حكايات سادت، ثمّ بادت "4"
خاص ألف
2011-12-19
"نان ، ودو"
عندما كنتُ عضواً في الحزب الشيوعي . .
دعتني إحدى الرفيقات إلى قريتها. كي أتعرّفَ على الأوضاع التي يعيشُها الأطفالُ لأكتبَ عنهم في صحيفة "صوت المرأة" الخاصة برابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة التابعة للحزب.
ذهبنا بالقطار أخذتُ ابنتي الصغيرةَ معي. المناظرُ الطبيعية أخاذة ، والآثار في كل شبرٍ تتحدّث عن حضارة كانت هنا ، حتى آثار المواقد والنقود . كأنّ السكّان لم يغادروا إلا منذُ لحظات . تناولنا طعام الغداء عند سيدة المنزل . تحدّثت عن بقرتِها التي هي أغلى شيء عندها .
- لولاها لما استطعنا أن نأكل . كلُّ يوم أبيعُ لبنها ، وما تبقى منه أخضّه بالمشكاة .أستخرجُ الزبدة .إنّها موردُ رزقنا الوحيد . أخبزُ كلّ يوم في الصباح. أعطي الأولاد الخبز الساخن . يأكلون الخبز والشاي ، وآكلُ أنا " نان ، ودو " - النان هو الخبز ، والدو هو اللبن المخضوض-
كتبتُ مقالاً واقعياً عن معاناة المرأة في الريف الكردي ، وعن معاناة الأطفال ، وفي موعد الاجتماع ذهبتُ إلى دمشق محمّلة بكتاباتي . لكنّ أحداً لم يحضر الاجتماع !
لازالَ طعمُ الخبز المصنوع بعناية في فمي . خبزُ التنور الذي تصنعه النساء الكرديات سميكاً . ما زلن يصنعنه في الريف حتى اليوم . أكلتُ الخبزَ مع الشاي الممزوج بالسكر . رأيتُ الأطفال يغطّون قطعة الخبزِ بكأس الشاي ، ويأكلون . فعلتُ مثلهم : لذيذ .
منذُ تلك الأيّام . لم أعدْ أتذوّقُ الطعام بنفسِ الطريقة . أصبحَ طعامُ هذه الأيام يشبه محلّلي سورية . شكلٌ فقط . بلا طعم ، ولا لون .
"شيخ فاطمة "
قرية تقع على طريق الحسكة . هذا هو اسمها المكتوب على اليافطة . نملكُ أرضاً زراعية في القرية . جرتِ العادةُ عندَ المزارعين أن يذهبوا في شهر آذار لتفقّد حال الزرع . في يوم من أيام آذار قبل أقل من عشرين عاماً بقليل . ذهبنا في الصباح إلى القرية . التي تتألّف من قريتين . إحداهما معمّرة ، والأخرى مهجورة إلا من عائلة واحدة فقط تملكُ أرضاً في المكان المهجور ، وتسكنُ بجوار أرضنا .
وصلنا إلى المكان قبيل الظهر . وجدنا العائلة مجتمعة ، وإحدى النساء تبكي .
- ما الخبر ؟
لم تكنِ المرأة تجيدُ العربية .
- سجن الحسكة "شوّطي " . احترق
شرحتْ لنا صاحبة المنزل : أنّ أختها ذهبتْ في اليوم السابق لزيارة ابنها المسجون في سجن الحسكة ، ولم ُيسمحْ لها بالزيارة ، واليوم احترق السجن .
قالت أيضاً : يقالُ أنّهم دهنوا السجن بطلاءٍ يشتعل من تلقاء نفسه . ولا نعرفُ مدى صحة ذلك ، فالشائعات كانت كثيرة .
عدنا إلى منزلنا على الفور ، ولم نكدْ نصلُ حتى أتت صديقتي ، وكان زوجها يعمل في الأمن السياسي.
- سجناء قاموا بتشطيب أنفسهم بالشفرات ، ثم أحرقوا السجن . ولم تتمكن إدارة السجن من إطفاء الحريق حتى هذه اللحظة .
استغربتُ الحديث . هل يمكنُ أن يحرق السجناء أنفسهم ؟
انتشرت الرواية التي شرحها بدقة شديدة كلّ من له علاقة بالأجهزة الأمنية في ذلك الحين ، مثلما شرحتها صديقتي تماماً ، وكتبتْ عنها الصحف الرسمية ، وصحف الجبهة ومن بينها نضال الشعب . طبعاً لن نتطرق للأسبابِ التي حرقَ بسببها السجن . تأكدّنا أنّ الحادث مفتعل لا علاقة للسجناء به ، وعلى خلفية الأحداث تمّ إعدام بعض السجناء أيضاً . وكان عددُ الضحايا أكثر من ستين شخصاً من الأكراد. معظمهم من مدينة الدرباسية
عرف الأكراد الضابط المسؤول عن هذه المجزرة ، والذي قدمَ من العاصمة خصيصاً لتنفيذها .
عندما قدمت في الصيف إلى دمشق . تحدّثت بالأمر لأحد الأقارب وكانَ معارضاً قومياً . قال لي: إنّها فبركة كردية ، وما تقوله الدولة صحيحاً . أصبتُ بخيبة أمل لأنّ الشعب السوري لا يعرفُ ما يجري في الشمال .
بين تلك السهول الواسعة الخضراء على مدّ النظر ، وفي تلك المناطق حيث كان بدء الخليقة . تتوزعُ القرى الكردية ، والسريانية ، والعربية . أغلبُ سكّانها يعيشون الحياة ببساطة . هم كالطبيعة . لا يتحدثون بالقوميات والأديان . بل بالزرع والحليب .وفي مواسم الحصاد . ينسى الجميع أنّهم مختلفون . عندما يغادرون قراهم إلى المدن . من أجل لقمة العيش . يبدؤون بتعلّم التعصّب القومي والديني . حيث أنّ هناك من له مصلحةٌ في ذلك على مبدأ : " فرّق تسد "
تركتُ قلبي هناك في قرية تملؤها السنابل في الربيع
أصبحتِ الفصولُ تتوالى على المكان . بأسماءٍ أربعةٍ ولون واحدٍ . لون الخريف .
رحلتِ الغيومُ . جفّت الآبارُ . حزنتِ المواسمُ . ليس فيها سوى ذكرى الصقيع .
زرعتُ حبي فوق تلٍّ . تقابله جبال طوروس، والطريق الموصل لماردين .
في مدينة ترابُها ناعمٌ . لونه ضاربُ إلى السواد . في الأيام الماطرة يصبح كالصابون . عندما كان يتزحلق حذائي به . أسمي المدينة " بلدة الطين "
في عامودة . يسكنُ الرجالُ في المقاهي ليلاً ، وعندما يستيقظون . يتمشى الكتّاب والرسامون في شارعها الرئيسي الوحيد . أغلبيتهم عاطلون عن العمل سوى الحديث في السياسة .
يمشون في وسط الشارع ، وليس على الرصيف . تبتعدُ السياراتُ عنهم ، أو يفتح السائق نافذةَ السيارة ليطرقَ بيده على بابها كي يحيدوا عن الطريق .كلما أرى أحداً لا يمشي على الرصيف . أتوقّعُ أن يكون من عامودة .
وفي الصيف : يسرحُ في شوارعها المجانين . وهم كثر . تعتزُّ عامودة بهم . هم ثروتها ، ومنهم هوّارو الذي لم يكن منها . لكنّه أحبّها ، وهو يلبس لباس البيشمركة ، ويعلّقُ الرتب العسكرية ، وفيها أحمد دين وكثر . يمكنك محاورتهم والاستفادة منهم . كلّهم لديهم فلسفتهم .
منحتني عامودة جنسيتها ، وبعض جنونها .
توزّع شعراؤها في أنحاء العالم . وبقيت تنتجُ الكثير محلّياً .
هل كلّ تلك الأشياء أوهام من الماضي ؟
ربما كانت الحياةُ أقسى مما وصفتُ . لونتُها بمشاعري تجاه الأمكنة التي أحببتها ، مازالتِ الأماكنُ تتذكّرُني ، ومازال أهلُ عامودة والقامشلي والحسكة يبثّون محبتهم لي في المناسبات . هم يدركونَ أنّهم في قلبي باقون . . . . .
08-أيار-2021
04-تموز-2020 | |
19-كانون الثاني-2019 | |
10-كانون الأول-2015 | |
19-تشرين الثاني-2015 | |
05-تشرين الأول-2015 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |