أرجوحةً بين الأشجار. ليذهبْ العالم كلّه إلى الجحيم مادمتَ معي .
مادمتَ معي ستبقى روحي
في النور
مادمتَ معي ستمتلئُ
الحياة بالزهور
مادمتَ معي سوفَ أحيا
وفي يومٍ ما سيغمرنا السرور
ابني أتى إلى الدنيا
يطالبُ بحقّهِ في الحياةِ
ستعيشُ . ستعيشُ
وتكونُ لنا حياةٌ طويلةٌ سعيدة
ها قد أتى قمرُ الزمانِ. سيساعدُني . هل أنت وهمٌ أم حقيقة ؟ أذهبُ إلى النوم . أتخيلُك أمامي . ولو لم أتخيلك لما استطعتُ النوم . نتحدّثُ معاً . نضحكُ . إنّك تعوّضُني عن كلِّ ما ينقصُني في الحياة . أتدري! لا أعرفُ أحياناً بماذا أفكّرُ عندما تكون غائباً . أنهي كل أعمالي . أنتظرُ أن تصلَ . أن يصلَ هو. أو أيّ شخصٍ لا أحبُّ الوحدة . اعتقدتُ أن الزواج سيحلُّ هذا الأمر فإذ بهِ يزدادُ أخطأتُ كثيراً بحق أمي . كان بإمكاني العملَ والبقاء ضمن أسرة توفّرُ لي الشعورَ بالحياة على الأقل بدلاً من أن أعيشَ العمرَ وحيدةً هكذا . لا أعتقدُ أنّ نهايةَ الحبّ هو الفراق . هل كلُّ البشرُِ مثلي ؟ أم أنني حالةٌ فريدةٌ ؟
- آه يا عليا . كلُّ هذه المتاعب تمرُّ بيومك . كلُّ هذه التناقضات ؟ سآتي كلَّ يومٍ من أجل أن لا تشعري بالوحدةِ . أنت حبيبتي .
- اجلبْ لي يا قمر خيوطاً ملونةً وأقمشةً بيضاء . سأصنعُ لهاني أجمل ثيابٍ . ألوّنها بأحلامي .
- خذي . كلّ هذا القماش لكِ . كلّ تلكَ الإبر والخيوطِ .
- ما أجملَ هذه الليلة ! إنّ الحديثَ مع الخيوط الملونة والإبرة ووجود هاني قربي يشعرُني بالحياةِ الجميلة . تختلطُ مشاعري بالحنين إلى أمّي .. لم يعدْ في داخلي مشاعرٌ غاضبة ضدَّ أحد . سأنامُ الآنَ فالساعة الثالثة بعد منتصف الليل .
أينَ أنا ؟ أشعرُ أنّني مازلتُ على تلكَ الجزيرةِ . معَ أنّني تحرّرتُ منها منذُ زمنٍ بعيدٍ . الأحداثُ ما زالتْ أمامي . لم يكنْ كلُّ شيءٍ جيداً . لولا دعمُ الرجالِ لي لم أنجُ . كان سعيد . ثمّ قمر الزمان ، والآن سرحان . سعيد لم أرهُ كثيراً كان في حياتي . . لاشكَ أنّهُ كانَ مثلُهم داعماً . فقطْ القدرُ واجهَهُ فماتَ.
سأذهبُ الآنَ إلى البيتِ . سرحان سيعودُ في المساءِ . إنّني محظوظةٌ بوجودِ رجلٍ مثل سرحان في حياتي . هو دافئٌ . كلامُهُ لطيفٌ . كنتُ دائماً أحبُّ الرجلَ مثلَ سرحان أو قمر الزمان . إنّهم مختلفونَ عن الذين التقيتُ بهم . ليسَ جميعُ الرجالِ متشابهينَ . فقمر وسرحان . رجالٌ أيضاً ! ليتَ جميع الأزواجِ مثلهم .
سأنظرُ إلى البحرِ قليلاً ثمّ أعودُ .
- ما بكَ أيُّها العصفور تعترضُ طريقي دائماً . هل أنت وهمٌ ؟
- تقولُ أنّك أتيتَ من مكانٍ آخر . مرةً أخرى أتيتَ من عند أمي
- أوه من عندِ سعيد ! كيف حاله ؟ هل سألَ عنّي . عن هاني . عن أيّ شيء؟
- نعم . قالَ انتبهي للطفل .
- هو رجلٌ لم يعدْ طفلاً .
يمكنُكَ أن ترافقني . سأشتري بعضَ الطعامِ كي نأكلُ في المساء عندما يأتي سرحان . أخشى أن يأتي مرهقاً من التشرّدِ . قالَ لي أنّ كلّ عالمه تشردٌ . يبقى خارجَ المنزلِ إلى أن لا يجدَ أحداً فيعودُ وقد تعبَ . يكونُ كلُّ من في البيتِ قد نام .
- لماذا لا يشتري سعيد ؟ يتشرّدُ بين البراري والحارات . ثم يعودُ لتطعميهِ ! كفاكِ سخفاً يا امرأة .
- سرحان مختلفٌ تماماً . هو رجلٌ ليس ككلِّ الرجال . كم أحبُّكَ يا سرحان . ليتَ كلّ الرجالِ مثلكَ !إنك أيها الطيرُ تتحدّثُ عنه بالسوءِ . أجزمُ أنّكَ رجلٌ تغارُ منه . أين أنتَ أيها الطير ؟
أنت رحلتَ أيضاً
ليرحلِ الجميعُ
لن أهتمّ بعدَ الآنِ لأحدٍ سأهتمُّ لنفسي فقطْ .
العصفورُ خلفي لم يذهبْ بعد
قلْ لي أيها الطير. أرى الكثيرَ من البيوت فيها نساءٌ وأطفالٌ ولا أجدُ الكثير من الرجال . هل كلّ هؤلاءِ النسوةِ غرقَ أزواجهنَّ في البحرِ مثل سعيد ؟
لم يعجبُه حديثي . رحلَ دونَ أن يقولَ وداعاً .
حتى العصفورُ لا يهتمُ لأمري
- قمرُ الزمانِ أنانيُّ
- أسمعُ صوت سرحان . كانَ يقرأ المذكراتِ وأنا أكتبُها . يا لكَ من محتالٍ يا سرحان !
- بل إنّني مهتمُّ لأمركِ . سعيد . قمر الزمانِ . أو غيرهم من الرجالِ ليسَ لديهم إحساسي بالحبِّ تجاهك !
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |