حبٌّ من نوعٍ آخر
خاص ألف
2011-01-24
لا نعرفُ من أينَ يأتينا الحبُّ . يخترِقُنا على الدوامِ ليزيلَ ذلكَ الرمادَ من قلوبنا . ليسَ الحبُّ دائماً هو عشقٌ وغرامٌ وهيامٌ. أحياناً يكونُ شعوراً بالرحمةِ والتعاطفِ إلى درجةِ الاندماجِ بين اثنينِ ليس بالضرورةِ أن يكونا رجلاً وامرأةً . أتحدّثُ عن تجربةٍ مرّت معي . لم أسجّلها في دفترِ ذكرياتٍ . دفاترُ الذكرياتِ واليومياتِ هي بصماتٌ في وجداني لا تزولُ إن كانَ الأمرُ مؤثّراً . كانَ الأمرُ مثيراً لأنّهُ يمثّلُ حبّاً وارتباطاً من نوعٍ خاص . كذلكَ الحبّ الذي يقومُ بين معاقٍ ومدربهِ مثلاً . بين طبيبٍ ومريضه . وبيني وبين من أتحدّثُ عنهم .
أشعرُ أنّني أشبههم في كثيرٍ من الأشياءِ . . .
قرأتُ عن مرضِ التوحدِ كثيراً لأعرفَ إن كان لدي اليومَ أو فيما مضى طيفٌ منهُ . عرفتُ قبلَ أن أراهم أنّهم لا يجيدون التواصلَ بالنظرِِ . لهم عالمهم الخاص . هذهِ نقطةٌ اعتقدتُ للحظةٍ أنها مشتركةً بيني وبينهم . إلا أن التقيتُ بعليّ . الطفلُ المتوحدُ العراقي الذي كانت عائلته تقيمُ في الشقة المقابلةِ لشقتنا . التقيتُ بآشلي في الحديقةِ مع أمّها وهي هنديةٍ متوحدةٌ أيضاً . ارتبطتُ بهما بحبٍّ أقربُ إلى الفضولِ لمعرفةِ حالهم .
عندما توفي زوجي اختلطتْ علي الأمورُ .
كانَ قد مضى على زواجنا أكثرُ من خمسةٍ وثلاثين عاماً معَ روتينٍ يومي لشربِ القهوةِ ، أو ساعةَ تناولِ الغداءِ . لسببٍ ما اضطرّرنا إلى تغييرِ عاداتنا . غادرنا أماكننا إلى أماكنَ جديدة أخرى . ربما كانَ الوضعُ قاسياً على زوجي أكثرَ مني . قرّرَ الموتَ . طبعاً لم ينتحرِْ. ماتَ بجلطةٍ قلبية . مازلتُ أعاتبُه لماذا هربَ من الحياةِ وتركني للريحِ ! وما زلتُ أعتقدُ أنّهُ فعلَها عن سابقِ إصرارٍ وتصميم .
أنكرتُ ما جرى . لم يكنْ حزناً بقدرِ ما كانَ إعادة نظرٍ في الماضي . لم أتذكرْ من كلِ حياتِنا إلا لحظةَ اللقاءِ ولحظةُ الوداع. اختفتْ الذكرياتُ بلحظةٍ . رأيتُ أنّ العمرَ ما هوَ إلا مزحة ً ثقيلة . لم أتقبلها . كنتُ سأقولُ لهُ الكثيرَ من الأشياءِ في تلكَ الليلةِ التي رحل فيها . لكنّ هاتفهُ كانَ يرنُّ بينما هو لا يجيبُ . بقيتُ أحاولُ حتى الصباحِ . عرفتُ أنّهُ قد رحلَ قبلَ أن يعلمَني أحد . في السابعةِ صباحاً . اتّصلتُ بصديقتي . قلتُ لها : اكسروا بابَ المنزل . إن لم تجدوه اكسروا باب المكتبِ . وجدوهُ ومفاتيحه في يدهِ في مكتبِه الذي كان يمثّلُ لهُ الكثير . أبى مكتبُ المحامي إلا أن يمنعه من الرحيل .
انسحبتُ إلى عالمي الداخلي . كنتُ مستعدةً للموتِ . أتعبتني الحياةُ كثيراً . كانتِ المسؤولياتُ لازالت في أوجها . كيفَ سأواجهُ كلَّ شيءٍ ؟ لم أكنْ قويةً كما اعتقدَ البعضُ . كانَ داخلي مهشماً . بقيتُ وحيدةً في مكاننا الجديد " الإمارات" أذهبُ إلى العملِ وأعودُ فأرى المنزلَ الصغيرَ يضيقُ بي . ألبسُ ثيابي ثانيةً . أذهبُ إلى حديقةٍ صغيرةٍ صادقتُ نخيلَها وعصافيرها .
في الحديقةِ الصغيرةِ تعرفتُ على "آشلي" الطفلةُ المتوحدةِ وأمّها . أصبحتُ أتبادلُ بعضَ الأحاديثِ معَ الأمِّ . الفتاةُ لم تنظرْ إليّ ولم تقتربْ مني . راقبتُها . وجدتُ نوراً مطفأ في عينيها وفي داخلها . تحاولُ الهروبَ من كلّ ما هوَ من صنفِ البشرِ . لكنّها تداعبُ القططَ والكلاب . تبكي عندما أحاولُ الاقترابَ منها بكاءً مراً . لم تكنْ عنيفةً لكنّها هاربةٌ من البشرِ . أما علي فعندما يغضبُ يمكنُه أن يكسّرَ العالم مع أنّه في السادسةِ . هو غاضبٌ من كلّ أمرٍ في هذهِ الدنيا .
سيطرَ على ذهني حبٌ جديدٌ .
بدأتُ أفكرُ بأن يكونَ لي تجربة مع آشلي أو علي . اعتقدتُ أنّ الموضوعَ صعبٌ . مع الزمنِ طلبتُ من أم علي أن أجربّ تدريبه بعضَ الوقتِ في ساعاتِ فراغي . انضمّتْ إلينا آشلي فيما بعد. كانَ عالمي مليئاً بهما . في كلّ يومٍ أقرأ عن التوحد . أراسلُ المراكز . عرفتُ أنّه مرضٌ غيرُ معروفِ الأسبابِ . بعضُهم يقول سببه اللقاح وآخرون كثرةُ المعادن . لم يتوصلُ الطبّ إلى السببِ
أم آشلي كانتْ تعرفُ هذا . تحاولُ أن تدعمَ ابنتها . أما أم علي فكانتْ في حالةِ إنكارٍ كليةٍ للحالةِ .
التجربةُ في البدءِ كانت صعبةً . من أصعبِ الأشياءِ قيادة الطفل المتوحدِ . فعلي عنيفٌ جداً . قيادته تحتاجُ إلى تثبيتِ جسده أمامي لجعله ينظرُ في عيني وهذا يحتاجُ لقوةٍ بدنيةٍ . كنتُ عندما أمسكُ يديهِ أشعرُ أنّني أمامَ ماردٍ. في كثيرٍ من الأحيانِ كانَ يفلتُ ويدورُ حولَ نفسِهِ وعلى رؤوسِ أصابعِ قدميه . ثم يجلسُ في النافذةِ ويختبئ خلفَ الستارةِ ينظرُ بعينٍ واحدةٍ إلي عندما أكونُ لا أنظرُ إليهِ . أما آشلي فلا حياةَ لمن تنادي . المهمّ أن تضعُ رأسها بينَ ذراعيها وتختبئُ . رأيتُ أنّني أحاولُ القيامَ بمهمةٍ مستحيلةٍ . كدتُ أفشل وأعتذرُ عن المهمة التي تبرعتُ بها والتي علّقَ عليّ الأهلُ من خلالها بعضَ الأملِ .
أكملتُ المهمةَ لأنّني أرغبُ في معرفةِ جوابٍ على سؤالٍ أسألهُ لنفسي . لماذا ينسحبُ البشرُ إلى داخلهم ؟ ولماذا خلقَ المتوحدونَ هكذا قبلَ أن يعرفوا قسوةَ الحياةِ؟
بعدَ أكثرِ من ستةِ أشهرٍ على المحاولةِ تطوّرَ الأمرُ قليلاً , أصبحتُ أعلّمهما جملاً بسيطة . مثلْ " أحبوني " كي يقولوها على مسامعِ أهلِهم . حتى وصلتُ إلى جملةِ" أخرجوني من عالمي "
تعلّقَ الطفلانِ بي كثيراً . العائلةُ العراقيةُ تركتْ المنزل . هاجروا إلى كندا . وقبلَ أن يرحلوا جلبت لي الأم زجاجةَ عطرٍ" من مركزِ الدرهمين " هديةً . لم أعرفْ أخبارهم فيما بعدْ . أما الأمّ الهنديةُ فما زالت علاقتنا قائمة . تطورتْ آشلي أكثر من علي قليلاً بسببِ اهتمامِ والدتها . اهتمتْ والدتها بكلّ النصائح حولَ الطعامِ والعاداتِ . هي أيضاً جلبتْ لي هديةً ذهبيةً ثمينة . لم أقبلْها في البدءِ . قلتُ لها لا أعملُ بمقابلٍ . أكّدتْ لي : أنّه ليس مقابلاً بل امتناناً . انتقلت عائلة آشلي إلى دبي . مازالت والدتها ترسلُ لي رسائلَ كما أنّنا نلتقي أحياناً .
كم أحببتُ هذينِ الطفلينِ !وكم عطفتُ عليهما . هما أيضاً أحبّاني . ففي مرةٍ كنتُ أمشي إلى البحيرةِ فإذ بسيارةِ أم علي تقفُ . نزلَ علي .كانَ قد قالَ لأمّه : انظري : الأستاذة تبكي . أمسكَ بيدي . قبّلته . ومضيتُ . لم أكنْ أبكي طبعاً . فقطْ كنتُ أمسحُ وجهي من العرقِ تخيلَ أنّني أبكي .
إنّها حكايةٌ حقيقيةٌ غيّرت مجرى حياتي . فذلكَ النورُ المطفأ في عيونِ المتوحّدِ لا يشبهُ هروبنا . في عيوننا هناكَ بريقٌ للأملِ أما هم فقد رحلَ منهم هذا البريق . لن يعودَ أبداً . لكن مع عنايةِ الأهلِ الجادةِ والتزامهم بالمحبةِ قد يستطيعُ المتوحدُ العيشَ بأقلّ قدرٍ من الألمِ .
لن أتمكنَ من إعادةِ هذهِ التجربة . كانتْ تجربةَ حبّ غيرُ مشروطٍ بيني وبينهما . قد أكونُ أثّرتُ فيهما بشكلٍ إيجابي . آشلي الآن أكبر بخمس سنواتٍ . مازالتْ تعرفني . أستطيعُ أن أحدّثها ببعض الأشياء . تقفز عندما تراني بشكلٍ يثيرُ الشفقةِ . هم أيضاً أثّروا بي بشكلٍ كبيرٍ بحبّهم الذي كنتُ ألمسُه . استطاعوا سحبي من عالمي الداخلي إلى الانشغالِ بهم وذلك ساعدني على تجاوزِ موضوعِ الموتِ قليلاً
الفرقُ بيننا وبينهم
انسحبوا إلى عالمهم . انطفأ نور الحياةِ في عيونِهم . لا يهمهم ما يجري ولا يريدون أن يروه . نحنُ أيضاً ننسحب ونهزمُ . لكنّ نورَ الحياةِ يبقى في عيوننا والشعلة الأبدية تملأ أجسادنا . عندما تكونُ الظروفَ ملائمةٌ لنا نتواصلُ ونتألّقُ . لا نحتجُّ على العالم إلا إذا رفضنا . أما هم فخلقوا ومعهم عالمهم الداخلي . يمكنُ للأهلِ إن بذلوا جهوداً أن يطوّروهم .
علينا الامتنانِ للحياةِ دائماً وفي كلّ يومٍ جديدٍ نعيشهُ . كانَ هذا هو شعوري في كلّ يومٍ ألتقي بهما . لا نعرفُ قيمةَ الحياةِ إن لم نرَ من يتألمُ أكثر منّا . هي قصةٌ قد لا تتكرّرُ معي ، لكنّها منحتني القوةَ للاستمرارِ في الحياةِ والامتنانِ لها في فترةٍ عصيبةٍ من حياتي .
مازلتُ أشعرُ أنّني أشبههم في كثيرٍ من الأشياءِ !
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |