حكاياتٌ سادَتْ ، ثمّ بادتْ .
خاص ألف
2011-11-28
"لبن، وماست ، وقاطيرو "
من القامشلي
في الحيّ الغربي فقط كان يحدثُ هذا . العمّ منير له نجومية في مجال التسويق. لم يدرسْ هذا الفنّ في الأكاديميات. بل في جامعة البحث عن لقمةِ العيش . منيرو- كما يسمّيه الناس- بائعٌ على عربةٍ بثلاثة دواليب . يحملُ على سطحها كلّ ما يحتاجه الحيّ من خضارٍ ، وأشياء أساسية للغذاء .
لبن وماست وقاطيرو . نغمةٌ يطلّ بها منيرو إلى الحيّ من بعيد .
هي ثلاث كلماتٍ . عربية . كردية . سريانية على الترتيب . لاسمٍ واحد هو "اللبن" رتّبها بلهجة غنائية تصلُ إلى الحيّ قبلَ وصوله . تعرفُ من خلالها النساءُ أنّ عليهنّ انتظار منيرو في الشارع . يخرجنّ من منازلهن . يجلسن أحياناً على درجات بيتنا الثلاث . أو نقفُ معاً . ندردشُ حولَ الطعام ، ومذاقه ، وقد نتبادلُ الأطباقَ فيما بعد ، ولو أنّني كنتُ أخشى من هذا الأمر ، فلم أستطع صنع طعام بجودة طعامهنّ. أو بالأحرى بنفس المظهر . ورقُ العنب لديهن يشبه في حجمه السجائر الملفوفة . وقطعة الكبّة. أقل من لقمة صغيرة .والبهارات موضوعة بشكلٍ مدروس ومن أنواع بعينها أو من تحضيرٍ منزلي .
يصلُ منيرو إلى قرب بيتنا الذي يقع على زاوية غربية شمالية. يتجه بابه الرئيسي جهة تركيا . عندما يصلُ يتبادلُ الأدوار مع النساء يجلس هو على حافة الدرج . يدندنُ بأغنية كردية ،بينما النساء تفتّش عن حاجاتها ضمن بضاعته التي يأتي بها على عربته الثقيلة ، ويبدأ الهرج والمرج .
- جارتنا فريدة تتحدّث معه بتهذيبٍ : عمو منير . لماذا لم تجلب خياراً صغيراً اليوم ؟ جورج يحبه قربَ كأس العرق ! جورج هو زوجها
- معك حق أختي . يجب أن يكون لكأس العرق طقوس . ثم يلتفت إليّ :
" من أين جَتْ بهاي بعمو ؟ ! "
منيرو أصغر منّا جميعاً ، لكنّ لباسَه، وشقاءه يظهرانه أكبر
سألتني فريدة مرة :
- على ماذا تتغامزين مع منيرو ؟
- هو مستغربٌ من الأدّب الجمّ لديك ، وبخاصة عندما تقولين له : عمّو . ليس ضرورياً أن تكوني مهذّبة أكثر مما يجب . قولي له منير وكفى دون عمو .
على فكرة . منير مازال في الخامسة والأربعين
- هل يعني أنّه أصغر مني ؟
- تماماً
- هه . هه . كنتُ أعتقد أنه بعمرِ أبي !
بقيت على موقفها تقدم له احترامها وتقول: عمو منير، فيهزّ رأسه ويقولُ بالكردي : " مالَه مِنه "
في بدء معركة الشراء . يكون الرجالُ خلف الأبواب يفكّرون بأنّ هذا الاجتماع حول عربة منيرو هو اجتماع مدهش ، وعندما يزدادُ الضحكُ والكلام . يأتون واحداً تلو الآخر ، وكلّ منهم في كامل أناقته . يمدّ يده إلى الخضار والفواكه ، وينتقي بعضها على مبدأ : أنّ زوجته فاتها شراء هذا المكوّن ، وفي أغلب الأحيان يخرج الجميع بنصف كيلو من "فليفلة عامودة "
ينصرفُ منيرو من زاويتنا إلى الزاوية التي تبعد عدة أمتار . النساء ينتظرن هناك بفارغ الصبر
في الماضي كانت الأشياءُ أحياناً جميلة .
عندما تهبّ علينا الذكريات . ننسى آلامنا . نرى أنّ أمكنتنا هي فرحٌ
ليس كلّ الأوطان جميلة . . بعضها تشيح بوجهك عنه . .
عندما ينتابني الخوفُ أتذكّرُ وطني الذي حملتُ خارطته كمكانٍ لتدمير الإنسان منذ الولادة .
أسطورة زيف كبيرة قدمت لنا . في صورةٍ حبّ للأشخاص وعبادة للأصنام .
في وطني تلدُ النساءُ رعباً ، ويتمسكُ الرجل بخيانته . كي يثبتَ أنه من أبناء الوطن .
عندما أرى ابتسامات الأطفال في بلاد الغربة . أتحسّرُ لماذا لم يكونوا أطفالي .
كنتُ أعوّدهم على الصبر على المستحيل من الأمل . كي يزرعوا في نفوسهم القدرة على الاستمرار . .
الذكرياتُ لا تنتهي . بين مرارتها . نرى حبّاً للحياة . نتذوّق طعم الأحلام .
في شارعنا كبرَ الأطفالُِ على رصيفٍ اسمه الأمان . إلى أن رحلَ السكان .
كم بكيتُ هجرتهم ! أصبحتُ الآن مثلهم . لم تعدْ العرباتُ تقفُ أمام الدار . لم يعد الأطفالُ يمرحون في ليالي الصيف
تغيّرتِ الأسماءُ والألوان .
فريدة ، في ألمانيا اليوم . صورها أشبه بصور الممثلات . وزوجها بشاربيه المرتفعين إلى قرب عينيه. تعتقدُ أنّه فنّان ، وابنها الهاربُ من المدرسة أصبح مطرباً .
وما زالت درجات بيتنا الثلاث . تشهدُ على كلّ الحكايات .
حكايةُ حيّ هاجرَ بمن فيه . توزّع على أنحاء الدنيا . بقي من سكّانه المسنّون فقط . عيونهم تنتظرُ الأخبار . وسكنتْ في الحيّ عائلاتٌ جديدة . بعيدة عن تقاليدٍ كنّا نمارسها لمدة طويلة . كنّا نبتسمُ للصباح معَ منيرو لمدةِ نصف ساعةٍ ربما . ويختفي الجميع حتى المساء .
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |