أمهاتٌ عازباتٌ
خاص ألف
2011-01-03
أتابعُ النشرةُ الجويةُ كلّ يومٍ . أنتظرُ أن ينزلَ المطرَ على أرضِ حبيبي هناكَ في الجزيرةِ السورية العليا. كانَ عاشقاً لرائحةِ المطرِ يومَ ينزلُ لأوّلِ مرةٍ على الترابِ . يقولُ عنهُ : " أزكى عطرٍ في العالمِ " أقمتُ في تلكَ المنطقةِ لأكثر من ثلاثين عاماً . كانت مملوءةً بالخيرِ والمطر . الثلجُ يهطلُ أكثر من عدةِ مراتٍ في العام . يخرجُ المزارعون بلا مظلاتٍ . يتشاءمونَ من المظلةِ وحسب ما كانوا يعتقدون : تجعلُ السماء تغضبُ فيتوقفُ المطر . المواسمُ كانت تعني أعياداً حتى عند الفقراء . ينالُهم بعضُ الخير بطريقةٍ ما أهلُ المنطقةِ - الذين رحلَ أكثرُهم عنها - يردّدون أنّ الجزيرة السورية مصنفةٌ ضمنَ المناطق التي تسدُّ مجاعة العالم لو حدثت . في النشرةِ الجويةِ : عاصفةٌ رمليةٌ تجتاحُ الجزيرة السوريةِ العليا ولا مواسمَ من عدةِ سنوات . غضبت السماء فامتنعتِ الأرضُ البكرُ عن العطاءِ .
الخبرُ لم يسرّني لذا خرجتُ إلى عملي قبلَ السابعةِ صباحاً . أردتُ أن أتأمّلَ قليلاً، وأرافقُ الطيور على أطرافِ البحيرةِ . الطقسُ يبعثُ على التفاؤلِ هنا . يشبهُ يوماً ربيعياً في الجزيرة السوريةِ . طريقُ البحيرةِ هو طريقي إلى عملي . أبطأتُ في السيرِ أتأملُ الحياةَ . وفجأةً تملكني الغضبُ . تذكرتُ ذلكَ البيتِ الترابي الذي يقعُ على ضفةِ نهرِ الجغجغِ ، ومن هذا البيتِ ظهرتْ أمامي صورةُ أمّهاتِ عازباتٍ أو بمفهومِ الناسِ " زانياتٍ " كانَ بيني وبين بعضِ هؤلاءِ الأمهاتِ حديثُ ودموعٌ يشبهُ ذلكَ المطرُ الناعمُ الذي يتساقطُ من السماء الآن . اختلطَ الأمسُ باليومِ . تشابكتِ القضايا وعانقَ الفرحُ الألم . كنتُ مزيجاً من التصحّرِ والخصوبةِ في أفكاري التي تتناثرُ حولي . الأشياءُ ماثلة أمامي كأنّني أعيشها للتوِّ. نسيتُ نفسي على مقعدٍ خشبي قربَ البحيرةِ التي تبعدُ دقيقتينِ عن مكانِ عملي . ركضتُ كي لا أتأخر. قفزتِ الطيورُ التي كانتْ تستعدُّ ليومٍ جديدٍ . سارت فوقي. ابتسمتُ لها : لا وقتَ لديّ اليومِ للحديثِ معكم . فهموا ما قصدتُ . ابتعدوا. بقيتُ في عالمٍ هناكَ. تصحرَّ فيهِ البشرُ والأرض .
رويدة، وكريستين تنتظرانِ مني أملاً في قضيةِ أطفالٍ أتوا إلى الدنيا . هما ضحايا رجالٍ لا يعرفونَ معنى الأبوّةِ إلا إذا وثقتْ في أوراقَ رسمية. اسمُ رويدة وكريستين. اسمان حقيقيان لطفلتين أنجبتْ كلّ واحدةٍ منهما طفلاً من رجلٍ ما. أحببتُ أن أطلقَ عليهن أمهات عازباتٌ . المصطلحُ غربيٌّ. رأيتهُ أرحمُ من "أمهاتٍ زانياتٍ" والأمهاتُ العازباتُ يطلقُ في الغربِ على الأمهاتِ المعيلاتِ من الأرامل والمطلقاتِ أو من اللواتي ليس لهنّ زوجٌ .
رويدة كان ملف قضيتُها معي عندما قتلتْها أخوها دفاعاً عن الشرفِ . كانَ موتٌ للشرفِ في أسرةٍ محافظةٍ تشتّتْ بموتِها . أسرةٌ مسلمةٌ ، وليسَ في الإسلامِ قتلٌ في حالِ الزنا. كما أنّ الأمرَ ليس زنا بل اعتداءٌ على قاصرٍ. في مذكراتِ رويدة التي استلمتُها من المحكمةِ .كتبتْ كلّ شيء . من بين ما كتبتْ أن الرجلَ غرّرَ بها عندما أتت لزيارة أخته صديقتها في المدرسةِ الثانويةِ. وضعَ لها المخدّر في القهوةِ، وأغلقَ بابَ غرفةٍ أخرى على أخته بالمفتاحِ . لم تعرفْ بما جرى إلا بعدَ أن استيقظتْ. ثمّ عرفتْ بحملها. ذهبتْ إليهِ . توسلتْ لهُ أن يتزوجَها ليومٍ واحدٍ ، وفي كلِّ مرةٍ يعدُها أن يقنعَ زوجتهُ بالموضوعِ كي يستطيعَ أن يتزوجَها إلى الأبدِ. لم ينفّذَ وعده . أعلمت أمّها عندما أصبحتْ في شهرها التاسع . أنجبتْ مولوداً ذكراً أعطته لأحدِ اللاجئين العراقيين المتنفذين في ذلكَ الوقتِ اسمه " بو مدين " سافرَ فيما بعد إلى السويد مع عائلته ومعهما الطفل . وعلى أملِ أن يكونَ لطفلها أب يستعيدُه قبلَ أن يسافرَ من تبنّاهُ . تردّدتْ إلى منزلِ الرجل وفي كلّ مرةٍ يعدها بالزواج فكانَ الطفلُ الثاني في أحشائها. قتلتْ رويدة عندما بلغتِ السابعةَ عشر من عمرها وهي حاملٌ بالطفلِ الثاني .
في آخر كتابةٍ لها تقولُ : إنّني خائفةٌ من القتلِ. ذهبتُ إلى صديقه. طلبتُ منهُ أن يتدخل. لا أعرفُ ما جرى . لم تنطقْ بعد ذلك. ما جرى جعلني أشعرُ أنّني قتلتُ معها. هي طفلةٌ دونَ السادسة عشر من عمرها عندما اعتدى عليها شابٌّ في الخامسةِ والثلاثين . متزوجٌ من أخرى ولهُ طفلٌ. لن أذكر تفاصيل أكثر فالحادثةُ حقيقيةٌ والكلُّ يعرفها هناك .
الأمّ العازبةُ الثانيةُ هي كريستين . كريستين فقط . كانَ هذا قبلَ سنواتٍ قليلةٍ . بعدَ أن خرجتْ من السجنِ بتهمةِ الزنا وكنتُ محامياً مسخراً في قضيتها . ذهبتُ إلى منزلها . كانَ غرفةً ترابيةً صغيرة على طرفِ نهرِ الجغجغ. استقبلتني والدتها بينما كانت تشعلُ سيجارتها. هي أيضاً تدخّنُ سيجارة. رأيتُ نفسي غاضبةٌ من الأمّ لأنّها لا تحمي ابنتها.
- كيفَ يتحملُ قلبكِ المتاجرةِ بطفلةٍ ؟
- هي صداقة معَ الرجالِ .كيفَ سنعيشُ وليس لدينا من يعترفُ علينا في هذه الدنيا؟
ثمّ انفجرتْ في البكاء .
- وعدني أبو كريستين بالزواج . أكّدَ لي أن زوجته ستموت خلالَ أيام . لم تمتْ ولم يعدْ إليّ . أتت كريستين . كانَ عليّ أن أربيها فأنا زانيةٌ في عرفِ الناس .
كريستين أيضاً لها ابنةٌ صغيرةٌ من رجلٍ وعدها بالزواج وأنجبت منه تلك الطفلة الجميلة التي ستعيش بلا تاريخ ولا عقيدة ولا حياة .لو أردتم أن أتحدّثَ عن أطفالٍ من أمهاتٍ بلا زواجٍ لتحدّثتُ فهناكَ صديقٌ لنا لا ينجبُ الأطفال أعطته إحداهن طفلها . كتب اسمه في السجلاتِ المدنيةِ أنّه ابنه لأن القوانين لا تجيزُ التبني . انتهت قصتي الموجزة .
وصلتُ إلى مكتبي متأخرة لبضع دقائق فقط . ضربتُ يدي على الطاولة . تخيلتُ نفس أترافعُ أمام محكمةٍ هناك :
- كلّنا مجرمونَ يا سيدي القاضي . ما ذنبُ هؤلاءِ الأطفالِ ؟ هل القانون يمنعُ من حمايةِ ابنِ رويدة وابنة كريستين . كان واجبكَ أيها القاضي أن تجدَ طريقةً ما تحمي بها الأطفال. أينَ العدل؟ هؤلاءِ الرجالِ مجرمونَ . اعتدوا على قاصراتٍ . هم في بيوتهم ينعمونَ بالدفْ ، وأطفالهم يعانون . إنّني أطلبُ منكَ أمامَ قوسِ القضاءِ أن تنصفَ النساءَ .. . .
عدتُ إلى رشدي . تذكّرتُ أنّه لا مرافعات شفهية في المحاكم ، ولا نقاش حول القضايا في قاعةِ المحكمةِ . نحنُ نقدّمُ مذكراتنا وننتظرْ . نجيبُ على قدرِ السؤالِ .للقاضي الحقُّ في إخراجِنا لو لم نستجبْ بالتوقفِ عن الكلامِ . كما أنّ القاضي لا يقرأُ سوى سطراً أو سطرينِ من ملفِّ القضيةِ . رحلتْ ذاكرتي إلى مذكراتِ رويدة التي استلمتُها وذلكَ الخاتمُ الخلبيُّ الذي أهداها إياه الرجلَ الذي أنجبت منه مرتين . رحلَ المعتدي على رويدة إلى ألمانيا بعدَ أن تصالح معَ أهلها على مبلغٍ بسيطٍ. رافقته زوجته وابنه . زوجته التي عاشت كلّ ملابساتِ القضيةِ . رأيتُ كريستين . الشابةُ الجميلة أو الطفلةُ الممشوقةِ القوام . لم أرَ ملامحَ وجهها فهي لا تنظرُ إلى الناسِ . تبقى مطرقةٌ للأسفل . لا تعرفُ ما بها . الاعتداءُ الجنسيُّ عليها منذُ طفولتها المبكرةِ شوهَ عندها كلّ القيمِ والأشياء الجميلةِ . عائلةُ كريستين المكونةِ من أمّها وابنتها" مسيحية " لكنّها اليومَ بلا دين . وكلامُ السيدِ المسيحِ : من لم يخطئ منكم فليرمها بحجرٍ ذهبَ أدراج الرياحِ . رحلتْ ذاكرتي إلى فيلمٍ وثائقي يتحدّثُ عن ذكرِ الشمبانزي .الذي هو أقربُ إلى الإنسان ، وفي مقطعٍ من الفيلم هجمَ الشمبانزي الأبُ على ابنهِ . ضربهُ على يدِهِ . سرقَ طعامهُ الذي يأكلُهُ .واعتلى الشجرةَ ليأكلَهُ سعيداً .
هل هؤلاءِ الرجالِ مثل ذكر الشمبانزي ؟
صديقتي ترسلُ لي الأخبار من الجزيرة السورية العليا تقولُ :أصبحت مدينتنا رماديةٌ يسكنها الجوع والفقر . ازدادت جرائمُ الشرفِ ليس من أجل الشرف بل للتخلص من الأبناء .
تحدثتُ عن رويدة وكريستين في كتاباتي مراراً في مناسباتٍ مختلفة . ليسَ بنفسِ الطريقةِ التي أتحدّثُ بها اليوم . بل بالتفصيلِ المملِ عن الأسماء والأماكن . أحببتُ أن يعرفَ ابن رويده أنها ضحية ظلمٍ . ربما يضع على قبرها باقةُ وردٍ في يومٍ من الأيامِ .
وبينما كنتُ أطرقُ ورأسي بين يديّ . رأيتُ دمعي ينزلُ كزخاتِ المطرِ . تذكرتُ النساءَ اللواتي كنّ ينتحبنَ أمامي . تذكرتُ دعاوى التفريقِ والطلاقِ التي كانتْ تجعلني في بعضِ الأحيانِ أقفُ مترددةً أمامَ استلامِ قضيةٍ ما لأنّني أعيشُ الألمَ مع صاحبته ، كما أعيشُ خيبة الأمل .كما تذكرتُ الاعتداء على المحارمَ القاصراتِ واللواتي لا يتجرأنَ على البوحِ .
كلُّ ما جرى لي اليومَ بسببِ النشرةِ الجويّةِ التي تحدّثتْ عن العاصفةِ الرمليةِ . فكرتُ للحظةٍ بالتوازنِ بين الطبيعةِ والإنسان . اختلَ ذلكَ التوازن عندما قستِ القلوبُ ، فغضبتِ الطبيعة على الإنسانِ .
نادية خلوف
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |