في دارة أم العبد 4
خاص ألف
2011-05-23
ثقافة
العصرُ الحاليُّ هو عصرُ العلمِ والثقافة . عندما تشبعُ معدةُ المرءِ يلتفتُ إلى القيم التي تخلّده ، كالنبل مثلاً . بعضُ الناسِ يتجاوزُ طموحُهم النبل . يرغبون في إثباتِ أنفسهم في مجالاتٍ إبداعيةٍ تنقصُهم . أمّ العبد لديها وثيقة إتمام المرحلة الابتدائيةِ ، وكذلك زوجها . زوجها لم يعدْ يرغبُ بالوظيفةِ . وهل تريدونه أن يعملَ طوالَ حياته سائقاً ؟ المرأةَ أيضاً لم يعدْ يناسبُها أن تكون زوجةَ سائق .
في أحدِ الأيامِ جلبتْ لنا صحناً كبيراً مملوءاً بالكوارع ، والكرشة المطبوخة . لم أعرفْ ماذا سأفعلُ بالطعام . أخجلُ أن أعيدَه. لابدّ أن آخذَه وأعيدَ الصحن مملوءاً . ليس عندي ما يملؤه . عائلتي صغيرة . أشتري حلويات مثلاً أملؤه بها ، أو أضعُ فيه نقوداً . في هذهِ المرةِ حلفتْ أم العبد يميناً أن لا أعيده إلا فارغاً ،يميناً تكرّره في اليومِ ألف مرةٍ ولا تعملُ بهِ ولا مرة . طبعاً قلبتُ الطعام فوراًُ في القمامة . حاولتُ أن أبقيه لأعطيه لأحدهم ، لكنّ زوجي رفضَ : قد يكون مسموماً فتقتليه !
في اليوم التالي أتت مع زوجها إلينا في سهرةٍ دون سابقِ إنذار . طلبا بعضَ الدقائقِ منّا . كانتْ زيارةُ عمل . تحدّثَ أبو العبد مالئاً وجوهنا بتفاتيفه .
- قالَ : أنّ الجميعَ يجلبُ شهاداتٍ جامعيةٍ من روسيا .
عدّدَ بعضَ الأسماء التي حصلتْ على دكتوراه من هناك .
- هم لا يحملون حتى ثانوية . هؤلاء ليسوا أحسنَ مني . سوفَ أترشحُ لرئاسةِ البلديةِ لو استطعتُ جلبَ هذه الشهادة .
- ومن سيجلبُها لكَ ؟ قالَ زوجي.
هناك شخصٌ في الحزب الشيوعي السوري مقيمٌ في موسكو هو من يساعدُ الناس في تحقيق أحلامهم . لن ننساكم إن تمّ الموضوعُ على خير . وقفتُ في مكاني دونَ حراكٍ . اهتزتْ صينيةُ القهوةِ وانقلبَ جزءٌ من القهوةِ الساخنة على ثيابي . لم أصدّقْ أذنيّ في البدءِ . لكنّني أعرفُ الكثيرَ ممن اشتروا شهاداتهم من هناك . فوجئت فقط باسمِ السمسار الذي يقيمُ في موسكو، ولهُ مرتبةً عاليةً في قيادةِ الحزب !
سألَه زوجي ثانيةً : تريد شهادة جامعية !
- ولمَ لا ؟ إنّني أستحّقها . بسببِ الفقر لم أتمكنْ من أخذها .
- منذ اليوم سأعلنُ الحربَ على الشيوعية . هيا اخرجْ من بيتي . أنتَ وزوجتك . صحيح اللي استحوا ماتوا .
دوماً نحنُ الخاسرون . عندما ذهبَ أبو العبد إلى موسكو . وأتى بالشهادةِ وزعوا الحلوى على الجيرانِ . لم يكنْ لنا في الطيب نصيب !
جرت انتخاباتُ البلديةِ أيضاً . لم تقبلْ شهادة أبو العبد لأنّه ليس لديه شهادة ثانوية ،حصلَ على واحدة من روسيا فيما بعد ، وتمّ تعديلها بطريقةٍ ما . لم يعدْ يرغبُ في البلدية . يرغبُ الآن في أن يكونَ في منصبٍ سياسيّ هام .
أم العبد تؤمنُ بالمساواةِ : تقولُ لي على الدوامِ : أنّها أذكى من زوجها . عليها أن تحصلَ على شهادةٍ أيضاً . الشهادةُ الإعداديةُ كافية . هي ليست طمّاعة . بدأتْ تغرّبُ وتشرّقُ إلى أن أعلنت أنّها ستذهبُ إلى دمشق لتزور أختها وتقدّم امتحان الإعداديةِ . أخذت معها إحدى الشابات اللواتي حصلن حديثاً على الثانوية ، دفعت لها عشرة آلاف ليرة وألبستها لباسها . قدّمت الامتحان ونجحتْ بمعدلٍ جيد تمكنتْ بعدها من الحصول على وظيفة في مكتب الحبوب .
أم العبد تؤمنُ بمبدأ الجار إلى سابع دار ، ومع أنّني ألقي عليها التحيةَ بمزاجي . أحياناً أقرّرُ أن لا ألقي التحية عليها لمدة أسبوع ، دون أن أبدو متعمدة ، لكن هيهاتَ أن تكونَ مثلي ! تقولُ السلامُ لله . هي متسامحة لطيفةٌ وبخاصة عندما أقاطعُها .
أتتْ إليّ البارحة : إنْ كان يلزمُكم مساعدة في مكتب الحبوب .
- مثل ماذا ؟
- تسلِّمون قمحكم دون دور . ونعطيه درجة أفضل .
لكنّ دائرتنا ليست هنا .
- قولوا لنا أين هي . سنقومُ بالواجب .
لم أهتمّ لكلامها ، لأنّ شركاءنا في الأرض اشتروا أشخاصاً يفوقون أم العبد درجةً في مكتبِ الحبوبِ ، وهم يسيّرون الأمورَ ، ولسنا نحنُ .
أتى زوجها في اليوم التالي .قالَ لزوجي :
- بإمكانكَ أن تسلّم القمحَ إلى أبو محمد في مركزكم . ضع يا أستاذ في بعضِ الأكياس حصى إن شئت !
- كلامك على راسي . لكن لا يوجدُ في الجزيرة حصى على حدِّ علمك . إنّ الأراضي التي نزرعُها طينية سوداء ليس فيها حصى . لذا تكرّم واذهب في الحالِ قبل أن أستدعي الشرطة ! !
- أنتَ متكبِّرٌ . أردنا أن نخدمَكَ . عليكَ أن تعرفَ أنّ المستقبلَ لنا . سيأتي يومٌ تأتي إليَّ لأنّكَ ستحتاجُني . إنّكَ لا تمّثلُ الفقراءَ . والدكَ كانَ غنيّاً . عليهم أن يسقطوا عضويتك في الحزبِ . لأنّكَ لا تمثلُ العمالَ والفلاحين !
- قالَ له زوجي وهو يفتحُ الباب : أنتَ على صواب . فقط عليك أن تغادر . أغلقَ البابَ بلطفٍ ، وهو يقولُ لهُ مع السلامة . ثمّ ضحكَ وقالَ لي :
أيّتها الخائنة للقضيةِ . امسكي بيدي . اشتقتُ أن تحدثيني ونحنُ نتمشى في الشارعِ أمام بيتنا . ابقِ كما أنتِ . أشعرُ بمزاجٍ جيد بعد أن طردتُ أبو العبد . في الغد سأطرّدُ أم العبد . أتدرين لماذا ؟ لأنّهما سيكونانِ السببَ في الكارثةِ الأخلاقية التي تعمُّ الوطن العربي . كما أنّ دورهم سيساعدُ على انهيارِ القيمِ في العالمِ كلّه . ألا ترين أنّي على حقٍّ ؟
- نعم . أرى أنّك مجنونٌ بامتيازٍ ، وأنا معجبةٌ بذلكَ الجنون ! !
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |