مشاعرُ ما قبلَ السفرِ
خاص ألف
2011-01-31
حقيبةُ السفر تلوحُ لي دائماً . أخافُ الرحيلَ ، الانتظارَ أمامَ المطاراتِ من أجلِ دمغِ جوازِ سفري . من كلّ هذه الأشياء التي تتعلّقُ بالرحلةِ والسفرِ . القدر يجلسُ في حقيبةِ سفرٍ على أهبةِ الاستعدادِ لبعثرةِ ما أبنيهِ من استقرارٍ . يقولُ: أمضيتِ هنا أعواماً كثيرة . غادري الآن . ليكنْ عمرُكِ كلهُ رحيلاً . أرغمُ نفسي على الفرحِ . كي أتجاهلُ ما بداخلي من العصف والحزنِ والحنين . أخافُ السفرَ والرحيل . ليس عيباً أن أخافَهما .
هناكَ في موطني سأغني الذكرياتِ . أحضنُ الماضي الذي هربَ مني . أعانقُ دمشقَ . هي شبابي . عنفواني . تمرّدي وخياراتي الكبيرةَ . فيها حلمتُ أن أغيّرَ العالم و . . .
لو تعرفين يا شامُ كم كانتْ خيبتي بالحياةِ كبيرة ؟ لكنّكِ مازلتِ شامي . عمري فيكِ كانَ بهياً ، عشقي كان طاهراً مثل ثلوجكِ .
وقلبي مازالَ يخفقُ بكِ .
في رحلتي إليكِ أحجُّ إلى بيتٍ عتيقٍ مازالَ فيهِ بقايا من كتبِ أبي "نهج البلاغة وإخوان الصفا وأشعارِ ابن الفارضِ وأبو العلاء " . مغزل جدتي . قِدرُ أمي مازالَ فوقَ موقدها هناكَ في قريةٍ منسيةٍ . خيمُ البدوِ تجاورُنا . طالما حلمتُ بالبداوةِ . ما زلتُ طفلةً أمام خيمةٍ بدويةٍ .
في قريتي التي تقعُ إلى الشرقِ . تعانقُ الباديةَ . رأيتُ الكواكبَ والنجوم تبتسمُ لي عندما كانت جدتي تعلمني الاتجاهات الأربعَ في مساءِ صيفٍ . سمتْ لي النجومَ . من يومها عرفتُ نجمَ القطبِ ونجم سهيل وبناتِ النعش . كنّا نتمدّدُ معاً على طرفِ البيدرِ وننظرُ إلى السماءِ . تتحدّثُ لي إلى أن أغفو تغطيني بملاءةً أستيقظُ في الصباحِ . أراها قربي نائمةٌ بينما قطراتُ الندى تغطي وجهها . أنظرُ إلى السماءِ ولا أرى النجوم . وأنتظرُ ليلةً أخرى لتعيدَ ما قالتهُ . لم أحفظه كلّهُ .
- ماذا قلتِ عن ذلكَ الضوء الباهتْ ؟
- ذلكَ الضوء الذي ترينهُ هو لمدينةِ حمص .
- ماذا تعني حمص ؟
تشرحُ لي قصّتها مع المدينةِ في يومياتٍ قريبةٍ من الحرب العالمية الأولى .أو كما تقولُ هي "سفر برلك " :
- قدتُ عربةً يجرُّها حصانانِ يوم كنتُ أرملةً أرغبُ في جمع المالِ لصغيري الذي هو والدُكِ . تعاركتُ مع الدركِ . كنتُ أحملُ في عربتي أكياسَ القمحِ أهرّبُها إلى حمصٍ . اقتنيتُ كرباجاً لأضربهم كما يضربوني . كنتُ أفوزُ عليهم . أبيعُ القمحَ وأعودُ بثمنه وأنا مسرورةً بالنجاحِ .تعلّمتُ يومَها طريقَ حمصِ السلميةِ لكثرةِ ما ذهبتُ وأتيتُ :
"كنت بزماني غني عالهوى . . كنت مشّي الديب والنعجة سوا "
أيا كرباجَ جدتي ! أين أجدُك لتمنحَني الضياءَ الذي كانتْ تتألّقُ به تلك السيدةُ التي حافظتْ على قوّتها وابتسامتها . عاشتْ مئةَ عامٍ ولم يتسربْ إلى نفسِها الاكتئابُ . بقيتْ منتصبةَ القامةِ إلى آخر حياتِها تجيدُ الطرفةَ كما تجيدُ فنّ الاستماعِ .
كنتِ جميلةً يا جدتي من الداخلِ والخارجِ .
عندما أصلُ إلى دمشقَ
سأذهبُ في كليةِ الحقوقِ . أراقبُ أبوابَ الكليةِ وقاعاتِ الامتحاناتِ أتذكّرُ اللحظاتِ الدافئة التي كانَ يستقبلني بها حبيبي وفي كلّ مرةٍ يقولُ لي :
"سأشربُ كأسَكِ حتى الثمالة . . فحبُكِ قاتلي لا محالة "
أيا شام ! من سترسلينَ في استقبالي ليحضنُني ؟ اشتقتُ للحبّ والاحتضانِ . لا يمكنُ أن أبقى غريبةً على الدوامِ . سواء بقيتُ فيكِ أم رحلتُ عنكِ ، فلا حبيبَ لي ولا أهلَ ولا أصدقاء . الصداقةُ تحتاجُ للعنايةِ . كنتُ مشغولةً كثيراً بأعباء حياتي . ليعذرني من هو عاتبٌ عليّ من الأهلِ والأصدقاءِ . مازلتُ أحتفظُ بالذكرى . هم ذكرياتي .
أرغبُ في البكاءِ على عمرٍ لم أستطعْ أن ألملمه في بقعةٍ ما من المعمورةِ . الحقيبةُ جاهزةٌ على الدوامِ للمغادرةِ . مغادرة كل الأمكنةِ في لحظةٍ واحدةِ . وربما مغادرة العالمِ في لحظةِ خوفٍ من الرحيلِ .
أرغبُ في المجيء إليكِ يا دمشق شرطَ أن أرى أمي . حبيبي . أصدقائي ودمشق التي عرفتها . أذهبُ إلى النادي السينمائي أتناقش مع المخرجين ، إلى الكنيسةِ في باب توما حيثُ كنتُ أرافقُ صديقاتي من مرمريتا وحب نمرة إلى هناك ، وإلى حفلةً نقيمها بمناسبةِ عيدِ المرأةِ أو الطفلِ أقولُ فيها أشعاري . أتحدّثُ عن التحرّرِ والحريةِ ، فأجلبُ عنها أمثلةً لا تمتُّ إلى الحقيقةِ بصلةٍ أغلبُها من بناتِ أفكاري . اكتشفُ بعدَها أنّني لم أكنْ حرةً . كانتْ أوهامي تقولُ لي ذلك وأسعدُ بها . ينتهي يومي بغمضةِ عينٍ لأنّ النضالَ يحتاجُ إلى ركضٍ وكلامٍ بالشعرِ والنثرِ .
أسألكِ يا شامُ :
هل كنتُ مغفلةً يومَ رفعتُ أعلاماَ لكِ؟ ناديتُ بالعدالةِ والتحرّر دون أن أفهم معاني أغلب ما أقولُه . كنتُ في السادسة عشر من عمري . شعرتُ أنّ العالمَ كلّهُ يصغي لما أقولُ . وبعدها أصبتُ بخيباتِ أملٍ جعلتني أنظرُ لكلّ من يناضلونَ بنفسِ المنظارِِ . أشعرُ اليومَ أنّ العالمَ يرفضُني .
لا أعرفُ إن كنتُ تغيّرتُ ، أم أنتِ التي تغيّرتِ ! كنتِ ترسلينَ لي رسائلَ الحبّ في كلِّ مرةٍ معطرةً بأشواقكِ . لم يكن هناكَ انترنت . الرسائلُ كانتْ تصلني من ساعي البريدِ . الآن توقفتِ الرسائلِ . لم أعد أشمُّ عطرَ الورودِ التي كانَ يضعُها حبيبي في رسائلِه . ولا تصلُني الرسائلِ الالكترونيةِ . يبدو أنّني واهمةٌ، فلا ثورةَ اتصالاتٍ ، ولا العالمَ قريةٌ . قد يكونُ العالمُ صحراء دونَ بشرٍ ، وما يدعى ثورةٌ معلوماتيةٌ هي ثورةٌ خارج عالمينا طالما لا تصلُني رسائلُ محبةٍ وصداقةٍ منكِ .
امتزجتُ مع ياسمينَ دمشق . وذهبتُ إلى ديار بني ربيعة حيث كانَ لي إقامةٌ طويلة . ومن بلادِ مابينَ النهرينِ لونتُ ثقافتي وحكاياتي . شعرتُ أنّني سريانيةٌ وكرديةٌ وبدوية تنتمي إلى قبائل شمّر وطي كما تنتمي إلى الإيزيديةِ الذين كانوا شركاءنا وأصدقاءنا . تناولتُ طعامَ الغداءِ على ولائمَ آل دعيج طوزو في مراتٍ كثيرةٍ . كنتُ أعدُّ السّلَطةَ كأنّي فرداً منهم . يتحدّثونَ عن داءِ النقرسِ الذي أصابَهم من كثرةِ تناولِ اللحومِ . يشربونَ أنخابَ صداقتنا . وربما قرابتنا فهم " كريفين " ابني وهذا يعني في أعرافِهم قرابةٌ أبديةٌ .
كلُّ هذهِ الذكرياتِ تهجمُ عليّ دفعةً واحدةً فلا أستطيعُ أن أغفوَ . أرغبُ في إعادةِ عجلةِ الحياةِ إلى الوراءِ لأعيشَ تلكَ اللحظاتِ ثانيةً . هيهات !
سأتصالحُ معَ الموضوعِ . سأضحكُ على نفسي وأقنعها بأنّ الشامَ ما زالتْ شامي . ستحتضنُني بشكلٍ آخر . وتعطيني دفئاً جديداً أحتاجُهُ . سأعيشُ مغامراتي فيها بطريقةٍ جديدةٍ وأسلوبٍ جديدٍ .لم أعدْ بنتَ السادسة عشرَ الممتلئة بالحماسِ . قد أكونُ كبرتُ قليلاً. عدّةُ أعوامٍ فقط ! !
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |